في آخر تطورات المذبحة في الأرض المحتلة قامت مليشيات جيش الاحتلال
الصهيوني باقتحام الحرم الطبي في مستشفى الشفاء بغزة وهو رئة القطاع الطبية فقتلت
الأطباء والممرضين والمرضى ولم تستثن أحدا هناك. صور الأشلاء والجثث المتفحمة
والمتحللة تتجاوز القدرة على الوصف هذا دون احتساب من دفنوا أحياء تحت الانقاض
خلال عمليات القصف التي لم تتوقف.
فحسب تصريحات الطبيب النرويجي "مادس غيلبرت" إلى
"قناة الجزيرة" فقد "قتل جيش الاحتلال أكثر من 600 فرد من الطواقم الطبية في
غزة وحدها بينهم 147
من طواقم الأمم المتحدة وحدها ". أرقام مفزعة لم تحدث في حروب سابقة لكنها لم
تحرّك ساكنا للمجموعة الدولية المكلّفة بحماية الطواقم الطبية والبعثات الأممية.
بل إن مليشيات الاحتلال قصفت سيارة تابعة لمنظمة "المطبخ المركزي
العالمي" وقتلت سبعة من أفرادها من جنسيات غربية دون أن يشكل ذلك دافعا أمميا
لإيقاف المذبحة الجارية.
مجزرة المستشفيات
شكلت المؤسسات الطبية العاملة في القطاع منذ بدء العدوان على القطاع
هدفا أساسيا لجيش الاحتلال تحت ذرائع مختلفة أولها كانت اتهام المستشفيات بكونها
تأوي أنفاقا وقواعد للمقاومة. لكن مع فشل إثبات جيش الاحتلال كل ادعاءاته ومع غياب
أي رابط بين المقاومة من جهة والمؤسسات الطبية العاملة في القطاع واصل المحتل
هجماته العسكرية وقصفه العشوائي للمرضى والأطباء موقعا أعدادا كبيرة من الضحايا.
في مرحلة ثانية قامت وحدات مسلحة باقتحام عدد من المستشفيات وقتلت
مرضى ومصابين على أسرّة المستشفى في واحدة من أبشع جرائم العدوان بدعوى أنهم
مطلوبون لجيش الاحتلال. لكنّ المجازر داخل المؤسسات الطبية لم تتوقف إذ أعقبها قصف
يومي وقنص خارج المستشفيات وداخلها بما في ذلك سيارات الإسعاف وقوافل الإغاثة وخيم
اللاجئين داخلها وحولها وحتى قريبا منها.
لم يستطع أحد إيقاف المذبحة ولن يستطيع أحد ذلك لأن لا أحد من الفاعليين الدوليين له الرغبة أو القدرة على إيقافها بما في ذلك النظام الرسمي العربي نفسه. هنا يظهر الهدف الحقيقي من الجريمة نفسها التي تتم بمباركة دولية رغم كل أكاذيب الإدانة والتنديد والشجب والاستنكار.
إن قصف المستشفيات وقبلها المدارس والمساجد والمباني التاريخية
والجامعات والمؤسسات الأممية في غزة إنما يهدف إلى محو كل أسباب الحياة في القطاع
وجعل المنطقة غير قابلة للعيش مستقبلا. إن توحش آلة الموت لا يهدف فقط إلى الثأر
من ملحمة طوفان الأقصى بل يسعى أولا وقبل كل شيء إلى إبادة شعب غزة عبر إبادة كل
وسائل الحياة ومظاهرها هناك.
بناء على سلوك الاحتلال الإجرامي فإن كل سرديات التطبيع والتعايش
والسلام وحلّ الدولتين ليست سوى أكاذيب ومهدئات تمهيدا للتوطين والاستيطان وسلب
الأرض وتهجير ما تبقى من شعب
فلسطين. وليس التطبيع العربي الرسمي إلا مشاركة في
هذا المشروع الصهيوني النهائي بعد اتضاح وحدة الهدف والمشروع والمصير بين المحتل
وحارسه العربي.
الحصانة والإفلات من العقاب
لا يمكن أن يكون السلوك الإجرامي المفتوح لمليشيات الاحتلال فعلا
سويا من الناحية الأخلاقية أو العسكرية أو حتى الدفاعية بل إن التوصيف الوحيد
الموضوعي إنما يتعلق بحرب إبادة جماعية وتطهير عرقي لا خلاف ولا شك فيهما. فرغم
السعي الإعلامي المحموم لأذرع الاحتلال الإعلامية إلى منع تداول مصطلحي الإبادة
والتطهير العرقي في وسائل الإعلام العالمية إلا أن التوصيف القانوني الوحيد الممكن
هو هذا.
لا شك أن دولة الكيان على علم بنصوص القانون الدولي المتعلقة
بالمجازر وجرائم الإبادة ضد الانسانية والتهجير القسري والاغتيالات وجرائم
الحرب
والتطهير العرقي والإبادة والتي نصت عليها فصول كثيرة من القانون الدولي واللوائح
الأممية. إن أول معاهدة لحقوق الإنسان التي اعتمدها الجمعية العامة للأمم المتحدة
كانت سنة 1948 وهي "اتفاقية منع جرائم الإبادة الجماعية والمعاقبة
عليها" والتي تهدف إلى منع تجدد جرائم مشابهة لتلك التي وقعت خلال الحرب
العالمية الثانية. ففضلا عن توفير الاتفاقية لأول تعريف قانوني لجرائم الإبادة
الجماعية فإنها نصت على واجب الدول الأطراف في منع جريمة الإبادة الجماعية
والمعاقبة عليها كما تنص على ذلك المواد التسعة عشر من الاتفاقية. كما نصت
الاتفاقية على أنه لا يتمتع أي شخص بالحصانة ضد تهمة الإبادة الجماعية.
لكن كل هاته النصوص والبنود والمواد القانونية لم تثن العصابات
الصهيونية عن المضي قدما في جرائم الإبادة الجماعية في فلسطين طوال عقود مستندة
على حلفائها داخل المؤسسات الدولية وخاصة حق النقض الأمريكي الأوروبي. فلا منظمة
الصحية العالمية ولا محكمة العدل الدولية ولا مجلس الأمن ولا كل المؤسسات الأممية
قادرة اليوم على إيقاف الإبادة الجماعية التي تجري أمام أنظار العالم في غزة.
الحصيلة والدروس
يقف العالم اليوم عاجزا أمام نازية جديدة تمكنت من مفاصل القرار
الدولي ومن مؤسساته واتفاقياته وآلياته التنفيذية. فبعد قتل عشرات الشهود من
الصحفيين والمراسلين وبعد قنص الأطباء والموظفين الأمميين إضافة إلى آلاف الأطفال
والنساء والشيوخ ورغم كل الأدلة والشواهد والتقارير ومخاطر الانزلاق لا يظهر
المجتمع الدولي متفرجا على المذبحة عاجزا عن إيقافها بل يظهر مشاركا فعليا فيها
حريصا على أن تبلغ مُنتهاها وأهدافها الصهيونية.
لن يكون في مقدور الاحتلال الظفر بسياق إقليمي ودولي ملائم مثل ـ السياق الحالي الذي ألغى دور الشعوب ومجتمعاتها المدنية وقواها الحية ونخبها من معادلة الصراع مع الاحتلال.
لم يستطع أحد إيقاف المذبحة ولن يستطيع أحد ذلك لأن لا أحد من
الفاعليين الدوليين له الرغبة أو القدرة على إيقافها بما في ذلك النظام الرسمي
العربي نفسه. هنا يظهر الهدف الحقيقي من الجريمة نفسها التي تتم بمباركة دولية رغم
كل أكاذيب الإدانة والتنديد والشجب والاستنكار.
إن الهدف الأساسي للإبادة إنما يتمثل في إنهاء الوجود الفلسطيني في
كل فلسطين وليس في غزة وحدها والمرور إلى طور جديد من أطوار تصفية القضية
الفلسطينية بمباركة دولية ومشاركة عربية فعالة. لن يكون في مقدور الاحتلال الظفر
بسياق إقليمي ودولي ملائم مثل ـ السياق الحالي الذي ألغى دور الشعوب ومجتمعاتها
المدنية وقواها الحية ونخبها من معادلة الصراع مع الاحتلال. بل أوجد لأول مرة في
تاريخ هذا الصراع نخبا وأنظمة ومؤسسات عربية داعمة لمشروعه علنا وهو في نظرنا أحد
أهم الأسباب التي جرّأت الكيان على ارتكاب هذا الكمّ الهائل من الجرائم والمذابح.
لكن هذا السياق الجديد يبقى ككل سياق تاريخي مرهونا بثوابته
وبمتغيراته ولا شك أن ما أحدثه طوفان الأقصى من صدمة عالمية وما كشفه من معطيات
وأدلة سيشكل منعطفا تاريخيا في طبيعة المواجهة بين المحتل والمقاومة من جهة وبين
الاستبداد العربي وشعوبه من جهة ثانية. إن سياقا حضاريا جديدا هو بصدد التشكّل
أمام أعيننا مؤسَّسا على الوعي الجماهيري بجريمة الخذلان العربي والتواطؤ الدولي
والإجرام الصهيوني.
هكذا يكون مدى الإجرام الذي بلغته الإبادة في غزة لأول مرة في
تاريخها الحاضنة التي ستشكل الوعي الجديد بأكذوبة السلام وبأن الصراع مع المحتل
صراع وجود لا صراع حدود. بذلك تخلق الصهيونية دون وعي منها الشروط التي ستجعل من
استمرار وجودها في فلسطين أمرا مستحيل التنفيذ خاصة بعد أن تتهاوى أحزمتها الحارسة
في الإقليم إثر انكشاف دورها المركزي في مشروع الإبادة.