كتب

قراءة في انهيار الدولة العثمانية وأسباب أفول العالم الإسلامي

كتاب يروي القصة الكاملة للدولة الإسلامية من النشأة حتى انهيار الخلافة العثمانية.. (عربي21)

الكتاب: الصليبية والجهاد ـ حرب الألف سنة بين العالم الإسلامي وعالم الشمال
الكاتب: ويليام بولك، ترجمة د. عامر شيخوني، مراجعة د. عامر يحي الفَرَجِي
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى، أيار/مايو 2019،
(582 صفحة من القطع الكبير).

لحظة الاعداد للانقلاب العباسي اتسمت المعارضة بتحالف قوي بين العباسيين والعلويين (الشيعة). وكلاهما من بني هاشم، الذين جمعتهم المعارضة للأمويين والفرس. ولقد شكلت هذه القوى الأساسية الثلاث، العباسيون والشيعة، والفرس، أقوى معارضة للأمويين بهدف استرداد منصب الخلافة، وانتزاع السلطة. وكانت لكل من هذه القوى مواقعها، واستطاع العباسيون الاستفراد بالسلطة دون استبعاد فرق المعارضة من المجتمع. 

 

الكتلة التاريخية التي انتصرت 

قامت الثورة العباسية على أساس هذا التحالف السياسي العريض بين مختلف فرق المعارضة، وهذا ما جعل الجابري يقول "أمن الزوج: فرس/ عرب أو عرب/ عجم لا يستوعب ولا يستطيع أن يستوعب كلية الثورة العباسية. إنّ مفهوم الكتلة التاريخية هو في نظرنا، وحده القادر على التعبير عن القوى التي قامت بذلك الانقلاب التاريخي الذي أدى إلى سقوط دولة الأمويين وقيام دولة البعاسيين. والكتلة التاريخية لا تعني  مجرد تكتل أو تجمع قوى اجتماعية مختلفة. ولا مجرد تحالفها بل تعني كذلك التحام القوى الفكرية  المختلفة (الإيديولوجيات...) مع هذه القوى الاجتماعية وتحالفها من أجل قضية واحدة. إن الفكر يصبح هنا  جزءاً من بنية كلية وليس مجرد انعكاس أو تعبير عن بنية ما. ذلك ما حصل بالفعل: لقد شاركت الثورة العباسية جميع القوى الاجتماعية التي كانت لها مصلحة في التغيير: عرب/ موال، زعماء قبائل عربية، دهاقين الفرس، فلاحون، حرفيون/ تجار ضعفاء الناس، أغنياؤهم.. الخ والتحمت مع هذه القوى كل الأيديولوجيات المعارضة: ميثولوجيا الإمامة (الفكرية والعباسية) حركة التنوير، فقهاء... الخ.

لقد استطاعت الدعوة العباسية استقطاب جميع القوى المعارضة للأمويين من العرب، والموالي والدهاقين الفرس، من إقطاعيي الأرض وكبار الملاك، الذين أسلموا إسلاماً سياسياً للمحافظة على امتيازاتهم الطبقية، والذين تحولوا إلى جباة للخراج، وأصبحوا أدوات السلطة الأموية في نطاق سيطرتها على الفلاحين المزارعين، والعلويين. وهكذا كان استقطاب جماهير الموالي والشيعة، عندما أكدت الدعوة العباسية ونادت بالخلافة إلى الرضا من آل محمد، من غير تسمية أحد (وكان أبو مسلم يقول: إني رجل أدعو إلى الرضا من آل محمد، فهو داعية إلى رجل عباسي من بني هاشم) كما أكدت على المساواة بين المسلمين عرب/ عجم، والسير على الكتاب والسنة في الحكم، الأمر الذي مكنها من استقطاب رجال الدين من مختلف الفرق.. وهذا ما جعل الدعوة العباسية تبني كتلة تاريخية حقيقية من المعارضة للأمويين، خصوصاً عندما أصبحت فلسفة هذه الدعوة فيما يتعلق بالغنيمة، لم تعد تعني مجرد التوزيع العادل للفيء والعطاء بإشراك الجند من الموالي فيها، بل باتت تعني ايضاً إسقاط الجزية على كل من أسلم من العجم والعمل بما كان جارياً من قبل بالنسبة للعرب الذين امتلكوا أراضي الخراج، أي إعفاؤهم من ضريبة الخراج واعتبار أراضيهم هذه أراضي العشر. وهكذا أصبحت الغنيمة تعني المصلحة الاقتصادية لكل فئة من الفئات التي تضررت من السياسة المالية الأموية وتقلباتها.

 

عندما لم تكن مناطق استقرار الأوروبيين أكثر من قرى ريفية، كانت بغداد والقاهرة وقرطبة واشبيلية منارات حضارية تَشِعُ بالنور في ظلمات العالم


ولكن بعد انتصار العباسيين وتداعي الحكم الأموي، كيف نفسر استئثار هؤلاء العباسيين بالحكم والدولة التي تم بها هذا الاستئثار؟ اسْتُبْعِدَ الشيعة من السلطة ونُكِبَ البرامكة، واستبعدت العناصر الفارسية سياسياً في حين لم يستبعد العناصر الأجنبية من مؤسسات السلطة، ولاسيما في الجانب الإداري والثقافي. وعلى الرغم من الحلف الذي كان قائماً بين العباسيين والعلويين والاتفاق الذي تم بينهما على مبايعة محمد النفس الزكية بحضور السفاح والمنصور وغيرهما من آل العباس وموافقتهم - وكان محمد هذا، ابن عبد الله المحض، علوياً من سادات بني هاشم نبلاً وديناً وشجاعة وفصاحة.

العصر الذهبي للدولة الإسلامية القائمة على التعدد والاختلاف 

يقول الكاتب ويليام بولك: "قام العباسيون أيضا بتأسيس دولتهم المتطورة وخلافتهم القوية على ضفاف الفرات ودجلة، وبنوا سلسلة من المدن العظيمة، أشهرها بغداد التي تم تأسيسها بعد اثنتي عشرة سنة من ثورة أبي مسلم في 762، وحكموا منها امبراطورية امتدت أرجاؤها من البحر الأبيض المتوسط حتى نهر السند، ومن شبه الجزيرة العربية حتى حدود الصين. تعرف عليها الأوروبيون والأمريكان من خلال الحكايا الخيالية في "ألف ليلة وليلة". أما بالنسبة إلى سكان الجنوب العالمي فقد كانت تلك ذروة ازدهار حضارتهم، واعتقد المسلمون أن مجتمعات الخلافة الاسلامية في العصور الوسطى تمثل العالم كما تريده وتتمناه الشعوب المتحضرة"(ص54من الكتاب).

بين هاتين الخلافتين على طرفي البحر الأبيض المتوسط، الأندلسية في الغرب والعباسية في الشرق، ظهرت خلافة ثالثة فاطمية أسست نفسها في مصر في القرن العاشر، أسست شرعيتها، مثل هاتين الخلافتين، ومثل الدولة الإسلامية في هذه الأيام، على قرابتها من الرسول محمد، واشتقت اسمها من اسم فاطمة ابنة محمد. كان الذي يميز الخلافة الفاطمية عن الخلافتين السابقتين هو أنها كانت الخلافة المسلمة الشيعية الأولى، وأنها اعتمدت في قوتها على بربر شمال إفريقيا وليس على عرب آسيا. انتشر المذهب الشيعي بشكل واسع إلى جانب المذهب السني، وقابل البربر العرب وجهاً لوجه وسيفاً إلى سيف.

 

حيثما حل المسلمون أسسوا ما يسمونه "دار السلام" باحترام نسبي لتنوع الثقافات والأديان إلى حد لم تَتَخَيله أوروبا المسيحية.


ويرى الكاتب ويليام أنّ هذه الدول الثلاث، "بالإضافة إلى امبراطورية تانغ في الصين، أعظم المراكز الحضارية خلال العصور المظلمة التي سادت أوروبا، وشكلت ذروة الحضارة الإسلامية، تلهم الذكريات المثالية لتلك الفترة شعور الفخر والاعتزاز والأمل عند مسلمي هذه الأيام. فعندما لم تكن مناطق استقرار الأوروبيين أكثر من قرى ريفية، كانت بغداد والقاهرة وقرطبة واشبيلية منارات حضارية تَشِعُ بالنور في ظلمات العالم، وانتشر هذا النور على مرِّ القرون التالية إلى شنغهاي ودلهي وبخارى وسمرقند ونيسابور وهرات وأصفهان وشيراز وقونية واسطنبول وبالميرو وفاس وتيمبكتو. وحينما كان قليل من الأوروبيين يستطيعون القراءة، كانت هذه المدن تضم المكتبات والمدارس والمجتمعات القارئة. بل كان في بغداد صناعة متطورة لنشر الكتب استخدمت وصنعت الورق لول مرة خارج الصين حيث نشأ هذا الاختراع العظيم".

"حيثما حل المسلمون أسسوا ما يسمونه "دار السلام" باحترام نسبي لتنوع الثقافات والأديان إلى حد لم تَتَخَيله أوروبا المسيحية. فقد تعايش اليهود والمسيحيون والهندوس والبوذيون وأصحاب ديانات وأعراق أخرى جنباً إلى جنب في انسجام بالمقارنة مع العنف الدائم والتهديد المتكرر بالفصل العنصري الذي طالما وجد في أوروبا. تنقل الأوروبيون بحرية نسبياً بين المسلمين وأسسوا مراكز تجارية كادت أن تصبح في بعض الأحيان مستعمرات ومستوطنات حقيقية في أراضي المسلمين، بينما لم يتجرأ الرحالة المسلمون في أغلب الأحيان على السفر داخل أوروبا فيما عدا إسبانيا المسلمة. تم احتجاز اليهود في أوروبا داخل أحياء خاصة، بل وطردوا منها بين فترة وأخرى حتى إلى خارج المدن الجامعية "المتنورة"، مثلما حدث في كامبريدج سنة 1071، بينما كانوا يتنقلون بحرية نسبية في القاهرة وفاس، استطاع كبار الرحالة في العصور الوسطى، مثل ماركو بولو وابن بطوطة، أن يسافروا إلى الصين والهند ومصر، بينما لم يكن ماركو بولو آمناً سوى في البندقية"(ص ص 45 و55 من الكتاب").

 

المجتمع المديني الجديد في عهد الدولة المحمدية، الذي استمر لا حقا في عهد الامبراطورية العربية الإسلامية، هو مجتمع تعددي


منذ عصر الرسول محمد الذي عقد معاهدة مع غير المسلمين في المدينة، التي سميت بالصحيفة، وميزت بذلك المسلمين عن باقي الفئات التي لم تعتنق الإسلام، لأن هذه الروابط تقتصر على المسلمين ولا تشمل غيرهم، من الأوس وطائفة اليهود الذين يوالون المسلمين ويحاربون معهم، وإن كانوا لا ينتمون انتماء وثيقاً إلى الأمة الإسلامية، انتماء المهاجرين والأنصار، إذ أنّ درجة الانتماء إلى الأمة الإسلامية كما حددتها الصحيفة كانت تتفاوت بين طبقات سكان المدينة، فقد فرقت بين أصحاب الحق الكامل وبين غيرهم من تابع ونزيل. 

المجتمع المديني الجديد في عهد الدولة المحمدية، الذي استمر لا حقا في عهد الامبراطورية العربية الإسلامية، هو مجتمع تعددي، حيث تتعدد فيه علاقات الانتماء إلى الدين، وحيث أصبح الناس الذين يعيشون فيه تحكمهم علاقات انتماء جديدة، أنها علاقات انتماء إلى الوطن، الذي يحتم على كل المندمجين فيه رابطة الولاء الوطنية، وما يترتب عليها من حقوق الموالاة الوطنية، ومن تضامن المسلمين والمؤمنين على قاعدة تحقيق الوحدة الوطنية، في نطاق مواجهة التهديدات والاخطار الخارجية التي تهدد سلامة الدولة المحمدية في المدينة، التي هي في حالة حرب مع قريش.

لقد تطور في الإسلام نظام التعامل مع غير المسلمين. عاش اليهود والمسيحيون بصفتهم فئة محمية "أهل الذمة". وفيما عدا ما يتعلق بالأمور العسكرية، فقد سمح لكل من هذه الفئات أن تعيش وفق عاداتها أن تنظم طقوسها وتقاليدها وتحتفظ بمؤسساتها الدينية وتحكم نفسها حسب شرائعها. كما وزعت ضرائبها فيما بين أفرادها كما أرادت طالما أنها جمعت ما طلبته السلطات منها. وانْتَقَتْ كلُ جماعة دينية رؤساءها الذين يمثلونها لدى قيادات المجتمع الإسلامي. 

سيطرة السلاجقة الأتراك واندلاع الحروب الصليبية

إن انتقال الصراع الطبقي الثوري متمثلاً بهذه الثورات الثلاث (البابكيين، والزنج، والقرامطة) النابعة من الأطراف إلى قلب الدولة العباسية قد كان له إسقاطاته السلبية المدمرة على الأجهزة العسكرية والأنظمة المالية للنظام الاقتصادي الاجتماعي السياسي القائم. ولقد ترافق هذا الاهتزاز والتصدع للنظام، زيادة تغلغل الاتراك في مختلف مرافق الدولة مع ضعف سلطان الخلافة وتقويض دعائمها. وبذلك بدأت الفرقة المرتزقة من الاتراك هي المتحكمة في تصعيد الخلفاء وفي إسقاطهم، تماشياً مع مصالحهم. وكان المتوكل أول خليفة ارتقى سدة الخلافة بحراب القادة الأتراك في وجه معارضة رجال الدولة وبينهم القاضي الأكبر والوزير كما كان أول خليفة اغتاله أولئك القواد.

بدأ شعب جديد بالوصول إلى الشرق الأوسط في فترة الخلافة العباسية: أتراك آسيا الوسطى، جاؤوا حين بدأ الضعف والوهن يدب في أوصال سكان تلك المنطقة وصاروا لا يحبون الخدمة العسكرية.وكان الأتراك رجالاً أقوياء جدا انحدروا من سفوح وصحارى وسط آسيا وكأنهم ولدوا جنوداً مثل البدو في زمن الرسول محمد.

 

كان تأسيس السلطنة العثمانية في قونية قمة الإنجازات الحضارية للسلاجقة،


وصل الأتراك في بداية الأمر فرادى أو في مجموعات صغيرة، وعملوا حراساً وجنوداً، إلا أنهم سرعان ما انقلبوا على أسيادهم، مثلما فعل الحرس الامبراطوري في روما، وخلال سعيهم وراء السلطة والثروة دمروا في الواقع الخلافة العباسية، وانخفض دخلها سنة 900 إلى أقل من 3% أو 4% مما كان عليه قبل ذلك بمئة عام، وأصبح الخليفة مجرد رمز.

كان تأسيس السلطنة العثمانية في قونية قمة الإنجازات الحضارية للسلاجقة، يعرفها العرب باسم "أرض روم"، وفي الغرب باسم "تركيا"، وكلا الإسمين غير صحيحين فقد كانت السلطنة مزيجاً من الفلاحين البيزنطيين والأتراك والمغول والتركمان والأرمن والفرس والكورد والعرب، وكان أغلبهم مسلماً، أو أصبح مسلماً خلال حكم السلطنة.و لم يُرَحِّبْ الحكام باستخدام اللغة العربية، بل حاولوا أن يغيروا ثقافة رعيتهم إلى التركية. استجابت الطبقة الصغيرة من المتعلمين بانتاج أدب تركي، إلا أن جلال الدين الرومي الذي كان أعظم كتاب تلك الفترة لم يتبع حركة الاتجاه إلى التركية، بل كتب بالفارسية، وكان العالم الإسلامي قد أتجه إلى تعدد الثقافات منذ زمن بعيد. 

بدأت هجمات المسيحية على الدول المسلمة في إسبانيا، واستمرت مئات السنين، إلا أن أشهرها في الغرب وبين المسلمين كانت سلسلة الحملات المتكررة على المسلمين في سوريا وفلسطين ومصرإلى الجهة الأخرى من البحر المتوسط. أعلن البابا أوربان الثاني بدء أولى هذه الحملات خلال قدّاس في مدينة كليرمونت بفرنسا في نوفمبر 1095 استجابة لطلب الإمبراطور البيزنطي متطوعين أجانب لمحاربة الأتراك السلاجقة. وفجأة بعد قرون من اللامبالاة، اكتشف حكام أوروبا المسيحيون أن "الأرض المقدسة" قد احتلها المسلمون، وأن الوقت قد أصبح ملائما للتراجع عن الخمول السابق، فقد ظهر حماس الإمبراطور البيزنطي لطلب المساعدة، وبدأ الضعف يدب في أوصال الخلافة الفاطمية في القاهرة، وكانت سواحل شرق المتوسط منقسمة بين أمراء حرب مختلفين.
    
في الوقت نفسه جاء إلى أوروبا غزو النورمانديين، وبررت طبقة الجرمان المحاربين الذين قدموا فيضاً غزيراً من الفرسان الذين كانوا يفخرون بأنفسهم وقوتهم، إلا أنهم كانوا فقرا ء ومتعطشين للسلطة ومستعدين للنهب والسلب ولإجابة نداء البابا أوربان. بعد أن تشبعوا بحماسته، وبدافعٍ من غاياتهم الدنيوية الخاصة، أعلنوا إخلاصهم في سبيل تحرير الأرض المقدسة وانطلقوا في حملات عنيفة على اليهود الضعفاء في أحيائهم المنعزلة في أوروبا.

عادت الدولة التي أسسها الصليبيون في مجتمعات المسيحيين الشرقيين ومسلمي الشرق الأوسط وانتهجت بالتدريج سلوكاً أكثر هدوءاً، إلا أن الصليبين أنفسهم كانوا يُعْتَبرون دائماً قساةً غلاظاً وبرابرة قذرين غير متحضرين. 

 

كان المغول في زمن هولاكو معادين للإسلام، وتحول كثير منهم إليه في القرون التالية.


بينما كان المسيحيون والمسلمون يتقاتلون للسيطرة على فلسطين، بدأت قبائل تركية ومغولية في المناطق البعيدة من وسط وشرق آسيا تتمتع وتشكل تحالفاً قوياً بقيادة رجل ربما كان أعظم القادة والفاتحين في التاريخ، وفي جيل واحد دفع جنكيزخان جيوشه عبر آسيا في غزو كان أكبر حتى من الفتوحات العربية العظيمة، فتغلب على الصين وجميع مناطق ما أصبح يعرف بالاتحاد السوفييتي في القرن العشرين، وغزا الشرق الأوسط تاركاً وراءه أثراً طويلاً من الدمار الشامل. 

دمّر المغول المدن الإسلامية واحدة تلو الأخرى في وسط آسيا، وعَبَرُوا إيران إلى كشمير جنوباً وإلى العراق وسورية وكورديستان في الشرق. وحطموا المجتمع الإسلامي حيثما حلوا. وفي سنة 1258 أحرق هولاكوخان، حفيد جنكيزخان، المدينة العظيمة بغداد وقتل مئات الآلاف من سكانها بمن فيهم الخليفة العباسي نفسه. تُشْبِهُ العراق وسورية في تلك السنوات ما نراه فيهما الآن من الدمار، وعاش من بقي منهم حياً في الحالة ذاتها من البؤس والشقاء.

 

أيقظت مدافع نابليون المجتمع العربي الإسلامي على قوة غازية، وحضارية جديدة مجتمع حديث.


كان المغول في زمن هولاكو معادين للإسلام، وتحول كثير منهم إليه في القرون التالية. كانوا بعيدين عن ديارهم، ولذا فقد ضموا إلى صفوفهم كلما اتجهوا غرباً جماعات مختلفة من المسيحيين في مناطق قزوين والأناضول، والصليبيين الذين كانوا في انطاكيا، وتمكنوا بمساعدة الصليبيين من احتلال حلب ثم دمشق، ولم يتبق من القوة الإسلامية في الشرق الأوسط سوى ما كان موجوداً منها في مصر. 

مع هذه الوضعية بسقوط المعتزلة، بدأت سيرورة انهيار الامبراطوريات العربية الإسلامية والانحطاط، التي طالت مختلف نواحي الحياة، واستمرت نحو ألف عام أو ينوف، فانفجر بذلك  المجتمع المدني من داخله، وتحول إلى بنى اجتماعية منغلقة على ذاتها، ومتحاجزة مع سواها. ومع بداية تفكك الامبراطورية العثمانية متعددة القوميات، وظهور المسألة الشرقية على مسرح الصراع والمواجهات المتعددة الأقطاب بين الدول الأوروبية العظمى من جهة، والأمة التركية والأمم التي كانت تحت حكمها من جهة أخرى، أيقظت مدافع نابليون المجتمع العربي الإسلامي على قوة غازية، وحضارية جديدة مجتمع  حديث.

ولا شك أن حملة نابليون على مصر (1798 ـ 1801)  باعتبارها أكثر الأقطار العربية تقدماً، حيث كانت مهيأة أكثر من سواها لخوض الصراع ضد الإقطاعية، كانت تدخل في نطاق المنافسات والصراع الدولي المحتدم، على مراكز القوة في الشرق فيما بين الدول الأوروبية الحديثة، وبخاصة منها البريطانية والفرنسية، الساعية، دوماً وراء التوازن وإعادة التوازن، ومن أجل السيادة العالمية."وكانت الامبراطورية العثمانية في هذا الصراع من أجل السيادة العالمية الورقة الرابحة الرئيسية التي يعزم نابليون على انتزاعها من أيدي الانكليز. ببعد النظر الذي  كان يتصف به قرر نابليون فتح مصر بالدرجة الأولى، إذ كانت إحدى ممتلكات السلطان الأكثر تطوراً وغنى. 

لقد واجه المجتمع العربي المتخلف الصدمة الكولونيالية التي قادها نابليون وهو في حالة تخثر، وهو الأمر الذي جعل نابليون يقدم خطاباً ديماغوجياً ومخادعاً، متذرعاً باحتلال مصر من أنه للاقتصاص من  المماليك، ومقدماً نفسه على أنه صديق للسلطان التركي. ولقد استهل نابليون نداءه بالآيات القرآنية التقليدية بسم الله الرحمن الرحيم: لا الله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في ملكه، ثم يستطرد قائلاً، من طرف الفرنساوية المبني على الحرية والتسوية.

 

إقرأ أيضا: ظهور الإسلام وقيام الدولة المحمدية.. معطيات تاريخية

 

إقرأ أيضا: الإسلام السياسي من الخلافة إلى الدولة.. قراءة تاريخية