كتاب عربي 21

وصاية دولية على المقاس الإسرائيلي.. قراءة في القرار الأمريكي/ الدولي لتصفية فلسطين

ساري عرابي
"منح إسرائيل الحق في احتلال أجزاء من غزّة بلا نهاية واضحة"- جيتي
"منح إسرائيل الحق في احتلال أجزاء من غزّة بلا نهاية واضحة"- جيتي
تحيي الأمم المتحدة عبر مجلس الأمن، وبدعم من الدول العربية، نظام الوصاية من جديد، باعتماد مشروع قرار أمريكي يفرض مجلسا للسلام لإدارة قطاع غزّة، ويتمتع بقوة إنفاذ مسلحة في إطار صلاحيات مجلس السلام. هدف مجلس السلام هذا بقوّته المسلحة، نزع سلاح المقاومة، وتدمير بناها التحتية، التي سماها بنى إرهابية، وتنظيم الانسحاب الإسرائيلي طويل الأمد من قطاع غزّة؛ وفق الرضا الإسرائيلي عن مستوى عمليات التدمير الممنهج للمقاومة في غزة، مع ضمان استمرار الاحتلال الإسرائيلي لما سماه القرار بالمحيط الأمني، الذي لا تحكمه أيّ أجندة واضحة لإنهائه، سوى القول إنّه "سيظل قائما إلى حين تأمين غزة على نحوٍ كافٍ من أي تهديد إرهابي متجدد"، مما يعني منح "إسرائيل" الحق في احتلال أجزاء من غزّة بلا نهاية واضحة.

ترتيبات الانسحاب مشروطة بالتقييم الإسرائيلي، والقوّة التابعة لمجلس السلام مشروطة بالعمل مع "إسرائيل" ومصر، وبالضرورة فإنّ القوة الشُرطية الفلسطينية، المزمع إنشاؤها، ستكون خاضعة للمنظومة نفسها، بما في ذلك لمبدأ العمل مع "إسرائيل".

ترتيبات الانسحاب مشروطة بالتقييم الإسرائيلي، والقوّة التابعة لمجلس السلام مشروطة بالعمل مع "إسرائيل" ومصر، وبالضرورة فإنّ القوة الشُرطية الفلسطينية، المزمع إنشاؤها، ستكون خاضعة للمنظومة نفسها، بما في ذلك لمبدأ العمل مع "إسرائيل"

القرار يفرض الوصاية على مجال السلطة الفلسطينية كله لا على غزة، إذ يربط استئناف أيّ مسار سياسي بالإصلاحات المطلوبة من السلطة، ويجعل هذا الاستئناف غير مؤكد بحسب صيغة القرار التي كانت بهذا النحو: "وبعد تنفيذ برنامج إصلاح السلطة الفلسطينية على نحوٍ أمين وتقدّم أعمال إعادة تطوير غزة، قد تتوافر الشروط أخيرا لبلورة مسار موثوق نحو تقرير المصير وقيام دولة فلسطينية". وهذا المسار غير المؤكد استئنافه، حتى بعد حصول شروطه: "تنفيذ السلطة لبرنامج الإصلاح المطلوب منها، وتقدم إعادة تطوير غزة"؛ يستند في مرجعياته إلى خطة ترامب لعام 2020، التي سميت إعلاميّا "خطة القرن"، وهي الخطة التي رفضتها السلطة الفلسطينية في حينه، والمقترح السعودي الفرنسي، وبالرغم من ذلك فإنّ سفير الجزائر في الأمم المتحدة، وهي عضو مؤقت في مجلس الأمن، وممثل للمجموعة العربية، تحدث عن تعديلات عربية على القرار الأمريكي وصفها بأنها "تعديلات أساسية لضمان التوازن والنزاهة في النص"، منوها إلى دعم الدول العربية والإسلامية ودعم السلطة الفلسطينية لهذا القرار.

التعديلات العربية لا تطال أبدا المقترح الأمريكي بخصوص تصفية المقاومة في قطاع غزة، وتثبيت الهيمنة الإسرائيلية على قرارات مجلس السلام والقوّة المسلحة الملحقة به، وترتيب الانسحاب الإسرائيلي المنقوص وفق القناعات الإسرائيلية، ولكنه بالدرجة الأولى يتعلق بتضمين القرار نصوصا عن خطة سلام وعن تقرير المصير والدولة الفلسطينية، دون أن تتسم هذه النصوص بالجزم والإلزام، مع جعل الأمر محتملا، ومنوطا بالالتزام الفلسطيني بقرارات الوصاية الدولية، وهو الأمر الذي تحكم فيه "إسرائيل" حصرا، مما يجعل هذا التضمين كله محض شكليّ، وبما يحسّن الصورة العربية عند موافقتها على قرار من هذا النوع، ويحقق الغرض العربي/ الإسرائيلي المشترك بتصفية المقاومة في غزة، وهو قرار بالضرورة تدعمه باكستان، العضو المؤقت الآن في مجلس الأمن، وإحدى الدول الثماني الداعمة لخطة ترامب الأصلية، وإندونيسيا وهي واحدة من تلك الدول الثماني، وكذلك تركيا.

إنّ أحسن ما تمكنت الدول العربية والإسلامية مجتمعة من الوصول إليه هو تصفية المقاومة في قطاع غزة، بقرار دولي، وفي هذه الحالة ستُعزل المقاومة إقليميّا ودوليّا إن عاندت هذا القرار الدولي، وذلك بعد سنتين من الإبادة الواقعة على جميع الغزيين، وسنتين من الصمود الأسطوري للمقاومة الغزية المحاصرة، التي كانت بمجرد هذا الصمود تفيد الدول العربية والإسلامية بأنّ بالإمكان رفض الاستسلام للإبادة الإسرائيلية، ورفض الخضوع للهيمنة الأمريكية. بيد أنّ الواقع العربي والإسلامي كانت استفادته من الإبادة، والمقاومة الصامدة في قلبها؛ هي العكس تماما، فقد اتجه إلى تصفية المقاومة، وفصل قطاع غزّة عن الضفة الغربية، مقابل وقف الإبادة.

ما تمكنت الدول العربية والإسلامية مجتمعة من الوصول إليه هو تصفية المقاومة في قطاع غزة، بقرار دولي، وفي هذه الحالة ستُعزل المقاومة إقليميّا ودوليّا إن عاندت هذا القرار الدولي، وذلك بعد سنتين من الإبادة الواقعة على جميع الغزيين

منذ طرح ترامب خطته في أيلول/ سبتمبر الماضي لوقف الإبادة في غزة وتبنيها من الدول العربية والإسلامية الثماني، والمسار معلوم المآل، وخطته هذه هي مرجعية التنفيذ لمجلس السلام وقوته المسلحة بحسب القرار الأمريكي الذي جرى إقراره أخيرا في مجلس الأمن. لكن ومع وضوح هذا الأمر -أي تراوح الموقف العربي/ الإسلامي بين العجز والتواطؤ- فقد تفاخرت دول عربية وإسلامية بدعمها للشعب الفلسطيني، وجهودها للتصدي لـ"إسرائيل" أثناء الإبادة، وتجند لترويج هذا الفخر العديد من الشخصيات والكيانات، وهو ما كان واضحا في الدعاية المصرية بخصوص مؤتمر "شرم الشيخ"، أو الدعاية السعودية بخصوص المقترح السعودي/ الفرنسي، أو الدعاية التركية التي تجد عادة في أوساط العرب والإسلاميين من يتكفل بالترويج لها. ومن اللافت أن تركيا دخلت متأخرة إلى صفّ الوساطة، مما يعني أنها ساهمت، مقابل مكاسب تحصلها لذاتها، في تسهيل تمرير الخطة الأمريكية على الفلسطينيين.

بالضرورة يتأكد التواطؤ الآن بدعم قرار مجلس الأمن، بحيث يبدو أنّ الغالب على الدول العربية والإسلامية المراوحة في نواياها بين الرغبة في التخلص من المقاومة في فلسطين، حيث إنّ الأمر ليس منحصرا في غزة، وإخراج الموضوع الفلسطيني من الاهتمام الجدّي، وأنّ رضا الولايات المتحدة وإراحة الرأس من هذا الضجيج أهمّ من حقوق الفلسطينيين وآلامهم وأوجاعهم.

لكن وبما أنّ ثمّة مراجعة عكسية لعملية السابع من أكتوبر، بسبب الإبادة التي اقترفتها "إسرائيل" والمآلات السياسية محلّ الحديث، وبنحو يعزز مواقع السلطات السياسية في البلاد العربية؛ بحيث تتطابق في هذه البلاد السلطة مع الدولة، فإنّ ما ينبغي قوله، ليس فقط إنّه لولا هذه المراوحة ما بين العجز والتواطؤ ما كان أبدا لهذه المآلات أن تكون بهذا النحو، بل أيضا الطعن في شرعية هذه السلطات المتعاقبة على هذه الدول، لأنّها لم تنجح طوال عقود في أن تؤسس لنفسها ذوات إمّا متحررة بقدر معقول من الهيمنة الأمريكية، وإمّا قادرة على الفعل، وهو ما يعود بالتحليل إلى القول إنّ هذه الدول بسلطاتها المتعاقبة عليها؛ ما تزال في طور الحالة الاستعمارية بالفعل والخضوع والوكالة.

x.com/sariorabi
التعليقات (0)

خبر عاجل