تؤكد "إسرائيل" ما كان متوقعا من كونها لن تلتزم بالاستحقاقات المترتبة
عليها في هذه المرحلة من اتفاق وقف الإبادة، وأنّها سوف تحوّل هذه الاستحقاقات إلى
أدوات لنمط آخر من الحرب، علاوة على الابتزاز السياسي والضغط على الفلسطينيين في
قطاع غزّة. فبينما يحتاج القطاع إلى دخول 600 شاحنة مساعدات يوميّا، فإنّ الذي
سمحت "إسرائيل" بدخوله لم يتجاوز الـ1000 شاحنة منذ بدء وقف إطلاق النار
في 10 تشرين الأول/ أكتوبر وحتى 26 الشهر نفسه؛ بحسب تصريحات منسقة منظمة أطباء
بلا حدود في
غزة، كارولين وِلمِن. وقد ارتقى منذ وقف إطلاق النار وحتى 27 من الشهر
نفسه 93 شهيدا فلسطينيّا إلى جانب 324 جريحا. وهذه المشهدية قد تكون هي الحاكمة
للمرحلة القادمة، سواء بغرض تعزيز سياسات الابتزاز السياسي لأجل تصميم المرحلة
الثانية من الاتفاق على المقاس الإسرائيلي، أو حتى بعد ذلك بغرض تأكيد الهيمنة
الأمنية الإسرائيلية على قطاع غزّة، بالنحو الملاحظ في الضفة الغربية ولبنان
وسوريا.
هذه
الفترة التي تجاوزت الأسبوعين، لم يُسمع فيها كبير صوت للوسطاء، والضامن الأمريكي
فيها يطلق بين فترة وأخرى تهديداته المعتادة لحركة حماس، مع تركيز جانب من الإعلام
العربي ومثقفيه ومحلليه، كالمعتاد كذلك، على خلافات مزعومة بين البيت الأبيض
وحكومة بنيامين
نتنياهو، في مدّ لخط عجائبيّ متصل منذ بداية الإبادة الجماعية على
قطاع غزّة وحتى إبرام هذا الاتفاق الأخير. فعلى طول سنتي الإبادة ثمّة رغبة جامحة،
غريبة الدوافع، للتركيز على هذا التباين المزعوم الذي كانت تكذّبه الوقائع اليومية
من الدعم الأمريكي المفتوح للإبادة، باستثناء خطوة إدارة بايدن الرمزية بوقف شحنة
نوع خاص من القنابل، وتراجعها عن فرض عقوبات على سموتريتش وبن غفير وكتيبة
"نيتساح يهودا" في جيش الاحتلال،
العام 2025 كان فرصة إضافية منحتها "إسرائيل" لنفسها بدعم من إدارة ترامب، لتحسين الفرص والشروط الإسرائيلية لوقف الإبادة (وليس وقف الحرب)، وهذه الفرص تجلّت في النمط الإبادي التالي على التنصل من اتفاق كانون الثاني/ يناير، وفي النمط الإبادي التالي على الانسحاب من مفاوضات تموز/ يوليو
وكلّ ما فعلته سوى ذلك حماية الإبادة
وتغطيتها والدفاع عنها وتمويلها ودعمها، بل إنّها تجاوزت الكونجرس عدّة مرات في
توريدها الأسلحة لـ"إسرائيل" أثناء الإبادة، وظلت تفاصيل هذه الشحنات
غامضة. وقد نشر معهد واتسون الأمريكي، التابع لجامعة "براون"، بعد عام
واحد على الإبادة الجماعية، ورقة بحثية تفيد بأن واشنطن تكفلت بـ 70 في المئة من
تكلفة الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان! (الحديث عن جانب من الإعلام العربي، لأنّ
الجانب الآخر مصطف في محور الإبادة).
وأمّا
إدارة
ترامب فماذا فعلت أصلا سوى أنّها سمحت للاحتلال بالتنصل من اتفاق وقف إطلاق
النار الموقع في كانون الثاني/ يناير واستئناف الإبادة الجماعية، وتاليا الانسحاب
من مفاوضات الدوحة في تموز/ يوليو، ثمّ تجديد الإبادة فيما سمّتها المؤسسة
العسكرية الإسرائيلية "عملية عربات جدعون 2"؟
إنّ
الاتفاق الأخير لا يمكن فصله عن هذا المسار الذي تبنّته إدارة ترامب، فقد أتاحت لـ"إسرائيل"
تعزيز فرصها بالإبادة بالتنصل من اتفاق كانون الثاني/ يناير والذي نصّ البند
الأوّل من إجراءات تنفيذه: "إنّ جميع الإجراءات في المرحلة الأولى ستستمر في
المرحلة الثانية ما دامت المفاوضات بشأن شروط تنفيذ المرحلة الثانية مستمرة،
والضامنون لهذا الاتفاق سيعملون على ضمان استمرار المفاوضات حتى الوصول إلى
اتفاق"، ولم يقل الضامنون لماذا لم يضمنوا ذلك، ولم يقل ستيف ويتكوف، المبعوث
الخاص للولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط، لماذا انسحب من مفاوضات الدوحة في تموز/
يوليو بالرغم من تصريحاته وتصريحات رئيسه عن التقدم الحاصل في تلك المفاوضات!
بعد
الانسحاب من مفاوضات تموز/ يوليو تعاضدت التسريبات الإسرائيلية على أمرين يبدوان
متوازيين، ولكنهما في الحقيقة متضافران تماما، وهما البدء بالاستعداد في عملية
جديدة في إطار الإبادة، تهدف إلى احتلال مدينة غزة وتدميرها وتهجير أهلها بالنحو
نفسه الذي حصل في مدن القطاع الأخرى في "عمليات عربات جدعون"، وتفضيل
بنيامين نتنياهو صفقة شاملة، وبدا الأمر الثاني، أي الصفقة الشاملة، غريبا، لتفضيل
نتنياهو السابق الصفقات الجزئية، وبدأ الإعلام الإسرائيلي يتحدث عن خطوط محتملة
لهذه الصفقة الشاملة، وهذا كلّه قبل شهور من خطة ترامب التي حملت هذه الخطوط
بالفعل!
يمكن
القول إنّ العام 2025 كان فرصة إضافية منحتها "إسرائيل" لنفسها بدعم من
إدارة ترامب، لتحسين الفرص والشروط الإسرائيلية لوقف الإبادة (وليس وقف الحرب)،
وهذه الفرص تجلّت في النمط الإبادي التالي على التنصل من اتفاق كانون الثاني/
يناير، وفي النمط الإبادي التالي على الانسحاب من مفاوضات تموز/ يوليو، والمستند
إلى "عمليات عربات جدعون 2"، مع ما تخلل ذلك من سياسات تجويع شاملة،
وتعزيز للمليشيات العميلة التي ما تزال تعمل في أربع مناطق في قطاع غزّة حتى الآن،
وقد تحظى أبرزها في إطار الخطة الأمريكية/ الإسرائيلية المدعومة من دول عربية (في
منطقة رفح)، بأن تكون نموذج بدء إعادة الإعمار وفق الإشراف الأمريكي/ الإسرائيلي.
الذي
حصل أنّ الصفقات الجزئية كان من شأنها أن تطيل الحرب، التي طالت أكثر مما ينبغي
أمريكيّا وإسرائيليّا، وذلك لأنّ آلة الإبادة والتدمير الجبارة لم تتمكن من إخضاع
المقاومة، ولا فرض التهجير، وقد نجم عن ذلك انكشاف إسرائيلي هائل في العالم، صارت
له انعكاسات رسمية في بعض الدول، بما في ذلك الغرب، (طبعا ينبغي استثناء الدول
العربية المطبعة التي لم تتأثر شعرة واحدة بذلك كلّه)، فلكلّ شيء نهاية وشروط
موضوعية للاستمرار، فلا قدرة مطلقة مهما اتسمت بالقوّة الهائلة. هذا الطول كذلك
بالضرورة انعكس على الظرف الإسرائيلي الداخلي سياسيّا واجتماعيّا واقتصاديّا، ممّا
حوّل موقف نتنياهو نفسه نحو السعي إلى صفقة شاملة، ولكن دون تقديم تنازلات
إسرائيلية جوهرية مبدئية غير مشروطة.
بالإضافة إلى الدول العربية المعنية بالملف الفلسطيني، وتركيا، اختار ترامب باكستان وإندونيسيا لحجمهما الكبير، لتبدو الموافقة على الخطة موافقة من مليار مسلم في العالم! (عدد سكان الدول الثماني التي اختارها ترامب لتبنّي خطته أكثر من 800 مليون)، والغرض من ذلك إظهار حماس في موقف المعزول في حال لم توافق على هذه الخطة
هذه
الصفقة الشاملة المرادة إسرائيليّا استندت إلى حملة الإبادة المتجددة على قطاع
غزّة المسماة "عملية عربات جدعون 2"، كي تصير هذه الحملة عامل تأثير في
تفكير صانع القرار الفلسطيني، علاوة على دورها في الضغط على الرأي العام الفلسطيني
في غزة المتعرض للإبادة المستمرّة، بل في كلّ مكان، بحيث يصير مجرّد وقف الإبادة
مكسبا فلسطينيّا في إطار موازين القوى التي انتهت بالكامل لصالح
"إسرائيل"، بعد تآكل جميع الرهانات الفلسطينية أثناء الصمود الغزّي
الأسطوري في غمرة الإبادة.
ولأنّ
الأمر في هذا الحدّ غير كاف لتحقيق غرضه، فكان لا بدّ من خطّة يجري تقديمها بوصفها
الفرصة الأخيرة؛ تعرض وقف الإبادة مقابل تسليم جميع الأسرى الإسرائيليين لدى
المقاومة، ولضمان نجاعة الخطّة، فلا بدّ من تغطيتها عربيّا وإسلاميّا، وهو ما حصل
بالموافقة العربية/ الإسلامية عليها، من خلال دول مختارة بعناية، فبالإضافة إلى
الدول العربية المعنية بالملف الفلسطيني، وتركيا، اختار ترامب باكستان وإندونيسيا
لحجمهما الكبير، لتبدو الموافقة على الخطة موافقة من مليار مسلم في العالم! (عدد
سكان الدول الثماني التي اختارها ترامب لتبنّي خطته أكثر من 800 مليون)، والغرض من
ذلك إظهار حماس في موقف المعزول في حال لم توافق على هذه الخطة، والمنبوذ في
البلاد العربية والإسلامية بما في ذلك الدول التي توصف بأنها حليفة أو صديقة لها،
وهو وصف فيه الكثير من المبالغة الساذجة، ولذلك تفاخر نتنياهو بعد ذلك بقوله:
"أرادوا عزلنا فعزلناهم"!
لم
يكن بمقدور حماس بعد ذلك، ومعها بقية فصائل المقاومة، إلا المناورة في مواجهة هذه
الخطة، بالنحو الذي أجابت به الحركة عليها، لكن هذا التحول في مسار الحرب، من
الإبادة إلى شكلها الحالي، لم ينجم عن تباين أمريكي إسرائيلي، أو عن ضغط أمريكي
على نتنياهو، وإنما بناء على ترتيب مشترك لوضع نهاية لنمط من الحرب بدا أبديّا
وبلا أفق في ظرف لم يعد مواتيا لذلك.
x.com/sariorabi