كتب

هشام جعيط.. كتب بالفرنسية عن تاريخنا الإسلامي ونقلته مطابع بيروت للعالم العربي

إن تأثر جعيط بروايات جان بول سارتر ومؤلفاته الفلسفية جعله وجوديًّا بالمعنى الفلسفي، وإنه لم يتأثر كثيرًا بفوكو وألتوسير وليفي ستروس وأمثالهم من الذين ذاعت شهرتهم في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته..
إن تأثر جعيط بروايات جان بول سارتر ومؤلفاته الفلسفية جعله وجوديًّا بالمعنى الفلسفي، وإنه لم يتأثر كثيرًا بفوكو وألتوسير وليفي ستروس وأمثالهم من الذين ذاعت شهرتهم في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته..
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب "هشام جعيط: حوار في الفكر والتاريخ والسيرة"، وهو سلسلة لقاءات مع المفكر والمؤرخ التونسي هشام جعيط أُجريت في عام 2018، موزعة على أربعة فصول، وقد مُهّد لها بمقدمة وخُتمت بببليوغرافيا كتب جعيط ومقالاته، ثم مسرد زمني لمحطات من تاريخه وسيرته الذاتية.

مؤلف هذا الكتاب هو الصحافي المصري كارم يحيى، وكتب مقدمته الدكتور خالد زيادة، المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ـ فرع بيروت. ويقع الكتاب في 208 صفحات، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.

وقدم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تعريفا موجزا لكتاب هشام جعيط: حوار في الفكر والتاريخ والسيرة، باعتباره حصيلة لقاءات (من 8 شباط/ فبراير إلى 5 أيار/ مايو 2018) مع جعيط، العلَّامة في الثقافة العربية، خصوصًا مع تحولات تونس ما بعد الثورة سياسيًّا ومجتمعيًّا وثقافيًّا وفكريًّا. وقد وصلت أصداء أعماله ومؤلفاته وكتاباته إلى المشرق العربي. أجرى هذه اللقاءات كارم يحيى خلال إقامته في تونس عامًا ونصف العام، فبعد أن كانت النيةُ بدايةً جلسةَ حوار صحافية واحدة ما لبثت أن امتدت إلى سلسلة لقاءات مكثفة، بمعدل حوار كل أسبوع، طوال ثلاثة أشهر متتابعة.

كانت بدايات تعرُّف يحيى إلى جعيط في ندوة عقدها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تونس في شباط/ فبراير 2018 لمناسبة إصدار مؤلف جماعي عن أعمال جعيط بعنوان جدل الهوية والتاريخ: قراءات نقدية في مباحث الدكتور هشام جعيط، لتتوطد العلاقة بين الرجلين بعد ذلك حتى وصلت إلى الحوار المسطور في هذا الكتاب الذي يصفه يحيى بأنه فتح أمامه آفاق تجربة ثقافية تفاعلية ثرية أتاحت له قراءة أعماله المتوافرة بالعربية جميعها تقريبًا، مستخرجًا أسئلة وملاحظات وعائدًا بها إلى مؤلفها للنقاش، ثم إنها كانت تستولد أيضًا ملاحظات وأسئلة أخرى، فيعود لاختبارها في نصوص جعيط الورقية أو الأرشيفات أو المكتبة الوطنية في تونس بحثًا عن مقالاته في مجلة الفكر، ومن ثمّ تتولد ملاحظات وأسئلة أخرى ... إلخ.

ويضيف يحيى أن المصادفة خلال إجراء هذه الحوارات أدت دورًا مهمًّا في زيادة معرفته بالكاتب الكبير، وذلك حين حضر في 4 نيسان/ أبريل 2018 وقائع تكريمه في جامعة تونس وإطلاقها اسمه على مدرج في كلية العلوم الإنسانية بجامعة 9 أفريل بمبادرة من معهد العالم العربي في باريس.

بدايات المنتوج الفكري

بالرغم من أن المطابع الفرنسية كانت هي التي سلّطت الضوء على أول مؤلفات جعيط الشخصية والصيرورة الإسلامية العربية La Personnalité et le devenir arabo-islamique (بسبب اضطراره بعد عام 1968 إلى مغادرة تونس لعلاقته المتوترة بالرئيس الحبيب بورقيبة إلى فرنسا والعيش والتدريس فيها، وهناك اكتسب الثقافة الأوروبية واطّلع على الاتجاهات المعاصرة في الفلسفة وعلم النفس والاقتصاد)، فإن قيمة هذا الباحث وتقديره سرعان ما وصلا إلى القارئ العربي بفضل مطابع بيروت، التي دارت بمؤلفاته ترجمةً ونشرًا (إضافة إلى مؤلفات مثقفين مغاربة آخرين)، ومنها في عام 1971 الأيديولوجية العربية المعاصرة (كان عنوان النسخة الفرنسية الصادرة في عام 1967 L'idéologie arabe contemporaine)، في حين طالع قرّاء الصحف مقالاته في الثمانينيات في مجلة اليوم السابع، التي غزت مدن مشرق العالم العربي ومغربه.

يقدم للقارئ ما يمكن اعتباره "دراسة حالة" لمثقف يبدو في الوهلة الأولى "محافظًا" لكنه يبحث، ممتلكًا الثقافتين العربية ـ الإسلامية، والأوروبية ـ الغربية، عن توازن بين التراث والحداثة، والعروبة والإسلام وأوروبا، وما كان والراهن وما سيأتي، والذات والآخر ... إلخ.
والكتاب الثاني الذي نشره جعيط (عن دار "سوي" Seuil عام 1978، ثم طبَعَتْه دار الطليعة بالعربية عام 1995) هو أوروبا والإسلام L’Europe et l’Islam، وهو يبحث - بالعودة إلى هيغل وشبنغلر وسواهما - في الثقافة الأوروبية وفكرة الترابط بين أوروبا والإسلام، باعتبار أن أوروبا لم يكن بإمكانها أن تكون إلا بالإسلام، على عكس التيار السائد آنذاك، الذي انتمى إليه إدوارد سعيد، والذي لقي كتابه الاستشراق (صدر مع كتاب أوروبا والإسلام) صدًى كبيرًا، على عكس كتاب جعيط؛ لأنه ركّز على نقد أوروبا الاستعمارية، واتّهم الاستشراق بأنّه في خدمة الاستعمار الأوروبي وصنع صورة زائفة عن الشرق، في حين كان رأي جعيط أن الاستشراق ليس متورطًا كله في صنع صورة مشوّهة عن الشرق، وما إشراف أحد أكبر المستشرقين، وهو كلود كاهان، على أطروحته لنيل الدكتوراه "الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية" سوى تعبير عن توجهه الفكري هذا، وهي أطروحة أهّلته لإصدار مجموعة كتبه التاريخية المهمة لاحقًا، مثل كتابه الشهير الفتنة الذي استعرض فيه الصراعات القبلية التي قسّمت المسلمين، وكتابه تأسيس الغرب الإسلامي: القرن الأول والثاني الهجري، وكذا كتبه المتعلقة بالشأن الديني، وأبرزها وأكثرها أهمية ثلاثيته في السيرة النبوية؛ إذ يقدّم فيها بحثًا في أصول ظهور الرسول والدعوة، فهو ـ بالرغم من دراسته في المدرسة الصادقية التي كانت رمزًا للتحديث مقابل جامعة الزيتونة ـ سليلُ بيئة إسلامية منفتحة، وعائلتين تسلّمتا المناصب الدينية الرفيعة إلى القرن الثامن عشر.

اتجاه جعيط الفكري

يقول المؤرخ والمفكر خالد زيادة، الذي ربطته علاقة قوية بالباحث التونسي جعيط في فرنسا وتونس وبيروت؛ إذ كان يلتقيه مرة أو مرتين في الأسبوع الواحد، وبخاصة في مرحلة تحضيره كتابه أوروبا والإسلام، إن تأثر جعيط بروايات جان بول سارتر ومؤلفاته الفلسفية جعله وجوديًّا بالمعنى الفلسفي، وإنه لم يتأثر كثيرًا بفوكو وألتوسير وليفي ستروس وأمثالهم من الذين ذاعت شهرتهم في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، وإنه لم يجارِ الموجات الثورية اليسارية والشيوعية والاشتراكية والتروتسكية التي استقطبت المثقفين الفرنسيين الشباب على الرغم من اطلاعه على الأفكار الماركسية.

أهمية المحاورات مع جعيط

يرى يحيى أن جعيط يستحق مع تقدمه في العمر (إذ كان في الثالثة والثمانين من العمر في عام إجراء المقابلات) نصًّا يساهم في فهمه مفكرًا ومؤرخًا ذا ثقافة موسوعية، ويقول إنه ينتمي إلى جيل من المثقفين ما بين الحربين العالميتين (وُلد جعيط عام 1935) وقبل مرحلة الاستقلال الوطني وبناء ما يسمى "الدولة الوطنية". ويتضمن الكتاب توثيقًا لأقواله المتأخرة في كتاباته وأفكاره وأبرز مؤلفاته وقضاياه ومساهماته البحثية، إضافة إلى تيار متدفق من معارف وأفكار مفكر قادم من تونس واعتبارها حلقة وصلٍ واتصال بين المشرق والمغرب العربيين.

تحولت هذه الحوارات الصحافية لدى يحيى إلى رحلة اكتشاف وعمل شاقة وماتعة في آن، فهو يقدم للقارئ ما يمكن اعتباره "دراسة حالة" لمثقف يبدو في الوهلة الأولى "محافظًا" لكنه يبحث، ممتلكًا الثقافتين العربية ـ الإسلامية، والأوروبية ـ الغربية، عن توازن بين التراث والحداثة، والعروبة والإسلام وأوروبا، وما كان والراهن وما سيأتي، والذات والآخر ... إلخ. وهذا كله قد يجعل من الكتاب يَعِد القارئ العربي، إلى جانب التعرف الواسع إلى مسار مفكر ومؤرخ في وزن هشام جعيط وأفكاره وقيمته، بتقديم فرصة أمام الباحثين؛ لدراسة سيرته الفكرية والبحثية، ولنقاش أكثر تدقيقًا حول أفكاره أيضًا، والتي بقدر ما تبدو لامعة هي محملة بألغاز وتناقضات في الوقت نفسه.

أقسام الكتاب

الفصل الأول: أشبه بمناقشة عامة تذهب إلى مساحات عدة بهدف إلقاء الضوء على أفكار المثقف المبدع كما أصبح يراها عند إجراء الحوار، والعلاقة بينها وبين الخطوط العامة لأفكاره وبحوثه في زمان يمتد نحو نصف قرن.

الفصل الثاني: محاولة لـ "الإبحار" في السيرة الذاتية لهشام جعيط مع "بوصلة"، تستهدف أن تتجه دومًا إلى اكتشاف مصادر تكوينه الاجتماعي والثقافي والمعرفي وإعادة اكتشافها.

أما الفصلان الثالث والرابع، فكان الحوار فيهما حول ثلاثيته في السيرة النبوية، وهو عمله الأبرز والأحدث في تاريخ الإسلام المبكر.

ويذكر يحيى أن استدعاءات جعيط الكثيرة خلال الحوار لرموز في التاريخ والثقافة والفكر والجغرافيا أحيلت تعريفاتها الموجزة إلى الهوامش حتى لا تعترض انسياب النص القائم على الحوار والتفاعل والتلقائية، مضافًا إليها أحيانًا إيضاحات لكلمات أو جمل جعيط كما نطق بها باللهجة التونسية.

في نهاية الكتاب، أضيف فهرس تتبعيّ بتواريخ إصدار كتب جعيط باللغة العربية، وعلاقتها بكتاباته باللغة الفرنسية ولغات أخرى، وبالمحطات الرئيسة الأبرز في مسيرته العلمية والحياتية.

ولا بد من الإشارة إلى أن نص الكتاب قد راجعه ودقّقه جعيط نفسه، بعد أن طلب منه المحاور هذا الأمر في حزيران/ يونيو 2018.

وأنهى المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تقديمه لكتاب هشام جعيط.. حوار في الفكر والتاريخ والسيرة، بالتأكيد على أن المأمول أن يشجع على اهتمام أوسع نطاقًا بالمفكرين والمؤرخين والمثقفين المبدعين العرب، بخاصة أولئك الذين لا ينوون أن يتركوا خلفهم سيرًا ذاتية، ومنهم هشام جعيط، الذي ربما يكون أقل غزارة في أعماله مقارنة بأقرانه المغاربة، إلا أن أسلوبه في معالجة الموضوعات التي يختارها أقل اتّباعًا للموجات الثقافية الرائجة.
التعليقات (0)