"إذا
كان الزمان غير الزمان، فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن النفس والأرض والعرض
لا تسقط عنه إلى يوم الدين. وسنة التدافع بين الناس والحضارات والقيم،
تجعل دوام الحال من المحال، ولو دامت للأولين لما دانت للآخرين! وإن الكيل
بمكيالين في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف، هو سبب كل الخلل في
المعايير والموازين وهذا الدمار المبين.
وفي
تاريخ الحروب
والثورات التحريرية العظمى، دروس للمعتبرين، وإن الذكرى قد تنفع حتى البغاة
والعصاة والطغاة، فضلا عن المؤمنين!!
وبمناسبة إحياء
الجزائر للذكرى التاسعة والستين لثورة
القرن العشرين دون منازع في الفاتح من تشرين الثاني (نوفمبر
1954)، وربطا بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية في الساحة
والساعة الدولية، عرفنا إرهاصات بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد، نود أن نذكر
المعتبرين بدروس التاريخ الحي، الذي عشناه في هذه
الثورة لحما ودما وجهادا
و"استشهادا"، لما يزيد عن السبع سنين، مماثلة لما يراه العالم
على المباشر يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل، في
معركة الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية، والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد
الأمين على المحسنين والمسيئين، والظلمة والمجرمين، وأصحاب الحق المغتصب الذي لا
يسترجع إلا غلابا وافتكاكا باليمين، وتلك هي سنة الله في الأولين والآخرين.
تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال
العريضة في الوقت ذاته، وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في
معركة الأقصى بشقيقتها الصغرى فلسطين.
لقد عايشت تلك الثورة الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف
جيش تحريرها، حتى توقيف القتال وتقرير المصير والاستقلال. وكنت شاهدا على كثير من
مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛ بأفراحها بانتصاراتها وأقراحها
بالإحباطات والتقلبات والخيانات، التي اعترضت مسيرتها الطويلة إلى النصر المبين!
ومن مميزاتها أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962، كان
هو يوم ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830، مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور
احتلال، كما أن كل احتلال يحمل بذور استقلال؛ إذا بقي عزم الرجال كما كان
واقع الحال.
وإدراكا مني بما للثورة الجزائية من أوجه شبه وتطابق أحيانا مع
ما يجري في فلسطين هذه الأيام، إلى درجة التوأمة (السيام) بين الثورتين، وخاصة من
جهة نوعية الاستيطان وفصيلة المستوطنين أنفسهم خلفا عن
سلف، والدليل على ذلك هي آلاف القوافل من شهداء المغرب العربي الكبير
المدفونين في القدس الشريف على مر التاريخ الإسلامي للأمة، عندما كانت
أمة حرة حتى تحت الاحتلال الأجنبي الخارجي (الأرحم
مع الأسف من الاستحلال الداخلي الراهن!!!!)، حيث ذهب أكثر
من 4000 مجاهد سنة 1948، ودخلوا من أرض الكنانة سابقا لنجدة
الأشقاء في الأرض المباركة، التي لم تتغير في وجدان كل مسلم من المحكومين لاحقا في
أمة المليارين من أصحاب العين البصيرة واليد القصيرة، على امتداد سماع الآذان
وتلاوة القرآن من جاكارتا إلى داكار ونواكشوط والرباط وتطوان، مرورا
بقسنطينة ووهران!؟!
وإني لهذا السبب وغيره أعيد نشر بعض فصول كتابي (جهاد الجزائر:
حقائق التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، هنا في صحيفة "عربي21"، وهو صورة
حية عن جوانب مشرقة من ثورة القرن العشرين التي جسدت أمجاد الحرية والكرامة، تماما
كما هو حال غزة وفلسطين هذه الأيام؛ لما بين الثورتين من تطابق وتشابه كما
قلنا وعشنا في الثورة الأولى، مقارنة بما نراه على المباشر في الثورة
الفلسطينية العظيمة الثانية، التي اختصرت أمة المليارين (من غثاء
السيل) في المليونين من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والقدس وجنين.
وإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينهما في حجم التضحيات
ومعارك التحرير، التي يخوضها الأشقاء الفلسطينيون هناك (كما كان أشقاؤهم هنا
لأكثر من سبع سنين دون انقطاع)، في مواجهة أعتى احتلال وأشده شراسة،
لا سيما وأنه احتلال يلتف حوله قادة العالم الغربي
الاستعماري كله،
ويدعمونه انتقاما من عدوهم اللدود على هزائمهم السابقة وإحياء لخلافات
وأحقاد تاريخية دفينة.
كنا
نعتقد، وإن بعض الظن ليس إثما، أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة
والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء المعمورة، قد تجاوزتها الوحوش البشرية المسلحة
بالنووي والحقد الأعمى في معاداة حقوق الإنسان الفلسطيني خارج حقوق الإنسان،
التي يحميها حق الفيتو الظالم أمام كل أنظار العالم الأعور الأصم الواجم.
إن الإسلام والاستعمار
ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية، فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار
دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان،
والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام
والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام
يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل
يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله، والاستعمار
يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه خصوصا الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه.
وهذا
المكيال العجيب الغريب بين إنسانين، لا يثير القلق فقط حول مصير البشرية في
هذا العالم (وحيد القرن)، وإنما يعيد السؤال أيضا وبإلحاح عما إذا كان للمعارك
الحضارية الكبرى التي سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة، تتراجع إلى ما
تحت الصفر كما نراها في مجازر المغول الجدد بالصوت والصورة في غزة العزة
والإنسانية، التي تحتضر في مستشفياتها المنكوبة كلها اليوم والمقطوعة
عن الحياة أمام أعين دعاة حقوق الإنسان (الحجري)، وليس الإنسان البشري
المتحضر المتعلم والمتقدم"!!
وما يفيد في هذه الصفحات من ثورة الجزائر (فلسطين الأولى)
الأشقاء في الجزائر الثانية (فلسطين الحالية)، سأسرده ليس من باب
تقديم الدروس، وإنما من باب قراءة التاريخ والاتعاظ به وأخذ العبرة منه.
انتقاص خطير من ثورة نوفمبر
نخصص هذا الفصل لشريحة من واقع حياتنا الثقافية والفكرية في ما بعد
الجهاد الأصغر جهاد الدفع، حيث تباعد الزمن واختلفت المفاهيم، وتلونت بألوان
المشارب، وتباينت حول أشياء كانت في يوم من الأيام بديهية أسطع من الشمس في وضح
النهار، ولكن مع تراكم الغيوم وتقلب الأحوال الجوية وتنسم بعض العبيد اللؤماء نعمة
الحرية، أصبح المستحيل ممكنا، وصارت الشمس محاطة بظلمات كثيفة من التشكيك، وغاب
الشاهد الحق، وحضر الغائب ليشهد بما لم ير ولو في المنام!
إن الثورة الجزائربة انطلقت أصيلة مبنية على أسس وطنية ودينية، متكاملة كتكامل (حب الوطن من الإيمان) أي مادية وروحية معا.
والمثال التالي يبين لنا كيف قلص مفهوم الجهاد الذي حرّر البلاد
والعباد إلى مجرد (حرب مقدسة) ضد الكفار، ومن ثم أصبح تقليلا (في نظر أصحاب هذا
المفهوم) من عظمة ثورة نوفمبر، التي كانت ثورة تحريرية عارمة، تجاوزت أبعادها حدود
القارات والمحيطات، واستفاد منها مئات الملايين من أبناء البشر المضطهدين. وكأن
الجهاد الحقيقي الذي وقع ـ فعلا ـ ليس بإمكانه أن تكون له كل هذه النتائج الهائلة،
ولا بد من استعارة مفهوم (الصراع الطبقي مثلا) لتفسير الانتصار الأعظم الذي حققته
الثورة الجزائرية بالجهاد والجهاد وحده، وبأوسع معانيه الفقهية والدينية والثقافية والعسكرية (كما هو مبين في الفصل الثاني). والمقال التالي يعدّ عينة
لاختلاف المفاهيم حول الثورة في الاستقلال، وهو يمثل تعليقا نقديا عن محاضرة
ألقاها المؤلف بمناسبة إحياء الذكرى 25 لاندلاع ثورة نوفمبر، بعنوان "المادة
والروح وثورة نوفمبر".
وإننا ننشر ترجمة التعليق كما ورد في صحيفة المجاهد اليومية الصادرة
باللغة الفرنسية، ونعقب بالرد الذي كتبه المؤلف، ونشر في الصحيفة نفسها، من باب
حرية الرأي والتعبير وحقوق الردّ المكفول لأصحاب الرأي المقبول!!
انـتـقــاص خـطـيــر REDUCTION DANGEREUSE
إن تطور الإنسان والمادة، وفي كلمة واحدة كل التطور التاريخي قد
يتحدد بقوة الفكر. إنها تلك القوة التي استغلت التاريخ وترأست مستقبل الإنسان.
إن الفكرة (eédi) تشبه قنبلة يحدث انفجارها ـ على الأمد
البعيد ـ، تفكك الأنظمة القائمة على استغلال الإنسان والقيم المشيدة على حساب
الأشخاص.
إن هذا التلازم بين الروح والمادة من جهة، والآثار الناتجة عن تأثير
العقل على المادة من جهة أخرى، يقاس بمفاهيم التطور والديمقراطية والحرية، وفي
كلمة واحدة التطور الاجتماعي والاقتصادي.
كيف ينمو هذا السياق الاجتماعي والاقتصادي؟
إنه ما حاول الدكتور أحمد بن نعمان أن يحدده في العلاقة التي توجد
بين المادة والروح وثورة أول نوفمبر 1954. بعد أن ركز المحاضر على
"الروح" كمادة أولية لاستدلاله. فقد شرح بعد ذلك مفهوم الوعي الفردي
والجماعي، الذي نتج عنه اندلاع ثورة أول نوفمبر 1954، ورد الاعتبار للشعب.
وهكذا، وانطلاقا من هذه الفكرة الأساسية، فإن المحاضر شرح دور الدين
في اندلاع الثورة، مستندا إلى المعطيات الدينية (العقيدة، الإيمان، الحاجة إلى
العدل والديمقراطية والمبادئ الإسلامية)، وأكد الدكتور أحمد بن نعمان الصبغة
الدينية، وأعطى صفة "الجهاد" لثورة أول نوفمبر 1954.
إذا نجحت ثورات كبرى في العالم بالصراع الطبقي، وعقائد وضعية، فإن الثورة الجزائرية نجحت بعقيدة "الجهاد"، وهي عقيدة ذات أصل إلهي أي روحي.. و قد تتقاطع في الأهداف مع غيرها، كما تتقاطع وظائف الأعضاء لدى الإنسان المسلم مع غير المسلم؛ لكونه إنسانا قبل كل شيء، ولكنه مفضل بروح التكليف والتكريم!!
وحسب رأيه، فإن الروح ـ مأخوذة في إطارها الديني ـ، قد حثت الإنسان في
تطلعاته وفي أعماله من أجل تغيير المعطيات المادية، أو طريقة العيش التي فرضها
الاستعمار. وبعد أن أبعد فكرة تصارع الطبقات كعنصر ديناميكي، فإن المحاضر قد أكد أن "هذه الحرب قد جمعت كل الطبقات الاجتماعية"، مع اعترافه بأن «الحتمية
الدينية غالبا ما أنقصت من عنصر المطالبة، لصالح القبول بمصير ما، وتقبله كما هو،
كأن يكون شيئا حتميا".
إن هذا الانتقاص من ثورة نوفمبر لتصبح مجرد "جهاد"، يذكرنا
بأفكار تنطوي على مغالطة تاريخية... كيف يمكن تبرير اندلاع الثورة، دون ذكر الدور
الذي أداه المنشطون السياسيون الطلائعيون في توعية الجماهير؟
لماذا يركز المحاضر في استدلالاته على الإيمان كعنصر وحيد للتحرير؟
لا شك - وقد أثبت التاربخ ذلك -، أن الدين عنصر توتر في حالة المجابهة بين عقيدتين،
وهو كذلك عنصر تضامن من الناحية العقائدية، ولكن لم يكن أبدا أساس الثورة.
إن الدين يمكن أن يكون (إذا نظرنا إليه من زاوية معينة) أحد عناصر
الثورة لدى الشعوب، حتى في إيران، وهي آخر أحداث العالم التي يظهر فيها العنصر
الديني جليا، فإن الدين لم يكن سوى عامل تضامن مؤقت، صهر الجماهير المستغلة لمكافحة
القوة المستغلة، فالوسيلة إذن هي أحد الأسباب وليست غاية.
ولهذا، فإن إعطاء ثورة نوفمبر 1954مقاييس "الجهاد" نعده
أمرا خاطئا وخطيرا. إنه إنكار دور المستعمر في مجالات أخرى غير المجال الديني، إنه
بتر للمكونات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للحركة التاريخية، التي أدى فيها
الإسلام دورا توحيديا لاشك فيه، ولكنها كانت قبل كل شيء تعبيرا عن إرادة الحرية، ورفض كل أشكال الظلم" .
الرد على النقد: أين الانتقاص الخطير من ثورة نوفمبر؟
لقد طالعت باهتمام كبير ما نشرته صحيفة "المجاهد"، في
عددها الصادر يوم الخميس 25/10/1979 عن المحاضرة التي ألقيتها في المركز الثقافي
الإسلامي بالعاصمة يوم 22/10/1979.
وإني أشكر الصحيفة على اهتمامها بإرسال مبعوث «لتغطية» هذه المحاضرة
التي تهم كل المثقفين، بقطع النظر عن اللغة التي يعبرون بها عن أفكارهم... كما
أشكرها على هذه المبادرة البناءة التي تهدف إلى كسر الحواجز اللغوية الاستعمارية
التي وضعت بين أبناء الوطن الواحد... على أنني إذ أشكر "المجاهد" على
هذا الواجب، أرجو أن يفتح صفحته الثقافية بالقدر الذي تمكن القارئ من الاطلاع على
كل جوانب موضوع المحاضرة والمناقشة، أو معظمها (على الأقل) حتى يكون الحكم على الكل
وليس على الجزء، وإلا حصل (الانتقاص الخطير) الذي يهدم الثقافة، أو ربما يغيب
الحقيقة أو يزورها، ومن ثم يزيد من تلك الحواجز ولا يزيلها... وليسمح لي
"المجاهد" أن أتقدم ببعض التوضيحات لإزالة اللبس الذي وقع حول بعض ما
قصدت في محاضرتي، وذلك إظهارا للحقيقة التي ننشدها جميعا، كما هي، ولا نريدها أن
تكون ناقصة أو مشوهة!
لقد كان عنوان المحاضرة كما هو معلوم: "المادة والروح وثورة
نوفمبر»، والتزاما بالمنهج العلمي، كانت المحاضرة ترتكز على موضوعات رئيسية، يمكن
تلخيص أهمها في النقاط التالية:
1 ـ سبب اتفاق العلوم الدقيقة حول الطبيعة،
واختلاف العلوم الإنسانية حول الإنسان.
2 ـ سبب نشوء الفلسفات، واختلافها في
نظرتها إلى الكون وتفسيرها لظواهره المختلفة.
3 ـ عرض المذهب المادي عرضا فلسفيا، مع
التركيز على نظرته للوجود وتفسيره لعالم الروح والميتافيزيقا، ومن ثم نظرته
للأديان كظاهرة اجتماعية ليس لها أصول علوية إلهية.
4 ـ تبيان الأسباب التي جعلت الماديين
يحكمون على الدين بأنه "أفيون الشعوب".
5 ـ عرض
المذهب الروحي، وتبيان نظرته للوجود وتفسيره للظواهر الكونية التي تختلف اختلافا
عكسيا، عن المذهب المادي، وذكرت المثل القائل بأن ماركس قلب فلسفة هيغل رأسا على
عقب.
6 ـ عرض المفهوم الفلسفي الإسلامي للمادة والروح، واتخاذه موقفا وسطا بين المذهب المادي والمذهب الروحي، حيث إنه يعطي قيمة للمادة،
كما أعطاها لها الماديون، ويزيد عنهم أصحابه بشعورهم، واعتقادهم الراسخ بوجود حقائق
العالم الروحي أو العلوي أو "الميتافيزيقي" التي يثبتها الروحيون
وينفيها الماديون.
7 ـ التأكيد أن الفلسفة الإسلامية تنظر
إلى الكائن الإنساني كأبرز مثال يظهر فيه التقاء المادة بالروح، حيث ترى أنه مكون
من جسد أصله من التراب والمواد العضوية، وروح تعود إلى عالم الروح، دون أن تنفي
وجود التأثير المتبادل بين هذا الجانب على ذاك.
إن الدين الإسلامي بمبادئه الثورية كان عاملا أساسيا ومهما في تحقيق الانتصار الأعظم، ولم يكن قط أفيونا للشعب الجزائري، بل العكس هو الصحيح، وقد أثبت ذلك بالأمثلة الحية من واقع سنوات النار والنور والإيمان والإحسان والتضحية بأعلى ما يملك الإنسان، وهي تعد بالآلاف، في تلك السنوات العجاف.
8 ـ الدين همزة وصل بين عالم الروح وعالم المادة،
وهي ظاهرة مختصة بالإنسان دون الكائنات الأخرى، والدين متصل من حيث إن جوهره روحي
متصل بروح الإنسان، ومتصل من حيث إنه معاملة وتكاليف بحياة الإنسان، الاجتماعية
والاقتصادية، وقد استخلصت من خلال العرض المذكور لتلك المذاهب، بكل موضوعية، ودون
إطلاق أحكام قيمة على هذا المذهب أو ذاك.
استخلصت مجموعة من النتائج يمكن ذكر أهمها في الآتي:
1 ـ إن لكل مذهب من المذاهب الفلسفية
منطلقات، وحججا معتبرة لا يمكن دحضها بسهولة، ومن ثمة تكون المسألة في الإيمان
بالحقائق الميتافيزيقية مسألة استدلال واقتناع، أكثر مما هي مسألة إقناع، والعقول
درجات وأنواع، ولكل طرف حججه المقنعة له على الأقل.
2 ـ إن إصدار الأحكام المطلقة على بعض الحقائق
المتعلقة بعالم الإنسان، واعتبارها قاطعة مثل الحقائق المتفق عليها في عالم
الطبيعة، هو خطأ كبير؛ لأن الإنسان بما أوتي من فكر حر وقدرة مطلقة على الرفض
والقبول والفعل ورد الفعل، والاعتقاد والشعور، لا يمكن أن نقيس أبعاده
اللامتناهية بالأمتار والكيلوغرامات، مثل الأحجار والأشجار والحيوانات.
3 ـ إن ما ينطبق على هذا الإنسان أو ذاك المجتمع من
أحكام، لا ينطبق ـ حتما ـ بالكيفية نفسها على هذا الإنسان أو ذاك المجتمع؛ لأن كل
مجتمع، بل كل كائن إنساني قد يمثل عالما خاصا بذاته كما يقول بعض الفلاسفة وعلماء
النفس، وهو يتميز ببعض خصائص شخصيته، كما يتميز عن كل أغياره بنوعية بصمات بنانه،
وشفرات صبغياته وأحماضه.
4 ـ إن الاستدلال على صحة الحقائق التي يثبتها
البعض أو ينفيها البعض الآخر، يجب أن يحتكم
فيها إلى الواقع الملموس، وليس إلى الجدل الميتافيزيقي الذي قد لا تتحقق غلبة فريق
فيه على فريق، وقد اتخذت من ثورة نوفمبر واقعا ملموسا، لأختبر فيه صحة النتائج
التي توصلت إليها، وصحة النظريات الفلسفية المادية والروحية التي عرضتها.
وقد توصلت إلى الحقائق التالية:
1 ـ إن الحكم المطلق على الأديان بأنها
أفيون للشعوب، حكم خاطئ، وإن انطبق على بعض الأديان "المحرفة" في بعض
الزمان والمكان، فهو لا ينطبق على كل الأديان في كل زمان ومكان.
2 ـ إن الثورة الجزائربة انطلقت أصيلة
مبنية على أسس وطنية ودينية، متكاملة كتكامل (حب الوطن من الإيمان) أي مادية وروحية معا.
3 ـ إن الدين الإسلامي بمبادئه الثورية كان
عاملا أساسيا ومهما في تحقيق الانتصار الأعظم، ولم يكن قط أفيونا للشعب الجزائري
بل العكس هو الصحيح، وقد أثبت ذلك بالأمثلة الحية من واقع سنوات النار والنور والإيمان
والإحسان والتضحية بأعلى ما يملك الإنسان، وهي تعد بالآلاف في تلك السنوات العجاف.
4 ـ إذا نجحت ثورات كبرى في العالم بالصراع
الطبقي، وعقائد وضعية، فإن الثورة الجزائرية نجحت بعقيدة "الجهاد"، وهي
عقيدة ذات أصل إلهي أي روحي، وقد تتقاطع في الأهداف مع غيرها كما تتقاطع وظائف
الأعضاء لدى الإنسان المسلم مع غير المسلم؛ لكونه إنسانا قبل كل شيء، ولكنه مفضل
بروح التكليف والتكريم.
5 ـ دحض فكرة القضاء والقدر الخاطئة لدى
بعض المسلمين الجهلة، واستغلال الاستعمار لهذه الفكرة لإقناع المسلمين بالأمر
الواقع، وإيهامهم بأن الاحتلال قضاء وقدر، وابتلاء من الله للبشر الذين يتعين
عليهم التغلب عليه بالصبر الجميل وترك العقاب ليوم الحساب، وهذا هو "الأفيون"
الذي حرّمه الإسلام وثار عليه (كالشرك) بالفعل قبل القول.
6 ـ إثبات الفهم الصحيح لعقيدة القضاء
والقدر لدى المجاهدين الواعين في ثورة نوفمبر، التي تنطلق من المبدأ القرآني
القائل: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾.
7 ـ إثبات قوة الاعتقاد بالعالم العلوي
(الروحي)، ودورها في التأثير كطاقة إيمانية جبارة في الحياة المادية (الاقتصادية
والاجتماعية) للأفراد خلال الثورة، مع اعترافي بتأثير العوامل المادية في حياة
الإنسان، ولكن في سياق آخر غير ثورة نوفمبر، كاعترافي باحتمال وجود الصراع الطبقي
في الجزائر بعد الاستقلال، لو لم يكن ساستنا حازمين في تحقيق العدالة الاجتماعية
الحقيقية التي كانت سائدة خلال سنوات الجهاد الأصغر كلها.
8 ـ البرهنة على قوة الإيمان بالعالم
العلوي أو الروحي لدى المجاهدين، وكيف عوضت النقص المادي في السلاح، وتغلبت على
أقوى الأسلحة المادية للحلف الأطلسي التي لم يكن وراءها عقيدة دافعة، دون أن أنكر
أن هذه القوة الدافعة قد يكون مصدرها إيمانا بمبدأ روحي مثل الجهاد عندنا، كما قد
يكون مصدرها إيمانا بمبدأ وضعي وقيم إنسانية آمن بها أصحابها فضحوا من أجل
تحقيقها، ولا تناقض في الأهداف إذا تقاطع كفاح المستضعفين في مواجهة ظلم الأحلاف.