الحقائق المرعبة لحالة التدهور والتفكك في الإمبراطورية الأمريكية

الكتاب: أمريكا: رحلة الوداع -"قداس للحلم الأمريكي"-استطلاعات كيركوس.
الكاتب: كريس هيدجيز، مؤلف الحرب هي القوة التي تعطينا معنى.
ترجمة : حسين صلاح الدين.
الناشر: دار الرضا للنشر سوريا ـ دمشق ـ الطبعة الأولى ـ حزيران 2021.
(488 صفحة من القطع الكبير).

اعتقد الجميع في الغرب أنَّ الثورة النيو ليبرالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، التي جاءت عقب أزمة الرأسمالية الاحتكارية في عقد السبعينيات من القرن العشرين، قد كانت الجواب التاريخي الذي تقدمه  البرجوازية الاحتكارية لأزمة الرأسمالية العالمية، من أجل تحجيم دور الدولة في النشاط الاقتصادي والاجتماعي، وخفض معدلات الضرائب على الدخول والثروات المرتفعة، وإطلاق العنان  لقوى السوق العمياء في بيئة يغلب عليها طابع الاحتكار، وحل أزمات الرأسمالية، وبالذات أزمة التضخم، التي لن تتم إلا في ضوء  القبول الواسع  بالبطالة، ومن ثم قبول التحول من الإفقار النسبي  إلى الإفقار المطلق داخل البلدان الرأسمالية، بعد أن تم التخلي  تماما عن هدف التوظيف الكامل كأحد مرتكزات الدولة الكينزية.

لكنَْ، ها هي الشعوب قاطبة تشهد المأزق التاريخي الذي وصلت إليه العولمة الليبرالية الأمريكية المتوحشة. إنَّها مرحلة أفول إمبراطورية واحدة تدعى PaxAmericana القائمة على السلطة اللصوصية ـ الفاسدة للدولار، حيث تتربع الولايات المتحدة الأمريكية على رأسها، خدمة لمصلحة رأس المال الأمريكي الشمالي الذي انطلق يبحث قائلا؛ إنّ العولمة هي عملية تقدم المصالح الأمريكية في جميع أنحاء العالم. لكِنَّ هذه العولمة المتوحشة الأمريكية، أظهرت عجزها الفاضح في مقاومة جائحة كورونا البيولوجية الفيضانية؛ لأنها كشفت عن بنيتها التحتية الرثة في مجال الصحة والطب.

أما أزمة العولمة الليبرالية الأمريكية المتوحشة، فقد وصلت إلى درجة لم يسبق لها مثيل إلا في الأزمات التاريخية الكبرى، مثل الكساد الأعظم أو الكساد العظيم great depression عام 1929م وأزمة 2008م، وتأثير ات جائحة كوفيد 2019 على الاقتصاد  العامي. ويتوقع الكثير من الاقتصاديين أن ما سيحدث الآن أسوأ بكثير مما حدث في الكساد العظيم، والسبب في ذلك أن الاقتصاد العالمي يعتمد بشكل أكبر من أي وقت مضى على حالة من التواصل المركب والعولمة المعتمدة بعضها على بعض، حيث إن الكل يتأثر بالكل؛ فمنذ أن بدأت الأزمة في الصين وانتشرت تدريجيا، بدأت الأسواق بالانهيار في باقي أنحاء العالم.

في هذا الكتاب الجديد الذي يحمل العنوان التالي "أمريكا: رحلة الوداع ـ "قداس الحلم الأمريكي" ـ استطلاعات كيركوس، الذي يتكون من كلمة إهداء وسبعة فصول طويلة، لمؤلفه الكاتب الأمريكي كريس هيد جيز، ومترجمه الأستاذ حسين صلاح الدين، والصادر عن دار رضا للنشر بدمشق في حزيران 2021، ويتكون من 488 صفحة من القطع الكبير، يقدم فيه الكاتب كريس هيدجيز تحليلا شاملا للحضارة العالمية بوقائعها من نهاية التاريخ إلى نهايات الرأسمالية، ومن أزمات الفيضانات إلى أزمات انهيار الشبكات الحاسوبية وتقنيات المعلومات والمراقبة، كساد عالمي وإنذارات بقرب انهيار الدولار وتراجعه كعملة احتياط عالمي. فالكاتب المحترف في جمع الحقائق، أنتج كتابا غير مسبوق يفضح التأزم الأمريكي ببعده العالمي؛ كتابا طبع منذ عامين وباع أكثر من ثلاثمائة مليون نسخة، فصار من الكتب الأكثر مبيعا في أمريكا والعالم.

نعم العالم اليوم مهدد بالفناء والدمار، والإخافة من هذه المتغيرات يبدو تيارا هاجسا معرفيا وثقافيا يكتسح المخيلة البشرية، ليس بعيدا عن توجهات السلطة العالمية التي تريد أن تحقق نقلة نوعية في السيطرة العالمية وتفكيك مؤسسات الإنتاج والصناعة لصالح الاستهلاك، وانتقال مركز السلطة العالمية إلى الشرق، البيئة العالمية المتأزمة صارت تنطق بآلامها بآلاف الحرائق والفياضانات والحرارة العالية والرطوبة والأمراض، إلى تغيرات الطبيعة والهجرة من الجنوب إلى الشمال، وما تشكله من ضغوط ديموغرافية، وزيادة هائلة في نسب الفقر والفقر المدقع، كل هذه الضغوط تتجلى في النظام الأمريكي المهزوم، ومركز تحريك السلطات العالمية للبنوك والرساميل والخطط المأزومة للتنمية، عالم واسع من الفيروسات المهددة للجنس البشري، وحوادث كبرى وحروب تنذر بانهيار الحضارة العالمية.

فهل هي نهاية الولايات المتحدة الأمريكية والهيمنة الغربية على العالم، هل هي شهادة النهاية والفشل للإمبريالية الأمريكية، أم هي استظهار التأزم والإغلاق لتعزيز السيطرة وتجديد العبودية للبشرية، مليارات الكاميرات تراقب البشر فتزيد من عبوديته، وتلغي أي ادعاء بالحرية الفردانية والإبداع والحداثة.

على ماذا يتفاوضون وما هي الخيارات المتاحة، الكتاب يعطي لكل نظرية فلسفية واقتصادية واجتماعية حقها في نقض الواقع الأمريكي، للديمقراطية ومفهوم الدولة مع أرسطو حيث يظهر فراغها اليوم، لماركس ورؤيته للمؤسسات الرأسمالية ونهاياتها في امتلاك الثروة وتدمير مؤسسات الصناعة والعمل.

البيئة العالمية المتأزمة صارت تنطق بآلامها بآلاف الحرائق والفياضانات والحرارة العالية والرطوبة والأمراض، إلى تغيرات الطبيعة والهجرة من الجنوب إلى الشمال، وما تشكله من ضغوط ديموغرافية، وزيادة هائلة في نسب الفقر والفقر المدقع.

إن هذا الكتاب الموثق النوعي، يُظهِر مدى التفكك والمشكلات في المجتمع الأمريكي، من المخدرات إلى المافيات الاقتصادية والمالية إلى حالات التفكك الاجتماعي، وكيف تباع الأدوية بملايين الوصفات وهي مواد أفيونية تكرس 80 بالمائة من الاستهلاك العالمي، ويُظهِر انهيار الديمقراطية مع ترامب الساخر والمتعجرف والمتسلط على العالم، وفضائح اليمين الأمريكي المسيحي في مسح المجتمع العلماني، العقل الأمريكي مغلق عليه بأيديولوجية دينية ونظرية المؤامرات ورؤية هرمجدون، ويعيشون حالات الميل إلى الانتحار في عالم لا يُعاش، ويميل إلى الحزن كما يقول إيميل دوركهايم، والأعمال تتراجع والبطالة تزداد، والكوارث الطبيعية تلقي بظلالها، وتصدم المخيلة الأمريكية بالفناء، هل هذه رؤية سوداوية لواقع لطالما عانى من المشكلات والتحديات، أم هي فعلا النهاية للإمبراطورية الأمريكية ومعها الهيمنة الغربية ومظاهر الرفاهية العالمية الفارغة، خصوصا وأن أمريكا اليوم تعترف بأنها دخلت في أكبر كساد اقتصادي عالمي، وتراجع ناتجها الإجمالي مع أزمة كورونا 33 بالمائة، وطبعت خلال شهر حزيران 2020 دولارات بلا رصيد بحجة الإنعاش والتحفيز، أكثر من خمسة تريليونات دولار، أي أكثر مما طبعته خلال مائتي عام من بدء طبع الدولار الأمريكي؟

نبوءة كارل ماركس ـ انهيار الرأسمالية:

في هذا الفصل الأول من الكتاب، يعالج فيه الكاتب كريس هيدجيز انحلال النظام الرأسمالي السائد في الولايات المتخدة، وإن كان الفيلسوف الألماني كان كارل ماركس (Karl Marx) يعرف الدينامية المميزة للرأسمالية، أو ما كان يسميه الطريقة البورجوازية في الإنتاج؛ كان يعرف أنَّ الأيديولوجيات السائدة ـ أمعن النظر في رأسمالية الشركات بمعتقدها في انعدام التصنيع، والتحرر من الأنظمة وخصخصة الأصول العامة، والتقشف وتخفيض برامج الخدمات الاجتماعية والتخفيضات الهائلة في الإنفاق الحكومي ـ، قد خُلِقت لخدمة مصالح النخب الاقتصادية؛ لأن "الطبقة التي لديها وسائل الإنتاج المادي تحت تصرفها، هي الطبقة التي لديها السيطرة في الوقت نفسه على وسائل الإنتاج الفكري"، وإن "الأفكار الحاكمة ليست أكثر من تعبير مثالي للعلاقات المادية السائدة... العلاقات التي تجعل من طبقة واحدة الطبقة الحاكمة".

يقول الكاتب كريس هيدجيز: "خَلَّفَ تعجيل توقيف التصنيع في السبعينيات أزمة أجبرت النخب الحاكمة على تصميم نموذج سياسي جديد، كما يوضح ذلك ستيورات هول (Stuart Hall) في "ضبط الأزمة (Policing the Crisis)"، وقد حوّل هذا النموذج، الذي طبلت له وسائل إعلام مذعنة نقطة اهتمامه من المصلحة العامة إلى العرق والجريمة والقانون والنظام، وأُبلِغ أولئك الذين يعانون من تسخير اقتصادي وسياسي عميق بأن معاناتهم ناجمة ليس عن جشع الشركات، بل عن تهديد لسلامة ووحدة الأراضي الوطنية؛ وقد هوجم الإجماع القديم الذي كان يدعم برامج الصفقة الجديدة (New Deal) ودولة الرفاه على أن يساعد الشباب السود المجرمين وملكات الرفاه والطفيليين الاجتماعيين، وكان الطفيليون هم الملامون؛ مما فتح الباب لشعبوية استبدادية، بدأت برونالد ريغان (Ronald Reegan) ومارغريت تاتشر (Margaret Thatcher)، التي كان من المفترض أن تدافع عن القيم العائلية والأخلاق التقليدية والقانون والنظام والإيمان المسيحي والعودة إلى ماضٍ أسطوري، على الأقل بالنسبة للأمريكيين البيض، وقد عوّل دونالد ترامب (Donald Trump) على هذ التهديد المحسوس على سلامة ووحدة الأراضي الوطنية والشعبوية الاستبدادية في الاستيلاء على السلطة"(ص31).

وقد حذر ماركس (Marx) قائلا بأن الرأسمالية قد حملت في داخلها بذور فنائها، ولربما يأتي يوم عندما تستنفذ الرأسمالية قوتها وتنهار، ولم يعرف متى سيأتي ذلك اليوم، وقد كان ماركس، كما كتب ميغهاند ديزاي (Meghand Desai)، الاقتصادي والسياسي العمالي في المملكة المتحدة "فلكيا في التاريخ وليس منجما"، كان ماركس يدرك عن كثب قدرة الرأسمالية على الإبداع والتكيف، بيد أنه كان يعرف أيضا بأن التوسع الرأسمالي لم يكن مستداما إلى الأبد، وكما نشاهد نحن خاتمة الرأسمالية، فقد ثبت أن كارل ماركس (Karl Marx) هو الناقد الأكثر تبصرا والأكثر أهمية لهذا النظام.

وكتب ماركس بأنَّ مراحل نهاية الرأسمالية ربما تميزها التطورات المألوفة على نحو حميمي لسكرانتون (Scranton)، وربما يبدأ النظام الرأسمالي العاجز عن التوسع وخلق الأرباح في المستويات الماضية في استهلاك البنى التي كانت تدعمه، وربما يفترس، باسم التقشف، الطبقة العاملة والفقراء، فيسوقهم دائما إلى مديونية أشد وفقر أعمق، وينقص من قدرة الدولة على تقديم الحاجات الأساسية للمواطنين العاديين، وربما، يمكن على نحو متزايد أن ينقل الأعمال، بما في ذلك مراكز التصنيع والمراكز الاحترافية إلى بلدان تكون فيها مجموعات عمالية رخيصة؛ وهذا قد يطلق عدوانا اقتصاديا ليس فقط على الطبقة العاملة، بل على الطبقة الوسطى – حصن الديمقراطية الرأسمالية – التي ربما تكون متنكرة بمديونية شخصية كبيرة مع انخفاض المداخيل، أو بقائها جامدة وازدياد الاقتراض إلى حد كبير، وربما تصبح السياسة، في المراحل الأخيرة للرأسمالية، تابعة للاقتصاد، مؤدية إلى إفراغ الأحزاب السياسية من أي مضمون سياسي حقيقي وتبعية على نحو مذل لإملاءات الشركات.

ولكن ماركس حذر بأنه يوجد حد لاقتصاد مبني على التقشف وعلى سقل (وضع سقالة) توسع المديونية، وكان ماركس يعرف بأن هناك لحظة ما تأتي عندما لا توجد فيها أسواق جديدة ومجموعات جديدة من الناس لتحمل المزيد من المديونية، وهذا ما حدث بأزمة الرهونات العقارية ذات المخاطر العالية؛ وحينما لا تتمكن المصارف من استنباط مقترضين جدد ذوي مخاطر عالية، يتفكك المشروع وينهار النظام.

يقول  الكاتب في هذا السياق: "في هذه الأثناء، تخزن الطبقة الأوليغارشية الرأسمالية مبالغ هائلة من الثروة ـ7.6 تريليون دولار، مخبأة في ملاذات ضريبية خارج البلاد، المغتصبة كجزية من أولئك الذين يسيطرون عليهم ويستدينونهم ويفقرونهم. وقال ماركس؛ إن الرأسمالية تتحول في النهاية إلى ما يسمى السوق الحرّة إلى جانب القيم والتقاليد التي تدعي الدفاع عنها، وفي مراحلها النهائية تنهب الأنظمة والبنى التي جعلت الرأسمالية ممكنة، كما تسبب معاناة واسعة الانتشار، وقد تلجأ، إلى أشكال أكثر فظاظة من القمع للحفاظ على السيطرة الاجتماعية، وقد تحاول، في موقف أخير محموم، أن تنتزع الأرباح من خلال النهب، ومؤسسات الدولة الناهبة مغايرة طبيعتها المذكورة"(ص33)..

إن الخطر الأكثر شؤما الذي نواجهه يأتينا من تهميش وتدمير المؤسسات، بما في ذلك المحاكم والأكاديميات والهيئات التشريعية والمؤسسات الثقافية والصحافة التي كانت ذات يوم تضمن الخطاب المدني متجذرا في الواقع والحقيقة، بما يساعدنا على التفريق بين الأكاذيب والحقائق ويسهُل العدالة.

وقد تنبأ ماركس وفريدريك إنجلز (Friedrick Engels) أنَّ الشركات العالمية في الرأسمالية في مراحلها الأخيرة، سوف تمارس احتكارا في الأسواق العالمية، وقد كتبا قائلين: "إنَّ الحاجة إلى سوق متوسعة باستمرار لمنتجاتها تلاحق البورجوازية في جميع أنحاء الكرة الأرضية"، "ولا بد لها أن تعشش في كل مكان وتستقر في كل مكان، وتقيم ارتباطات في كل مكان"، ويمكن لهذه الشركات، سواء أكان ذلك في القطاع المصرفي أو صناعة الوقود الأحفوري أو الصناعات الزراعية وصناعة المواد الغذائية أو صناعات الأسلحة أو صناعات الاتصالات، أن تستعمل سلطتها من خلال الاستيلاء على آليات الدولة؛ لمنع أي شخص من تحدي احتكاراتها العالمية؛ وربما تثبت الأسعار لتقليل الربح، وربما تندفع، كما كانت تفعل حتى الآن، من خلال صفقات تجارية لزيادة إضعاف قدرة دولة الأمة على إعاقة الاستغلال، من خلال فرض أنظمة بيئية أو مراقبة ظروف العمل، وفي النهاية قد تطمس احتكارات الشركات المنافسة الحرة في السوق.

يقول الكاتب كريس هيدجيز: "إن طبقة لصوص الشركات الحاكمة، هم الحارقون السياسيون، هؤلاء الذين ينقلون علب البنزين إلى الوكالات الحكومية والمحاكم والبيت الأبيض والكونغرس لكي يحرقوا أي أبنية أو أي برنامج يهدف لتعزيز الصالح العام، وقد وصف ستيف بانون (Steve Bannon) وصفا صحيحا هذا الاعتداء على أنه تفكيك للدولة الإدارية، ويقوم الآن من عيَّنهم ترامب بتقليل أو تفكيك الوكالات التي عُيِّنوا من أجل قيادتها والبرامج التي من المفترض بهم أن يديروها، وهذا هو الدافع من وراء اختيارهم.

إن ريكس تيليرسن في وزارة الخارجية وستيفن منوتشين في وزارة الخزانة وسكوت برويت في وكالة حماية البيئة وريك بيتي في وزارة الطاقة وبن كارسون في وزارة الإسكان والتطوير العمراني وبيتسي دي فوس في وزارة التربية والتعليم، يقومون الآن بنسف قواعد المؤسسات الديمقراطية.

إن الخطر الأكثر شؤما الذي نواجهه، لا يأتينا من استئصال حرية الكلام من خلال محو الحياد الصافي أو من خلال خوارزميات (Algorithms) غوغل (Google) التي تصرف الناس عن مواقع المعارضين أو اليساريين أو التقدميين أو المناهضين للحروب؛ إنه لا يأتينا من قانون ضرائب عام 2017 الذي يتخلى عن كامل ادعاء المسؤولية المالية لإغناء الشركات والأليغاركيين (Oligarchs) (طبقة القلة من الأغنياء) ويمهد الطريق لتفكيك البرامج كبرنامج التأمينات الاجتماعية، وهو لا يأتينا من فتح الأراضي العامة لصناعة التنقيب والوقود الأحفوري والتعجيل في إبادة البيئة من خلال نسف الأنظمة البيئية، وتدمير التربية والتعليم العام، وهو لا يأتينا من تبذير الدولارات الاتحادية على العسكرية المتضخمة والبلد آخذ بالانهيار أو باستعمال أنظمة الضمان المحلية لتجريم المعارضين، إن الخطر الأكثر شؤما الذي نواجهه يأتينا من تهميش وتدمير المؤسسات، بما في ذلك المحاكم والأكاديميات والهيئات التشريعية والمؤسسات الثقافية والصحافة التي كانت ذات يوم تضمن الخطاب المدني متجذرا في الواقع والحقيقة، بما يساعدنا على التفريق بين الأكاذيب والحقائق ويسهُل العدالة.

يمثل ترامب والحزب الجمهوري في هذه الأيام المرحلة الأخيرة في نشوء شمولية الشركات، حيث يتم تبرير النهب والاضطهاد بالأكذوبة الدائمة؛ وتختلف الأكذوبة الدائمة عن أباطيل وأنصاف الحقائق التي يتشدَّق بها سياسيون مثل بيل كلينتون (Bill Clintom) وجورج بوش (George W. Bush) وباراك أوباما (Barack Obama)؛ ولم تصمم الأكذوبة الدائمة التي استخدمها هؤلاء السياسيون لإلغاء واقعنا، بل كانت شكلا من أشكال التلاعب.

عندما وقَّع كلينتون قانون اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية وعد بأن اتفاقية نافتا (NAFTA) تعني أعمالا أمريكية وأعمالا أمريكية بأجور جيدة؛ وبرر جورج بوش غزو العراق لأن صدام حسين (Saddam Hussein) على افتراض أنه كان يمتلك أسلحة دمار شامل؛ غير أن كلينتون لم يستمر بالادعاء بأن نافتا (NAFTA) كانت مفيدة للطبقة العاملة عندما أثبت الواقع خلاف ذلك، ولكن بوش لم يدَّع أن العراق كانت لديه أسلحة دمار شامل حينما ثبت عدم وجود ذلك.

لم تكن الأكذوبة الدائمة مقيدة بالواقع، ويخلدونها حتى بمواجهة الدليل القاطع الذي يفقدها مصداقيتها؛ إنها أكذوبة غير عقلانية؛ ويُهاجَم الذين يتحدثون بلغة الحقيقة والواقع على أنهم كذابون وخونة ومشيِّعو "الأخبار الزائفة"، ويجري إقصاؤهم عن الميدان العام حينما تستجمع النخب الشمولية قوة كافية، قوة تمنح لهم الإذن بإلغاء الحياد الصافي، ويخلق الرفض الحديدي من قبل أولئك المشاركين بالأكذوبة الدائمة؛ للإقرار بالواقع مهما أصبح الواقع شفافا، اضطرابا ذهنيا جماعيا"(ص 42).