كتب

في أمريكا.. الصراع من أجل الديمقراطية لم يتوقف

الديمقراطية الأمريكية محكومة بمال الأثرياء والمتنفذين
الديمقراطية الأمريكية محكومة بمال الأثرياء والمتنفذين
الكتاب: وداعا للحلم الأمريكي..المبادئ العشرة الأساسية في تمركز الثروة والقوة
المؤلف: نعوم تشومسكي
المترجم: محمد الأزرقي
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون/2017

يستعرض المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في كتابه هذا، مجموعة من الأسس أو الاستراتيجيات التي يستخدمها أصحاب النفوذ والمال في الولايات المتحدة، التي قادت وما زالت تقود معظم فئات المجتمع الأمريكي وطبقاته نحو مزيد من الضعف والتفكك، لصالح قلة من الأثرياء والمتنفذين الذين يتحكمون في مفاصل حياته السياسية والاقتصادية، بما يضمن لهم مراكمة المزيد من الثروات، وإن كانت على حساب ملايين الأمريكيين الذين يبحثون عن حياة كريمة وحلم أمريكي، أصبح -على ما يبدو- تحقيقه بعيد المنال.

الديمقراطية المنقوصة

يبدأ تشومسكي من عند ما يسميه "الديمقراطية المنقوصة" أو "تقويض الديمقراطية"، ويوضح أن ثمة صراعا حادّا وقويّا على امتداد التاريخ الأمريكي بين الضغط من أجل حرية وديمقراطية أكثر، (وهذا متأت من الطبقة الدنيا)، وبين جهود النخبة لبسط السيطرة وفرض النفوذ من أجل ديمقراطية منقوصة، (وهذا مصدره الطبقة العليا). فرغم أن جيمس ماديسون، الواضع الرئيس لإطار الدستور، كان شديد الإيمان بالديمقراطية، فإنه شعر بأن نظام الولايات المتحدة يجب أن يصمم، وقد حصل ذلك فعلا، لكي تكون القوة في يد طبقة الأغنياء؛ لأنها بحسب ما رأى فئة مسؤولة من الرجال، من الذين تترسخ المصلحة العامة في قلوبهم، وهي حتما ليست مصلحة محدودة أو مقصورة.

بعبارة أخرى، فإن هذا يقود إلى اختزال الديمقراطية وإعادة ترتيب النظام؛ لكي تكون السلطة بيد الأثرياء، وهذا يتطلب تجزئة النسيج الشعبي بعدة طرق للحيلولة دون تكاتف الشعب وتنظيم نفسه لكي يستولي على السلطة.

في المقابل، فإن الميول الديمقراطية التي تتمثل في رغبة عامة السكان قد حققت العديد من الانتصارات. فالنساء اللواتي يمثلن نصف السكان تمكن من الحصول على الحق بالتصويت في عشرينيات القرن الماضي، كما تم تحرير العبيد رسميا، وإن كان ليس على المستوى الواقعي، في ستينيات القرن الماضي بعد صراع طويل من أجل الحرية. إنها معركة مستمرة تتخللها أحيانا فترات من التقهقر وأخرى من التقدم. فستينيات القرن الماضي كانت فترة مهمة في تاريخ الديمقراطية، وهناك قطاعات من الشعب ـ ممن كانوا يتميزون بالسلبية واللامبالاة-، بدأت تنظم نفسها وتدفع بمطالبها، ثم أصبحت أكثر مساهمة في اتخاذ القرارات. إنها فترة، بحسب تشومسكي، تغيرت فيها الضمائر بطرائق عدة، فبدأنا نسمع عن حقوق الأقليات، وحقوق النساء، والخوف من تلوث البيئة، ومعارضة العدوان والاحتجاج ضده، والخوف على الناس الآخرين. وهذا كله استفز أصحاب النفوذ والمصالح الذين حشدوا قوتهم الاقتصادية والتنظيمية للتصدي بشراسة لموجة ديمقراطية حضارية.

 يضيف تشومسكي أنه يمكن ملاحظة الجهود الكبيرة والمركزة التي تبذل من قبل رجال الأعمال، منذ سبعينيات القرن الماضي، لوضع حد للنشاطات الداعية للمساواة. فمن جهة اليمين، نرى ذلك من خلال المذكرة الشهيرة التي بعث بها عضو المحكمة العليا لويس باول إلى غرفة التجارة في أوائل السبعينيات، يحذر فيها أعضاء الغرفة من أن رجال الأعمال يفقدون السيطرة على المجتمع، وأنه يجب القيام بعمل ما للوقوف في وجه القوى التي تدفع إلى إضعاف تلك السيطرة، حيث قال في مذكرته؛ إن طبقة الرأسماليين من أكثر الطبقات تعرضا للاضطهاد في المجتمع الأمريكي، وقد تم السيطرة على كل شيء من قبل اليسار المحموم بقيادة هربرت ماركوس ورالف نادر والإعلام والجامعات.

ومن جهة الليبرالية العالمية، فالتقرير الأول الصادر عن اللجنة الثلاثية (تشكيل سياسي يضم ليبراليين عالميين من ثلاثة كيانات صناعية رأسمالية، هي: أوروبا واليابان وأمريكا الشمالية)، ركز على عدم رضاه عن الاتجاهات الديمقراطية التي جاءت بها فترة الستينيات، والتي كان الشباب والنساء في طليعة المطالبين بها. وقال إن ما حدث مرده إلى فشل في النظام التعليمي والجامعات والكنائس، معتبرا أن هذه المؤسسات مسؤولة عما جرى للشباب من عمليات "غسل الدماغ".

وذهبت اللجنة إلى تقديم عدد من الاقتراحات للعودة إلى ما أطلقت عليه اسم "الاعتدال في الديمقراطية"، مثل السيطرة على الصحافة، وتشجيع الناس للعوة إلى السلبية واللامبالاة. يتابع تشومسكي أنه منذ مطلع السبعينيات، تم إعادة النظر في طراز عمارة بناء الكليات، فالمباني الجديدة صممت لتفادي وجود أماكن يمكن أن تستوعب تجمعات كبيرة للطلبة، وعليه يمكن دفعهم في الأروقة للسيطرة على تحركاتهم.

بالإضافة إلى ذلك، فقد شهدت العقود التالية ارتفاعا متزايدا في كلفة الدراسة الجامعية، ما أدى إلى حرمان قطاعات كبيرة من المواطنين من فرص التعليم الجامعي، وحتى أولئك الذي تمكنوا من تجاوز هذه العقبة، وجدوا أنفسهم وقد وقعوا في فخ الديون. والاتجاه نفسه تكرر في المرحلتين الابتدائية والثانوية، حيث أصبح الميل في مناهج التعليم في هاتين المرحلتين يركز على المهارات الميكانيكية، على حساب الإبداع والاستقلالية لدى الطلبة.

إعادة تصميم

رد الفعل الأقسى على حركة ديمقراطية سنوات الستينيات كانت في إعادة تصميم اقتصاد البلد، بحسب تشومسكي. فمنذ سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن، تبذل جهود حثيثة من قبل الذين يحكمون المجتمع ويتحكمون به؛ بهدف تغيير الاقتصاد من ناحيتين أساسيتين. أولاهما: زيادة دور نفوذ المؤسسات المالية، بما فيها البنوك وشركات الاستثمار وشركات التأمين، بحيث إنه بحلول عام 2007 كان هذا القطاع يمتلك حوالي 40% من مجموع أرباح الاحتكارات، وهذا أكبر مما كان عليه في أي لحظة من التاريخ الأمريكي. وثانيهما: تحول مهمة الإنتاج الصناعي ومكانه. يقول تشومسكي؛ إن فترة الخمسينيات والستينيات، تميزت بأكبر نمو اقتصادي في تاريخ البلاد، كان للجميع نصيب منه، سواء ذوو الدخل القليل أو ذوو الدخل العالي. كما تم توفير الرعاية الاجتماعية لغالبية السكان.

حدث ذلك حين كانت الولايات المتحدة بشكل أساسي مركزا صناعيا، وكان اهتمامها ينصب على حال مستهلكي سلعها في داخل البلاد. خلال فترة النمو هذه، كانت الضرائب المفروضة على الأثرياء أعلى بكثير مما هي عليه الآن، كما هي الحال أيضا بالنسبة للضرائب المفروضة على الاحتكارات، وعوائد الاستثمارات. لكن ما حصل بعد ذلك، أنه أعيد تصميم نظام الضرائب بشكل أدى إلى خفضها على الأثرياء ورفعها على الرواتب والأجور والمستهلكين، وهذا تغيير كبير وقع على عاتق الأغلبية العظمى من الشعب.

الحلقة المفرغة

 يتحدث تشومسكي أيضا عن الانتخابات الأمريكية التي تتحكم فيها أموال الأثرياء والمتنفذين، مذكّرا بأن تركيز الثروة يؤدي إلى تركيز القوة السياسية، سيما وأن كلفة الانتخابات وصلت إلى أرقام فلكية، وهو ما يؤدي إلى تمزق النظام الديمقراطي من خلال الزيادة المتسارعة في القدرة على "شراء" الانتخابات.

يشير تشومسكي إلى القوانين الأمريكية التي تسمح لأصحاب الأموال بالتصرف في أموالهم بحرية كاملة ودون قيد أو شرط، وبما يشمل استخدامها في الانتخابات، معتبرا أن ذلك يعد هجوما سافرا على الديمقراطية أو ما تبقى منها.

ويقول؛ إن "هذا الوضع أعطى رجال الأعمال قوة كبيرة بشكل فاق ما كان معروفا تاريخيا. إن قضاة المحكمة العليا يتم ترشيحهم لمناصبهم من قبل رؤساء رجعيي التفكير، وهم أنفسهم وصلوا إلى مراكزهم بتمويل من رجال الأعمال. الأمور تسير في حلقة مفرغة". ويضيف أن تمويل الحملات الانتخابية لا يقتصر على وضع المرشحين في المراكز المطلوبة فقط، فالمرشح المدين لك بالفضل يفتح لك الأبواب؛ لأنه يريد أن يظل التمويل مستمرا. وحين يفوز المرشحون فذلك يعني أن ممثلي الممولين سيتوافدون على مكاتب المشرعي،ن ليقدموا لهم مشاريع قوانين يدفعون بها إلى الكونغرس للمصادقة عليها. في الواقع أن ما يظهر في النهاية كنصوص قانونية، هو ما أعده ممثلو الممولون للحملات الانتخابية.

يتحدث تشومسكي أيضا عن الانتخابات الأمريكية التي تتحكم فيها أموال الأثرياء والمتنفذين، مذكّرا بأن تركيز الثروة يؤدي إلى تركيز القوة السياسية، سيما وأن كلفة الانتخابات وصلت إلى أرقام فلكية، وهو ما يؤدي إلى تمزق النظام الديمقراطي من خلال الزيادة المتسارعة في القدرة على "شراء" الانتخابات.
بحسب تشومسكي هناك قوة واحدة منظمة كانت وما زالت، رغم هفواتها، في طليعة الجهود المبذولة لتحسين حياة المواطنين بشكل عام، وهذه الجهة هي اتحادات العمال، التي تمثل العائق الوحيد "للحلقة المفرغة"، التي تقود إلى طغيان أصحاب الأموال. ويقول إن السبب الرئيس للهجوم المركز على اتحادات العمال وتنظيماتهم، هو أنهم يمثلون الديمقراطية الحقيقية. فهم السد المنيع المدافع عن حقوق العمال، وعن الحقوق الأخرى أيضا، التي يطالب بها الشعب عموما، وهذا يتعارض مع امتيازات أولئك الذين يمتلكون المجتمع ويقومون بتوجيهه وإدارته.

في منتصف الثلاثينيات، كان هناك نوع من التعاون بين حكومة متعاطفة مع نشاطات شعبية فاعلة، وقد جرت إضرابات داخل المصانع شلت إنتاجها؛ ما زرع الخوف في قلوب أصحابها، الذين كانوا يتحدثون في الصحف عن "الكوارث التي ستواجه الصناعيين في ضوء زيادة المد السياسي للجماهير". كانوا يقولون: "يجب أن نقاتل حتى آخر معركة للفوز بالتأثير على عقول الرجال، وترسيخ قضية النظام الرأسمالي وجودته في عقولهم". لكن هجومهم القوي على الاتحادات بدأ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، خاصة حين أصبحت المؤسسات التشريعية والتنفيذية رهن تبرعاتهم السخية للحملات الانتخابية. ونجم عن ذلك تدني فعالية الاتحادات وضعف أدوارها في الساحة السياسية والمهنية. فمثلا بلغت نسبة العمال المنضوين تحت رايات الاتحادات والنقابات ذروتها عام 1954 حيث وصلت إلى 35%. وكان عدد العمال النقابيين عام 1979 يقدر بنحو 21 مليون عامل وعاملة. بدأت الأعداد بالانحسار منذ ذلك التاريخ؛ فمثلا عام 2016 كان عدد الأعضاء نحو 14 مليونا.

يدعو تشومسكي لزيادة الوعي الطبقي لدى المواطنين، ويقترح العمل بما تم القيام به في ثلاثينيات القرن الماضي. ويقول؛ إنه علينا أن نتذكر أن ما تم القيام به حدث عقب فترة من شيوع عدم المساواة العميقة، والكساد، وتدمير الحركة العمالية، حين كان المجتمع أكثر فقرا مما هو عليه الآن، وتوفرت فيه فرص قليلة ومحدودة. بإمكاننا أن نقوم بإجراءات الثلاثينيات، وأن نغير تيار النمو نحو الاتجاه المغاير؛ لأن الأمور لا تحدث من تلقاء ذاتها.

ويرى تشومسكي أن أهم طريقة للتغيير هي بتواصل وتفاعل المعنيين به، أي النشطاء وعامة الناس. فتبادل الأفكار ورصد ردود الفعل عليها، كفيل بوضع اليد على الخلل ومحاولة إصلاحه، كما أن هذا التفاعل يثقف الناس ويشجعهم على الخروج من دائرة السلبية إلى دائرة التنظيم والفعل.
التعليقات (0)