كتب

هذا تاريخ مدينة يافا الفلسطينية في خطط الاحتلال والمقاومة

دراسة الحالة السياسية والاقتصادية والثقافية للمدن الفلسطينية.. يافا نموذجا
دراسة الحالة السياسية والاقتصادية والثقافية للمدن الفلسطينية.. يافا نموذجا
الكتاب: صورة مدينة يافا من خلال جريدة فلسطين 1929-1939م، دراسة توثيقية نقدية.
الكاتب: محمد خالد أبو معمر.
الناشر دار الشامل، الناصرة، الطبعة الأولى،2022م
عدد الصفحات: 112 صفحة


تخبرنا الصحف الأرشيفية عن خبايا مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بمختلف تفاصيلها، تفاصيل لا نجدها في المذكرات الشخصية أو اليوميات أو حتى الوثائق التاريخية، اختار الكاتب في دراسته مدينة يافا التي زخرت بالأحداث السياسية والاقتصادية والثقافية، فهي المدينة التي تمثل بمينائها البحري منفذا لدخول فلسطين، والوصول إلى مدينة القدس، ومن هذه المدينة تسلل المهاجرون الصهاينة إلى فلسطين، واختفوا في المدن بمعاونة قناصل الدول الأوروبية تحت حجج متعددة، كيف لا وتلك القنصليات مثلت المنفذ للمخططات الاستعمارية تجاه فلسطين، والحامية للاحتلال.

ركزت هذه الدراسة على الجانب الاقتصادي للمدينة خلال الفترة عام 1929-1939، من حيث مشاركة مدينة يافا في العملية التجارية والمحصول الزراعي الأشهر الذي اعتمدت عليه تجارة المدينة، ألا وهو برتقال يافا. من جانبٍ آخر، كان للمدينة حضورها السياسي في تلك المرحلة، خاصة في الثورة الفلسطينية الكبرى، حيث حاول أبو معمر استيضاح العلاقة بين تفاعل الحال السياسي للمدينة، مع السياق الاقتصادي التي كانت تعيشه من خلال جريدة فلسطين.

ابتدأ الكاتب دراسته بفصل تمهيدي، طرح فيهِ الموقع والأهمية الاستراتيجية لمدينة يافا، ومدلول اسم المدينة، التي تنتسب إلى يافث بن نوح، الذي بناه أولا، وفي زمن الملك سليمان كانت ميناء لمدينة القدس، وعبرها جلبت الأخشاب لترميم بيت المقدس وقبة الصخرة في مدينة القدس، ويعتبر الاسم يافا تحريفا للاسم الكنعاني يافي( Yafi )، الذين أقاموا فيها بالألف الثالث قبل الميلاد، وأحاطوها بالأسوار، وسكنها الفلسطينيون الذين اختلطوا بالكنعانيين، وأطلقوا اسمهم على كامل فلسطين، وفي معركة اليرموك سنة 636م انهزم جيش الرومان بقيادة هرقل أمام جيوش العرب المسلمين، وأطلق عليها الفرنجة زمن الحروب الصليبية جافا(Jaffa) 1099م، فدمر المسلمون المدينة وميناءها؛ كي يمنعوا المحتلين الفرنجة من استعماله (ص 15 ـ 18)، ومع دخول الأتراك العثمانيين فلسطين، شهدت يافا نهضة عمرانية، خاصة فترة الوالي العثماني مير محمد آغا سلحشور، المعروف بأبو نبوت"، الذي تعتبر فترة حكمه العهد الذهبي لمدينة يافا، إذ تم بناء السور حول المدينة، وأقيم حولها خندق، بالإضافة إلى بناء المسجد الكبير، وأنشأ سبيل ماء على طريق الرابط يافا بالقدس" (ًص20).

أما أهم الصناعات التي اشتهرت بها مدينة يافا، فكان عمل دفاشات المراكب، وعمل وتصليح الطلمبات ومحركات السيارات، وعمل عجلات عربات الحنطور، والمعاصر ومكابس المصابن، ووصل عدد بساتين البرتقال حسب مصادر القنصلية الأمريكية في القدس نحو500 بستان، ضمت نحو 800.000 شجرة، حيث اشتهر برتقال يافا في العواصم الأوروبية كباريس ولندن.

زخرت يافا بالنشاط الثقافي، فقد صدر فيها عشر مجلات أسبوعية وصحف يومية أواخر العهد العثماني، وضمت مجموعة من المكتبات العامة كالمكتبة الإسلامية التي احتوت على المخطوطات والمطبوعات، والمدراس الحكومية والخاصة ورياض الأطفال، إذ بلغ عدد سكانها نحو 47.709 نسمة عام 1922م.

بدأت الحركة الصهيونية بإقامة المستوطنات على أطراف المدينة "كانت يافا دائماً هدفاً ومطمعاً لكل الغزاة الذين تواردوا إلى فلسطين؛ وذلك بسبب موقعها الاستراتيجي في وسط الساحل الفلسطيني.. ولذلك أصبحت متمرسة في النضال ضد كافة المحتلين، فهي تتمتع بوعي سياسي متقدم؛ كونها المركز الرئيس للصحافة في فلسطين" (ص25).

اعتمد الكاتب على جريدة فلسطين التي تأسست عام 1911م، أي في أواخر العهد العثماني، وبرز نشاط الصحيفة خلال فترة الانتداب؛ كونها صحيفة سياسية أدبية دقت ناقوس الخطر الصهيوني منذ بداياته، وكان لها دورها الوطني الريادي، لذلك تم إيقافها عن الصدور مدة ست سنوات متتالية؛ لتناولها مقالات تنتقد سياسات حكومة الانتداب والحركة الصهيونية"؛ ولذلك اعتبرت عقبة كأداء في وجه مصالحهم ومشروعهم، وتآمروا في السر والعلن لإطفاء شعلتها وإخراس صوتها، ليتمكنوا من تنفيذ برامجهم" (ص30)، وتكمن أهمية هذه الصحيفة، في أنها صدرت باللغتين العربية والإنجليزية بدءا من عام 1921م.

كانت يافا دائما هدفا ومطمعا لكل الغزاة الذين تواردوا إلى فلسطين؛ وذلك بسبب موقعها الاستراتيجي في وسط الساحل الفلسطيني.. ولذلك أصبحت متمرسة في النضال ضد المحتلين كافة؛ فهي تتمتع بوعي سياسي متقدم؛ كونها المركز الرئيس للصحافة في فلسطين

خُصِص الفصل الثاني للحديث عن السياق الاقتصادي لمدينة يافا خلال حكم سلطات الانتداب البريطاني من عام (1929 ـ 1939)، مُحاولا توثيق أهم الأدوار الاقتصادية للمدينة، على المستوى المحلي، والمستوى الخارجي العربي والأوروبي، وركز الكاتب على اقتصاد يافا المتمثل في إنتاج محصول البرتقال، الذي زاد من الدخل القومي للمدينة مع وجود مينائها البحري، حيث اعتاش معظم أهالي مدينة يافا من أعمال التصدير والاستيراد، إذ جلبت بيارات الحمضيات الرخاء للمدينة، حيث قدر عدد العاملين في مجال قطف البرتقال وتعبئته نحو 550 شخصا عام 1879م، لتشهد المدينة اهتماما أوروبيا، كونها وصفت بعاصمة فلسطين الاقتصادية والتجارية، ففلسطين بلد زراعي من الدرجة الأول،ى حيث قدرت سلطات الانتداب أن نحو 9.000.000 دونم زراعيّ من مساحة فلسطين المقدرة 26.319.00 دونم (ص36).

وفي حديثه عن الحركة التجارية لميناء يافا التي تعرضت لعملية سلب منظم من الحركة الصهيونية، إذ بلغ نسبة 10.2 % من أهالي يافا يعملون في التجارة، في حين شكل الصهاينة نسبة 36.8 % من مجموع التجار، علما بأن نسبة الصهاينة إلى مجموع السكان كانت 1 ـ 18% في عام 1931م، ويشير الكاتب: "كانت معظم قنوات التجارة الخارجية، تجارة الجملة استيرادا وتصديرا بيد التجار الصهاينة، فهم جاؤوا من أنحاء أوروبا ويعرفون الأحوال هناك أكثر من العرب؛ فاستطاعوا أن يجدوا التجار الأجانب الذين يصرفون لهم البضائع، ثم إن تجارة الجملة لمواد البناء والأثاث والمنسوجات والخمر، كانت في أيدي الصهاينة" (ص38).

يضيف الكاتب حول أهمية ميناء يافا: "كان ميناء يافا محطة لنزول الحجاج والسياح القادمين لزيارة الأماكن المقدسة، ولا سيما أنها ارتبطت بسكة الحديد، وكانت الأهمية النسبية لأنشطة التفريغ والتحميل للبضائع موزعة بين حيفا ويافا عام 1930م، فقد استحوذت يافا على ما نسبته 55% من مجمل البضائع المحملة إلى الخارج" (ص 40)، وزادت حركة البواخر التجارية في الفترة 1930 ـ 1937م، ما يعني زيادة حركة الاستيراد والتصدير، حيث فاقت في حجمها ميناء بيروت الديناميكي وميناءي طرابلس وصيدا معا، وأعلنت شركة اللينرس البريطانية عن تدشين خط بحري لشحن البرتقال ما بين حيفا وإنجلترا، حيث "شدد  المستر لينل هاليز، أن حيفا لا تناظر يافا في شحن البرتقال؛ بل تساعدها في ذلك، وأن حيفا هي المرفأ الطبيعي لفلسطين لشحن البرتقال؛ لازدياد محصوله ازديادا يتعسر على ميناء يافا وحدها القيام بشحنه بشكل كامل" (ص41).

ويؤكد الكاتب في وصفه لمحصول البرتقال: "ولا نبالغ إذا قلنا إنه أفخر نوع من أنواع البرتقال في العالم، حتى إن الدوائر الزراعية الأمريكية اعترفت بأن برتقال يافا أفضل برتقال كاليفورنيا في الطعم والرائحة" (ص45)، وكانت واجهة تصديره إلى دمشق والأردن والحجاز والولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا، وشهدت صادراته ارتفاعا ملحوظا، فزادت من 2.4 مليون صندوق 1930 ـ 1931م إلى نحو 13 مليون صندوق عام 1938-1939م، وقد تنبه الصهاينة وسارعوا إلى استملاك أراضي السهل الساحلي الفلسطيني، فسيطروا على نحو 150 ألف دونم، بمساعدة حكومة الانتداب؛ سعيا منها للسيطرة على تجارة البرتقال، ووصل إلى إنجلترا 50.395 صندوق برتقال في شهر آذار عام 1938م.

تمحور الفصل الثالث حول السياق السياسي للمدينة، وأوضح فيه الكاتب دور مدينة يافا في الأحداث المفصليّة كثورة البراق 1929م، حيث أوقفت سلطات الانتداب الجريدة من 7 ـ 23 حزيران 1930م؛ لمنع أي احتجاج عقب صدور أحكام بإعدام ثلاثة من شبان الثورة، لتكميم الأفواه، وعدم نقل صورة ما يجري في مدينة يافا من احتجاجات ومواجهة مع القوات الإنجليزية، حيث تزامن ذلك مع بدء نشاطات نوعية لمقاطعة التجار الصهاينة والبضائع الأجنبية، ومحاولة فلسطينية جادة لإيجاد قاعدة اقتصادية عربية فلسطينية مستقلة، إذ بلغت المقاطعة في مدينة يافا درجة عالية من الالتزام (ص62).

قادت مدينة يافا العمل النضالي السياسي، فعقد فيها مؤتمر الشباب الوطني في يافا عام 1933م، الذي أعلن أن حكومة الانتداب هي العدو الأول الذي يجب محاربته بجميع الوسائل المشروعة، " تألفت فرق عديدة من الشباب لحراسة الشواطئ والحدود ـ لمنع تسرب الصهاينة ـ وحضر المؤتمر ستمائة عربي يمثلون جميع المناطق والطوائف والطبقات والأحزاب، وتقرر فيه مبدأ اللاتعاون مع الحكومة البريطانية، ومقاطعة المصنوعات الإنجليزية والصهيونية"(ص64)، وتم إنشاء صندوق الأمة لحث الأهالي على شراء أسهم في شركة إنقاذ الأراضي التابعة للصندوق، والوقوف بالمرصاد للشركات الصهيونية. ومن مدينة يافا عقب المؤتمر انطلقت المظاهرات الرافضة للوجود الصهيوني، التي قوبلت بالعنف الفائق من سلطات الانتداب، ولذلك أصبحت يافا مقصد الثوار، ودشن أول إضراب يوم 26 تشرين أول (أكتوبر) 1933م، تخلله صدام مع القوات الإنجليزية، "كان المتظاهرون ينشدون الأناشيد الوطنية وعبروا عن استيائهم بسبب الحال الذي وصلت إليه البلاد بعد عمليات الهجرة الكبيرة من الصهاينة إلى فلسطين ومدينة يافا، التي كان ميناؤها هو المحطة التي تستقبل فيها سفن الصهاينة الآتية من الدول الأوروبية"، وامتدت مظاهرات يافا إلى والقدس وبئر السبع وحيفا، ونابلس، وغزة (ص70).

قادت مدينة يافا العمل النضالي السياسي، فعقد فيها مؤتمر الشباب الوطني في يافا عام 1933م، الذي أعلن أن حكومة الانتداب هي العدو الأول الذي يجب محاربته بجميع الوسائل المشروعة

 وعن الثورة الفلسطينية الكُبرى، التي انطلقت عام 1936م، حينما أمعنت الحركة الصهيونية بتطبيق سياسية العمل العبري، ورفضت تشغيل أي عامل عربي، وحصرت العمل للصهاينة فقط في بساتين يافا المسلوبة، ومناقصات البناء التي منحت حكومة الانتداب للصهاينة، "العمال العرب أصبح لديهم موقف سلبي وغاضب من الحكومة البريطانية؛ بسبب إعطائها تعهد بناء ثلاث مدراس عربية في يافا لمقاولين صهاينة" ، وخلال شهر نيسان 1936م تفاقمت الأوضاع المتوترة في يافا حينما قتل صهيوني ثلاثة رجال وامرأة، ليعم الإضراب والمظاهرات الغاضبة يافا، وأطلقت النيران على المتظاهرين، وتزايدت اعتداءات الصهاينة على البائعين الفلسطينيين قرب تل أبيب، الذين ردوا بقتل سبعة صهاينة وجرح ثلاثين منهم، فزادت الأعمال الانتقامية الصهيونية ضد الفلسطينيين، ليبدأ الإضراب 20/4/1936م، وعم بقية المدن الفلسطينية التي زاد فيها الاحتقان من ممارسات حكومة الانتداب، التي حذرت رئيس بلدية يافا بين العدول عن الإضراب أو تطبيق المندوب السامي لصلاحياته التي خولها له قانون البلديات، ولكن مجلس بلدية يافا رفض الإذعان وقرر الاستمرار في الإضراب الذي استمر 176 يوما حتى تم تعليقه، وهو أطول إضراب شهده العالم.

وأمام تزايد المواجهات في يافا وعدم استطاعة سلطات الانتداب السيطرة عليها؛ "حيث كانت أزقة وشوارع مدينة يافا وأحياؤها القديمة الضيقة، مكانا وملجأ للثوار في تلك المرحلة؛ هذا ما جعل الإنجليز يواجهون صعوبة شديدة في ملاحقة الثوار والرد على عملياتهم المسلحة في مدينة يافا، مما دفع العسكريين الإنجليز لفتح شارع واسع كبير عبر تلة تقوم فوقها البلدة القديمة في يافا، وذلك يعني هدم عدد كبير من المنازل وإزالة جانب كبير من الحي الواسع"؛ حيث نسفت بتاريخ 16 حزيران/ يونيو 1936م، بالمتفجرات الحيَّ العربي القديم في يافا؛ بدعوى إعماره وتحسين مدينة يافا ببناء طريق لمنفعة أهالي المدينة بأكملها، فهدمت نحو 220 بيتا كان يقطنها 450 عائلة عربية، تشتت وأصبحت بلا مأوى (ص79).

خلص الكاتب للقول بأن قوة البنية الاقتصادية لمدينة يافا انعكست على الدور السياسي الذي قامت به المدينة، فالبنية الاقتصادية مدت أهالي المدينة وأعيانها بالقوة الكافية للمضي قدما في مواجهة سياسة الانتداب البريطاني الداعمة للمشروع الصهيوني، فكانت مدينة يافا المحرك الرئيسي في سير الأحداث التي وقعت ضد السلطات البريطانية والمشروع الصهيوني، فتمت إدارة الثورة والتخطيط لها من مدينة يافا وأعيانها، والتشبيك مع المدن الفلسطينية الأخرى التي لبت نداء الثورة.

وأخيرا، هذا الكتاب يمثل خطوة جادة لدراسة الحالة السياسية والاقتصادية والثقافية للمدن الفلسطينية خلال فترة مهمة من تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر، تتمثل في نبش ما كتب على متن صفحات الصحف الفلسطينية والعربية والأجنبية؛ كونها تمثل مرآة النضال الفلسطيني بمختلف أشكاله، الذي تعرض لكثير من التشويه من الكتاب الإسرائيليين ومن دار في فلكهم.
التعليقات (0)