قضايا وآراء

قيس سعيد بين "جزرة" ماكرون.. و"عصا" أمريكا

المهدي بنعبد الجواد
1300x600
1300x600

فيما يُواصلُ الرئيس قيس سعيد معاركه الداخلية، فاتحا النار على الجميع، وفيما تتواصل تأثيرات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية عُنفا على شرائح واسعة من المجتمع التونسي، تتواصل الضغوط الخارجية على "حاكم تونس" وتجاوزت بعض التصريحات معدّلات الكياسة الدبلوماسية، وخرجت أخرى على الأعراف وواجبات التحفّظ. فبعد سنة ونصف من "الانقلاب الدستوري" الذي مكن قيس سعيد من الإمساك بمقاليد الحُكم وعطّل المؤسسات وحلّ الهيئات، وانتهك شروط المحاكمات العادلة، أجرى استفتاء غابت عنه كل شروط نزاهة الانتخابات وشفافيتها، واستعمل فيه كل مقدرات الدولة. ورغم ذلك لم ينجح في "الرفع من نسب المشاركة" التي تضمن له القبول بدستوره.

 

وبعد صدور أحكام المحكمة الإدارية التي أقرّت بتجاوز السلطة في إعفاء مجموعة كبيرة من القضاة، يبدو "نظام سعيد" معزولا داخليا وخاصة خارجيا. وفي هذه الورقة سنقوم برصد بعض هذه التصريحات، في محاولة لفهم مآلات الوضع في تونس في الفترة المقبلة.

الفرنسيون.. الجزرة

التزم الاتحاد الأوروبي ببعض الديبلوماسية في علاقة بتطور الأحداث في تونس منذ "25 تموز (يوليو) 2021"، ولكن هذا الموقف عرف تحولات وتقلبات، إذ هادن في كثير من الأحيان "قيس سعيد"، ونتذكر تصريحات المسؤولين الاوروبيين الذين ظل أغلبهم مناديا بضرورة "ارساء منظومة ديمقراطية تشاركية" دون حديث مباشر على العودة إلى ما قبل "حالة الاستثناء". ولئن خفّفت أوروبا من مساعداتها المباشرة إلى تونس، فإنها لم تعلن صراحة إن ما حصل بها يرتقي إلى منزلة "الانقلاب" الذي يستدعي إتخاذ عقوبات أو إجراءات زجرية. واكتفى التوصيف الأوروبي بكون ما حصل كان "توسّعا في تأويل الفصل 80".

لكن الملاحظ ان النخب والصحافيين وصُنّاع الرأي خاصة في الصحافة الفرنسية والالمانية والانجليزية، هي التي تولّت قيادة جبهة "رفض قيس سعيد" وعبّرت جريدة لوموند صراحة على هذه المواقف الرافضة "للانقلاب" والخطيرة على مستقبل الحريات والديمقراطية. بل وتم الدفع في اتجاه تصنيف قيس سعيد ضمن "نموذج جاهز" للحكم، يُثير الخوف لدى أوسع جمهور اوروبي، إذ هو "قذافي جديد" وهو صاحب "مشروع قومي عربي معادي للثقافة الاوروبية وقيمها الديمقراطية".

لكن هذا الموقف الحذر، صار أكثر صراحة و"عُنفا" وعبّرت عليه مختلف البيانات التي تلت عملية الاستفتاء. إذ كان ثمة تماهي في مواقف دول أوروبا وبريطانيا، في كون الاستفتاء منقوص الشرعية نتيجة ضعف المشاركة ونتيجة لافتقاد المسار الذي قاد اليه لشروط التشاركية وغياب الشفافية والنزاهة في العملية الانتخابية نفسها.

واللافت في الأمر بعد كل هذا، هو الموقف الفرنسي الأخير الذي عبّر عليه الرئيس ماكرون خلال مكالمته الهاتفية مع الرئيس سعيّد. ورغم أن الفرق واضح ـ كالعادة ـ بين بيان الرئاستين، فإن الثابت يكمن في كون الرئيس الفرنسي اقترح على نظيره التونسي خارطة طريق للخروج من الأزمة الحالية، وتجنب تأثيرات الأزمة الاقتصادية وبخاصة أزمة الغذاء المُحدقة بالعالم. حيث وفي تغيّر مفاجئ، قال الرئيس الفرنسي إن "إجراء الاستفتاء على مشروع الدستور خطوة مهمة في عملية الانتقال السياسي الجارية" وهو ما يعني اعترافا ضمنيا بـ "مسار الإصلاح السياسي" الذي يقوده الرئيس منذ أكثر من سنة. وعبّر ماكرون في نفس السياق عن استعداد فرنسا لدعم تونس في مفاوضاتها مع صندوق النقد، وعلى "استعداد فرنسا للعمل مع تونس لتلبية الاحتياجات الغذائية للبلاد في مواجهة النقص الذي سببته الحرب في أوكرانيا".

 

ليس أمام قيس سعيد بحسب المقاربات الخارجية إلّا حلان لا ثالث لهما كلاهما إيذان بنهاية مرحلة. التراجع على "عناده" والتوقف على سياساته الانفرادية والجلوس إلى طاولة التفاوض مع بقية القوى الوطنية والمنظمات والمجتمع المدني، بشكل يستأنف المسار الديمقراطي ويُعيد السلطة للمؤسسات ويجدّد الشرعية.

 



إن تصريحات ماكرون تأتي في وقت مهم لقيس سعيد، الذي يشعر أكثر من أي وقت مضى أنه "معزول ومحاصر" وأن الاستفتاء لم يُحقّق له مبتغاه، فضلا على غرق حكومته في إدارة الازمات يوميا وافتقادها لأية رؤيا أمام شح الموارد المالية ومماطلة صندوق النقد الدولي وتمطيطه المفاوضات دون أفق واضح. 

تصريحات ماكرون "جزرة" مهمة تمنح سعيد ونظامه جرعة اكسيجين هو في حاجة اليها، ولكنها "جزرة" مشروطة، وليست هدية مجانية. إذ ربط الرئيس الفرنسي بينها وبين ضرورة "استكمال الإصلاح في المؤسسات، ضمن إطار حوار شامل" مما يعني أن فرنسا ترهن "اعترافها بنظام قيس" و"انقاذه" من أزمته المالية وأزمته الغذائية بقبوله الدخول في حوار وطني شامل تشارك فيه كل القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والنقابات. بما يعني أن ماكرون يدفع في اتجاه تخلي قيس سعيد على "سلوكه السياسي الانفرادي" وعلى معاداته لبقية الفاعلين السياسيين، من أجل الدخول في عهد شراكة سياسي جديد، قوامه إصلاحات اقتصادية تقود إلى اتفاق مع صندوق النقد، واصلاحات سياسية تقود إلى اعادة احياء المسار الديمقراطي المُتعطّل منذ سنة، ويقود إلى انتخابات تشريعية ورئاسية تُعيد الكلمة للشعب صاحب السيادة، وبمشاركة كل الأحزاب السياسية دون إقصاء.

تلك هي "الجزرة"، وذلك هو الشرط. ودون ذلك سيبقى الحال على ما هو عليه، وعلى قيس سعيد وحكومته مواجهة كل التحديات دون التعويل على اية مساعدة خارجية، وهو ما سيقود تونس لا محالة إلى إنهيار كبير وفوضى عارمة من خلال تنبؤات مراكز البحث ووكالات التصنيف الائتمانية.

الأمريكيون.. العصا

تطور الموقف الأمريكي تجاه تونس منذ "تموز (يوليو) 2021"، تطور يعكسه التدرج في نوع المسؤولين الذي توافدوا على تونس، أو عبروا على مواقف الإدارة الأمريكية مما يحصل فيها. فقد بدأ الأمر ببعض أعضاء الكونغرس ثم مسؤول الأمن القومي فمستشارة بايدن لشؤون حقوق الإنسان. ثم انتقل الأمر من لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس إلى مستشاري الرئيس فإلى  وزير الخارجية ومنه أخيرا إلى وزير الدفاع. هذه التحولات تقول صراحة أن الولايات المتحدة جعلت تونس في قلب "أمنها القومي" وأن "الحالة" التونسية لم تعد مجرد مسألة دبلوماسية تتعلق بالديمقراطية والدستور وحقوق الانسان بل هي مسألة أمنية وجيوسياسية حسّاسة وفي قلب اهتمامات المؤسسات العسكرية والاستخبارتية الأمريكية.

نذكر تصريحات جوي هود السفير المرشح ليكون ممثلا لبلاده في تونس، والتي كشف فيها برنامج عمله والذي "سيستخدم فيه جميع أدوات النفوذ الأمريكي للعودة إلى الحكم الديمقراطي وتخفيف معاناة التونسيين" كما دعا المؤسسة العسكرية للنأي بنفسها عن الانخراط في كل ما من شأنه المس بالحريات والاكتفاء بحماية الدولة والنظام الجمهوري واتباع سياسات تضمن احترام حقوق الإنسان.

كما عبّر وزير الخارجية الأمريكي على "خيبة الأمل" الأمريكية من مسار الرئيس، واعتبر الدستور الجديد منقوص الشرعية ولم يعبّر على إرادة شعبية واسعة، ودعا إلى حوار وطني شامل وجامع دون إقصاء، لان مسار قيس سعيد غير الديمقراطي، مُذكّرا بكون الولايات المتحدة الأمريكية ستعمل مع شركائها الدوليين على حماية الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان والعملية الانتخابية في تونس، وجعل ذلك شرط المساعدات الاقتصادية لتونس.

 

بين "الجزرة" المُرّة التي لوّح بها الرئيس ماكرون، و"العصا" الغليظة التي تُلوّح بها أمريكا، تبدو خيارات الرئيس سعيّد محدودة. تزيد في ضيق هامشها افتقاد الرئيس لمهارات المناورة وآليات التواصل، ناهيك على الفراغ المحيط به، وغياب كفاءات يُمكنها مساعدته على إدارة الازمات التي تُطبقُ عليه وعلى تونس كل يوم.

 



على أن أحدث التصريحات الأمريكية وأهمها على الإطلاق تلك التي جاءت على لسان وزير الدفاع الأمريكي "لويد أوستن" التي ربط فيها بين "الغرباء" الذين يتدخلون في أفريقيا متحدثا على التدخل الروسي والصيني بالقارة السمراء، وبين المعركة الدائمة بين الاستبداد والديمقراطية، وبين النموذج الأمريكي والنموذج المعادي له، مشيرا في حديثه إلى "تآكل الديمقراطية في تونس" وإلى كون " حُلم التونسيين بحكومة مستقلة أصبح مستحيلا، مُضيفا " يمكننا أن نشعر بتلك الرياح المعاكسة في تونس التي ألهم شعبها العالم بمطالبته بالديمقراطية".

ويُدرج وزير الدفاع تونس بذلك ضمن رؤيا استراتيجية أوسع، تجعلها في قلب السياسة الأمريكية لمواجهة روسيا والصين في كل مكان. وهو اعلان صريح بكون تصريحات المسؤولين الامريكيين يأتي ضمن تصور شامل لتونس ولموقعها ضمن رؤيا أمريكية تقول بكون نشر وتقوية ودعم وحماية الأنظمة الديمقراطية هو سبيل التنمية والازدهار بما يجعله أفضل سُبُل مقاومة الانتشار والنفوذ الروسي والصيني في العالم.
 
وذكّر وزير الدفاع الأمريكي بكون "أفريكوم تعمل مع الخارجية وغيرها من المؤسسات من أجل مساعدة شركائنا في دحر الإرهاب ومكافحة كوفيد-19، ودعم مزيد من الجهود لجعل أفريقيا أكثر أمنا، وإطلاق العنان للفرص وبناء مؤسسات ديمقراطية أقوى لتأمين مصالح الشعوب".

وقال أوستن إنه في “كل مكان بأفريقيا نرى المزيد من التهديدات للديمقراطية ونشعر بهذا الأمر في تونس بعد أن ألهم الشعب التونسي العالم في المطالبة بالحرية، والآن هذا الأمر مهدّد والولايات المتحدة ملتزمة بدعم تونس التي تحاول الوصول لديمقراطية مفتوحة وشاملة".

وقال أوستن "إنّ الجيوش عليها القيام بدورها الشرعي وحماية الحريات والحقوق الإنسانية والدفاع عن سيادة القانون بدلا من المساعدة في الفساد حيث يزداد الاستبداد في العالم".

وهو ما يعني دعوة صريحة أو تحذيرا مُباشرا للجيوش الأفريقية (بما في ذلك تونس حسب المعنى والجزائري أو المصري حسب السياق ) من أن تدعم انقلابات أو حكاما غير ديمقراطيين أو سياسات من شأنها استهداف المؤسسات الديمقراطية أو حقوق الانسان. وفي كلام وزير الدفاع الأمريكي دعوة إلى أن يكون دورها ايجابيا من خلال تكريس دول القانون والمؤسّسات والحريات وحقوق الإنسان.

 

بعد صدور أحكام المحكمة الإدارية التي أقرّت بتجاوز السلطة في إعفاء مجموعة كبيرة من القضاة، يبدو "نظام سعيد" معزولا داخليا وخاصة خارجيا. وفي هذه الورقة سنقوم برصد بعض هذه التصريحات، في محاولة لفهم مآلات الوضع في تونس في الفترة المقبلة.

 



إن خطورة هذا الكلام تكمن في كونه يأتي على لسان وزير دفاع في قاعدة عسكرية أمام قيادة قوة افريكوم، ويأتي على لسان قائد جيوش من أصول افريقية. وفي كلام الوزير دعوة ضمنية للجيش التونسي حتى يكون ايجابيا في ضمان عدم انخراط تونس في الحلف المعادي لامريكا وامنها ومصالحها، وفي حماية النظام الديمقراطي.

تلك هي "العصا الأمريكية" التي يبدو أن الولايات المتحدة ستستعملها في الفترة القادمة. ونعتقد أن تصريح أوستن بكون الولايات المتحدة لن تتخلى على حلفائها، وحثها للجيش على لعب الدور "الشرعي" أو "الطبيعي" المنوط به حسب الرؤيا الأمريكية، يأتي ليرسم سيناريو سياسة الولايات المتحدة في الأشهر القادمة. حيث أن كل المؤشرات تقول انها لن تدخر جهدا في إسقاط قيس سعيد، ومنع تونس من الخروج من منطقة النفوذ الامريكي للدخول في المعسكر الروسي/الصيني.

نهاية مرحلة

وبين "الجزرة" المُرّة التي لوّح بها الرئيس ماكرون، و"العصا" الغليظة التي تُلوّح بها أمريكا، تبدو خيارات الرئيس سعيّد محدودة. تزيد في ضيق هامشها افتقاد الرئيس لمهارات المناورة وآليات التواصل، ناهيك على الفراغ المحيط به، وغياب كفاءات يُمكنها مساعدته على إدارة الازمات التي تُطبقُ عليه وعلى تونس كل يوم. فأزمة الطاقة والغذاء والعجز على تعبئة الموارد المالية فضلا على معدلات التضخم والغلاء وارتفاع نسب الفقر، كلها عوامل لا تساعد الرئيس على البقاء حيث هو وعلى مواصلة سياسة الإنكار.

ليس أمام قيس سعيد بحسب المقاربات الخارجية إلّا حلان لا ثالث لهما كلاهما إيذان بنهاية مرحلة. التراجع على "عناده" والتوقف على سياساته الانفرادية والجلوس إلى طاولة التفاوض مع بقية القوى الوطنية والمنظمات والمجتمع المدني، بشكل يستأنف المسار الديمقراطي ويُعيد السلطة للمؤسسات ويجدّد الشرعية. وهو ما يعني ضمنيا نهاية "الجمهورية الجديدة" ونهاية "دستورها"، أو تحمّل عواقب رفض ذلك والدخول في متاهات تغيير الأمر في تونس وإن لزم استعمال القوة. ونعتقد أن استعمال القوة لن يعني تدخلا عسكريا مباشرا، بقدر ما يعني أن "عزلة" الرئيس و"الحصار" المالي ستدفع نحو تآكل شعبيته وانفضاح خطابه الشعبوي ليسقط تلقائيا. بين "جزرة" ماكرون و"عصا" أمريكا ستكون نهاية تجربة "حكم قيس سعيد". 

*كاتب وباحث وناشط سياسي من تونس


التعليقات (2)
زياد جلالية
الأحد، 14-08-2022 02:21 م
لا أعتقد بأن قيس سعيد مخول لفهم كل هذه التحاليل...هو يعي جيدا بأن الإحتكاك باالولايات المتحدة خطير جدا و لكن لا يفهم طبيعة الخطر. نسير بخطى حثيثة إلى سقوط مدوي و ممكن دامي هذه المرة .
و "قفة "الصهاينة
الأحد، 14-08-2022 12:01 ص
أوميكرون في فرنسا و جو النعسان في أمريكا لا يهمهم لا قيس و لا سعيد بل أجندة الصهاينة "statu quo " أمن الإحتلال أولا ، بترول و غاز ببلاش و حتى السفنج التونسي اللذيذ ببلاش