بحكم غلبة الصراعات الهوياتية على مسار الانتقال الديمقراطي، كان "الانكسار البنيوي" الذي أدخله الحدث الثوري في بنية السلطة "الظاهرة" مجرد شرخ سطحي؛ لم يعكس قطيعة فكرية مع المنظومة السابقة بلحظتيها الدستورية والتجمعية، أي لم يعكس ميلاد مشروع وطني يقطع مع فلسفة الانتظام السياسي للمنظومة القديمة
بعد الثورة، حافظت "البورقيبية" - وما تحمله من تبعية ثقافية وخيارات اقتصادية واجتماعية هي في جوهرها مجرد "تَونسة" مشوّهة لمبادئ الجمهورية الفرنسية وفلسفتها اللائكية المتطرفة - على دور "الخطاب الكبير" الذي تكتسب كل الخطابات شرعيتها أو تفقدها تبعا لدرجة الاقتراب منه أو الابتعاد عنه. ولم تستطع حركة النهضة باعتبارها الوافد الأبرز على الحياة السياسية "القانونية" أن تشذّ عن تلك القاعدة لأسباب ذاتية - تتعلق ببنية الإسلام السياسي ذاته وبرهاناته "الإصلاحية" التي لا تتطابق بالضرورة مع استحقاقات الثورة - ولأسباب موضوعية؛ ترتبط بقوة النخب "الحداثية" وهيمنة حلفائهم الدوليين على مراكز صنع القرار السياسي والنقابي وعلى الإعلام والمجتمع المدني.
ولم يكن خيار "التوافق"، بدءا من الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة مرورا بالمجلس التأسيسي وانتهاء بانتخابات 2014 وعودة المنظومة القديمة لمركز السلطتين التنفيذية والتشريعية، إلا تعبيرا عن خضوع النهضة لورثة "البورقيبية" ولمطالب حلفائهم الدوليين - خاصة فرنسا - وما يعنيه ذلك من انحراف عن استحقاقات الثورة وانتظارات المهمشين والمقموعين، وما يعنيه ذلك أيضا من استحالة نجاح الانتقال الديمقراطي سياسيا رغم كل ما قيل عن "الاستثناء التونسي".
فالتوافق لم يكن خيارا حرا أو خيارا فكريا بقدر ما كان خيار الضرورة، أو بالأحرى إملاءً خارجيا، مكّن المنظومة القديمة من توظيف حركة النهضة دون أن تعطيَها أي تأثير في صناعة "المشترك الوطني"، أو حتى دون أن تُطبع معها وتعتبرها شريكا حقيقيا في بناء "الجمهورية الثانية".
لقد حال التدخل الفرنسي - سواء بصورة مباشرة أو عبر حلفائها المحليين - دون طرح العديد من القضايا للسجال العمومي. ولعلّ أهم قضية كانت من "الممنوع التفكير فيه" هو الفلسفة السياسية للجمهورية الثانية. فقد استمرت اللائكية الفرنسية - وهي شكل من أشكال العلمانية المتطرفة - في توجيه الصراعات السياسية وفي تحديد مخرجاتها. ولم تر النخب "الحداثية" في دخول الإسلاميين إلى الحقل السياسي القانوني سببا كافيا للبحث عن نموذج علماني بديل للائكية الفرنسية، بل وجدت في هذا الجسم السياسي الدخيل سببا لتقوية قناعتها بـ"الاستثناء الإسلامي"، أي باستحالة المصالحة بين الإسلام - لا فقط الإسلاميين - وبين الفلسفة السياسية الحديثة.
رغم تعاظم الأهمية الاستراتيجية لتونس في السياسات الخارجية الأمريكية لمواجهة التمدّدين الصيني والروسي في أفريقيا، فإن فرنسا تظل هي اللاعب الأهم، لا في بنية السلطة الظاهرة فقط، بل في فلسفة السلطة وبنيتها العميقة ذاتها
ونحن لا نعتبر اللائكية الفرنسية - المأزومة حتى في مجال تداولها الأصلي - خطرا فقط على مشروع المواطنة بسبب عدائها المعروف للدين وتحولها إلى عائق أمام أي تقارب بين الإسلاميين والعلمانيين لبناء مشترك وطني والاتفاق على "كلمة سواء"، بل نعتبر أن خطرها الأعظم هو في أن مشروع التحديث الفرنكفوني - أي مشروع التحديث الذي يُشرعن هيمنته باستعارة وطنية تغطي على واقع جهوى وطبقي وزبوني معروف - سيحول دون انبثاق أي مشروع للتحرر الحقيقي والخروج من دائرة التبعية والتخلف. وفي تقديرنا فإن تغذية المخاوف من "الخطر الإسلامي" والاستهداف الممنهج لحركة النهضة - دون سائر مكوّنات منظومة الحكم - كان خيارا استراتيجيا لمنع التفكير في الخطر الممأسس والمُشرعن: خطر اللائكية الفرنسية وما تمثله من عائق بنيوي أمام أي مشروع للتحرر من وضع "التابع" أو "الحديقة الخلفية" لفرنسا.
رغم أن بيان السفارة الأمريكية الذي صدّرنا به المقال يعكس تأثيرات موازية أو منازعة للتأثير الفرنسي في تونس، فإن تلك التأثيرات تظل محدودة ولا تُخرج فرنسا من موقع اللاعب الأهم في المشهد التونسي لأسباب تاريخية معروفة. فرغم تعاظم الأهمية الاستراتيجية لتونس في السياسات الخارجية الأمريكية لمواجهة التمدّدين الصيني والروسي في أفريقيا، فإن فرنسا تظل هي اللاعب الأهم، لا في بنية السلطة الظاهرة فقط، بل في فلسفة السلطة وبنيتها العميقة ذاتها. ولم يكن من باب الصدفة ألاّ يظهر مفهوم "الكتلة التاريخية" في فرنسا ولا في أي سياق هيمنت فيه فلسفتها اللائكية المتطرفة، كما لم يكن من باب الصدفة أن يستمر الصراع الهوياتي إلى لحظتنا هذه رغم تغير الفاعلين ومواقعهم في السلطة والمعارضة.
ليس جوهر الصراع بين العلمانيين والإسلاميين في تونس - ودور فرنسا المعلوم في تأزيم مسار الانتقال الديمقراطي - إلا تعبيرا عن ارتهان المشهد التونسي للائكية الفرنسية وما يحكمها من ترابط عضوي بين الثقافي والاقتصادي
وليس جوهر الصراع بين العلمانيين والإسلاميين في تونس - ودور فرنسا المعلوم في تأزيم مسار الانتقال الديمقراطي - إلا تعبيرا عن ارتهان المشهد التونسي للائكية الفرنسية وما يحكمها من ترابط عضوي بين الثقافي والاقتصادي، على خلاف العلمانية الأنغلو ساكسونية ذات المنزع البراغماتي، والمحكومة أساسا بالمصالح الاقتصادية. فما يهم أمريكا أساسا هو القدرة على استخلاص الديون ومنع روسيا والصين من الهيمنة على أفريقيا، ولا تقلقها مشاركة النهضة في أية سلطة ما دامت تلك السلطة لا تمثل تهديدا استراتيجيا على مصالحها الحيوية.
ختاما، فإن التفكير في التأثيرات "الظاهرة" على المشهد التونسي - على أهميته - لا ينبغي أن يصرفنا عن التفكير في التأثيرات "العميقة" التي لم تكن يوما موضوعا للسجال العمومي، سواء بين النخب التونسية أو في وسائل الإعلام. ونحن نعتبر أن تهميش موضوع القاعدة الفلسفية للانتظام السياسي وعدم التفاوض الجماعي في موضوع علاقة الدولة- الأمة بالنموذج اللائكي الفرنسي، سيجعل من المستحيل بناء جمهورية ثانية، فضلا عن جعل أي تفكير في جمهورية ثالثة مجرد طرح طوباوي، ولن يكون أي دستور أو إصلاح سياسي يتجنب الفصل في هذه القضية إلا مجرد لحظة ثانية في الجمهورية الأولى - جمهورية المواطنة المشروطة للتابع، وما دون المواطنة للمعارض - وذلك بصرف النظر عن مزايدات وتلبيسات من يواصلون التفكير من داخل النموذج اللائكي وأزماته المعروفة في فرنسا ذاتها.
twitter.com/adel_arabi21
لا يوجد تعليقات على الخبر.