ليست هذه هي المرة الأولى التي تتطاول فيها قيادة إسرائيلية على نصر أكتوبر في عهد
السيسي، لكنها المرة الأولى التي يتحدث فيها من هو على قمة السلطة التنفيذية لدى العدو، ثم يظهر السيسي بعد ذلك ويتجاهل الأمر برمته، وكأنه ليس معنياً به!
كانت المرة الأولى قبل عامين، عندما شكك المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي في انتصار
مصر في
حرب أكتوبر، وأكد أن من انتصرت هي إسرائيل، وبدلاً من أن يكون الرد عليه من قبل المتحدث باسم الجيش المصري، ترك الأمر للصحافة، ليكون الرد عبر صحيفة "الأخبار"، وبعناوين كاشفة عن انهيار الصحافة المصرية، إذ استخدمت عبارة دارجة ودلالتها غير أخلاقية، وإذ يستخدمها البعض بكثافة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فالأصل في الصحافة أن ترتقي بأسلوب الخطاب لا أن تهبط لمستوى منصات التواصل الاجتماعي!
فجاء الرد بعنوان زاعق: "الجيش المصري أخذ الجيش الإسرائيلي في حرب أكتوبر خلف مصنع الكراسي". فهل الانتصارات الكبرى في الحروب يتم التعامل معها بهذا الأسلوب الفقير والبائس؟ لا بأس فمصر تعيش مرحلة البؤس في كل شيء، ومن الطبيعي أن يكون المنتج على مستوى هذا البؤس، فما خبث لا يخرج إلا نكدا!
لكن في هذا العام، لم يكن التشكيك في مستوى منخفض كالمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، فرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين
نتنياهو دخل بكل ثقله، وقال: "قلبنا الموازين وانتصرنا على الأعداء"!
وهو هكذا خطاب الحروب، فالانتصار دائماً يكون على عدو، حتى وإن تحول العدو بعد ذلك إلى صديق، وهو الخطاب الذي كان معتمداً في مصر قبل الانقلاب العسكري. فالحديث عن انتصارات أكتوبر من قبل كبار العسكريين وصغارهم تكون دائما على "العدو"، وكثيرا ما يتم ذكر اسم هذا العدو، لكن في عهد السيسي فإن خطابه السنوي عن انتصار أكتوبر والثقيل على قلبه كجبل أحد؛ يختصر به الحرب في سطرين، ثم يهرب منه إلى إنجازاته أو التحديات التي تواجه حكمه، دون توضيح على من انتصرت مصر، لأنها لم تكن حرباً على النفس الأمّارة بالسوء!
حرب عربية
لقد جاء نتنياهو ليعلمه أصول الخطاب العسكري والسياسي الذي يختص بالشأن العسكري، فقال: "قلبنا الموازين وانتصرنا على الأعداء"، فلم تدفعه علاقته بالحاكم الحالي لمصر، وهي علاقة متميزة بكل المقاييس، وحميمية أكثر من اللازم، من أن يسمي الأشياء بأسمائها، فالانتصار كان على "الأعداء". وهو هنا يذكرنا بأن حرب أكتوبر لم تكن شأناً مصرياً، فقد شاركت فيها دول عربية بممثلين في جيش مصر، وساهمت بلدان عربية في تمويل هذه الحرب، ثم إنها كانت على جبهتين "المصرية" و"السورية"، ومن هنا فإن وصفه لـ"الأعداء" في محله تماماً. لكن هل انتصرت إسرائيل حقاً؟!
الواقع أن أعداء نتنياهو هم من انتصروا في هذه الحرب، غاية ما في الأمر أن الخلاف حتى بين العسكريين في صفوف "الأعداء"، بل وفي صفوف "العدو المصري"، ليس في التفاوت بين النصر والهزيمة، بل في الحديث عن حجم هذا الانتصار، وما كان يمكن الوصول إليه لولا تدخلات الرئيس السادات، والتي مثلت بالنسبة له انتصاراً كاملاً، لأنها حققت الهدف منها، وقد كان يريدها حرب تحريك لا حرب تحرير، لأنه كان بحساباته السياسية يرى أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تسمح بهزيمة كبرى لإسرائيل، أو بتفوق السلاح الروسي على السلاح الأمريكي، في حين كانت الحسابات العسكرية للفريق سعد الدين الشاذلي تختلف مع هذا كلية، وترى أن مصر كانت قادرة على تطوير الهجوم وتحرير الأرض بالسلاح، وليس بالاتفاقات المنفردة التي قام بها السادات!
ورغم اتساع هوة الخلاف بين وجهتي النظر، فإن أحداً لا يختلف على الانتصار في هذه الحرب، ومن هنا فعندما يعلن رأس السلطة التنفيذية في إسرائيل "قلبنا الموازين وانتصرنا على الأعداء"، فلا بد أن يكون الرد نارياً عليه من رأس السلطة في مصر!
حرب اليمن
وكان
الظهور الأول للسيسي بعد هذا الإعلان لرئيس الحكومة الإسرائيلية، في الندوة التثقيفية للقوات المسلحة أمس الأحد (11 تشرين الأول/ أكتوبر)، وإذ أحاط به العسكريون من كل اتجاه، وفي ندوة ينظمها الجيش، ولا تزال احتفالات أكتوبر مستمرة على الأقل في الإعلام، فقد ذهب بعيداً، يتحدث في ما يخصه هو عن الدولة ومن يريدون هدمها،
وعن ثورة يناير وما ألحقته بالدولة من مخاطر، وعن رفضه للمصالحة على من يهدمون بلده، بل إنه لا يبدو منحازاً في اللاوعي لحكم العسكر، فرئيس حكومته يتحدث عن مصر التي كانت تقرض أوروبا، وهو يتحدث عن حرب اليمن وما ألحقته من مخاطر اقتصادية جمة على الاقتصاد الوطني، حيث كانت مصر تملك أكبر غطاء في العالم لعملتها تبدد في هذه الحرب! مع أن هناك رؤية أخرى لسكرتير عبد الناصر، سامي شرف، أدلى بها قبل ثلاثة شهور، مفادها أن حرب اليمن تكلفت 500 مليون جنيه، وأن المساعدات التي قدمت لمصر في قمة الخرطوم من أجل هذه الحرب تجاوزت هذا الرقم!
وبعيداً عن الخسارة المادية، فلا شك أن هذه الحرب المجنونة أنهكت الجيش المصري بشكل كبير، وبشكل يجعل من الدخول به في حرب جديدة في يونيو 1967، يندرج تحت عنوان الخيانة، أو الخطأ الذي لا ينتجه سوى أداء خائن أجير، أو فاقد للعقل والرشد إذا كان الحساب بتقديم حسن النية وسلامة الطوية!
ومهما كانت الحقيقة هنا، وهل دمرت حرب اليمن الغطاء الذهبي للعملة المصرية كما يقول كثيرون فليس السيسي وحده من يقول هذا، أم لا كما يقول سكرتير عبد الناصر، فإنه لا يجوز لمن يحكم مصر الآن أن يقول هذا، كما لا يجوز له أن يسكت على رئيس حكومته وهو يتحدث عن مصر التي كانت تقرض أوروبا، لأن هذا يطعن الحكم العسكري طعنة نجلاء، ويقدم دليلاً على أن العسكر لا يصلحون للحكم، فمصر التي كانت تقرض أوروبا لم يكن يحكمها العسكر، ومصر التي بددت أكبر غطاء للعملة، هي
مصر التي يحكمها العسكر!
بيد أن السيسي ليس مكترثاً بهذا ما دام يريد أن يقدم نفسه على أنه ورث مصر "خرابة"، وأنه الوحيد الذي يعمل من أجل الدولة، ومن هنا فيبدو أنه ليس معنياً كذلك بنصر أكتوبر، فلا يندفع من باب الحماس لها للرد على نتنياهو الذي قال: "قلبنا الموازين وانتصرنا على الأعداء"، لأنه يتعامل مع حرب أكتوبر من باب الضرورة التي تقدر بقدرها، ومن حيث كونها تعطي الجيش امتياز حكم البلاد، ليس أكثر من هذا، وهي ضرورة لا تفرض عليه أن يدخل في مشاحنات مع "الراعي الإسرائيلي" وهو الذي جعل من مهامه الوظيفية "
حماية أمن إسرائيل"!
هل كنا جادين ونحن نعتقد أن السيسي يمكن أن يرد على نتنياهو، ويؤكد على أن مصر انتصرت على "العدو الإسرائيلي" في حرب أكتوبر؟ وهل نسينا أنه هو من أهان جيش أكتوبر بوصفه بأنه كان في تواضع "السيارة السيات"، في حين أن الجيش الإسرائيلي كان هو "السيارة المرسيدس"؟!
نحن أولى بأكتوبر من الحاكم العسكري.
twitter.com/selimazouz1