قضايا وآراء

مستقبل المصالحة الوطنية في مصر

قطب العربي
1300x600
1300x600

لم تكن كلمات عبد الفتاح السيسي الأخيرة الرافضة للمصالحة مع جماعة الإخوان وبقية القوى الماهضة له والتي وصفها بـ"الأشرار"؛ هي الأولى من نوعها، ولا يمكن أيضا اعتبارها القول الفصل في هذا الأمر، لسببين أولهما أن موقف السيسي نفسه تأرجح تجاه هذه القضية بين الرفض المطلق والقبول المشروط من قبل، وثانيا لأن قرار المصالحة في مصر ليس قرار السيسي منفردا بل هو قرار إقليمي أيضا تمسك به عواصم الثورة المضادة في تل أبيب وأبو ظبي والرياض، ويخضع للتطورات الإقليمية.

حديث المصالحة ظهر مجددا بعد مقال للدكتور حلمي الجزار، ومؤتمر صحفي وبيان لجماعة الإخوان حول أزمة كورونا، وكذلك رسالة من المرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي للسيسي، ودعوات من رموز سياسية مدنية أخرى. ورغم أن مقال الجزار وبيان الإخوان كما أوضحت في مقال سابق لم يتحدثا عن مصالحة مع النظام بل تركزا حول مساندة الشعب في أزمة كورونا مع ما يقتضيه ذلك من تحجيم الصراع السياسي مؤقتا حتى تنتهي هذه الأزمة، وهو حديث موجه بالأساس إلى الشعب وقواه الحية، إلا أن البعض فهم أنه دعوة (مباشرة أو غير مباشرة) للتصالح مع نظام السيسي، بل إن البعض شطح به الخيال للادعاء بوجود جولات للحوار فعلا برعاية عاصمة عربية وبجهود من حركة حماس، ولكن حديث السيسي الأخير أجهز عليها.

 


من حيث المبدأ، فإن المصالحة بشكل عام ليست عيبا أو حراما، فكل الصراعات الدولية، والنزاعات الأهلية انتهت بمصالحات وتسويات سياسية، كما حدث في لبنان بعد الحرب الأهلية (1975-1983)، وفي الجزائر بعد العشرية السوداء (1992-2002) التي راح ضحيتها مئتي ألف مواطن، وفي رواندا بعد حرب أهلية أزهقت أرواح أكثر من مليون مواطن (1990-1993) وفي جنوب أفريقيا بعد عقود من الحكم العنصري، وفي أيرلندا عام 1999، وأخيرا أفغانستان وفي الطريق اليمن، لم تصل الحالة في مصر إلى هذا المستوى من الدماء (ولا نتمنى أن تصل)، ولكن المقصود من هذه الأمثلة هو تأكيد أن الصراعات مهما بلغت حدتها ودمويتها فإنها لا تستعصي على الحلول السياسية.

ومن حيث المبدأ أيضا، فمن الضروري أن تتوفر بيئة مناسبة لإنجاز أي مصالحة وطنية، وأهمها إدراك الأطراف المتصارعة (وليس طرفا واحدا) بضرورة هذه المصالحة سواء لكل طرف، أو للوطن ككل، وعدم جدوى استمرار النزاع، إما لعبثيته، أو لانتفاء مبرراته، أو لتكبد الأطرالف المختلفة خسائر باهظة، وإما لقناعة الجميع بضرورة الانتقال لوضع جديد وفتح صفحة جديدة.

أما من حيث الواقع فإن متطلبات أي مصالحة غير متوفرة في الوقت الحالي، فنحن أمام نظام فاقد لعقله، جاء على أشلاء آلاف المصريين، أي أنه يشعر بأنه مطارد بـ"الثأر" من آلاف أو ملايين المصريين، والذي يعيش هذا الشعور القاتل يتصرف بمنتهى الحماقة، لأنه يدرك أن أي تسوية سيكون ثمنها رأسه، أو على الأقل خروجه من الحكم، مع ما يترتب على ذلك من احتمالات المطاردات القانونية بعد ذلك، ناهيك عن أن هذا النظام لا يمتلك قراره السياسي الذي هو بيد كفلائه الإقليميين في أبو ظبي والرياض وتل أبيب.

ومن حيث الواقع أيضا فإن القوى المناهضة للنظام ليست في وضع قوي يسمح لها بتحقيق تسوية عادلة ومقبولة من جمهورها، فهي لا تزال منقسمة، بل ومتنازعة أحيانا فيما بينها، يرفض بعضها الجلوس مع البعض الآخر، حتى لو كان ذلك للاتفاق على هدف موحد وهو الخلاص من هذا النظام. كما أن هذه القوى المناهضة وفي القلب منها جماعة الإخوان كانت أسيرة المعارك السياسية مع النظام خلال الفترة الماضية في قضايا بدت فئوية، ورغم عدالتها إلا أنها لا تهم غالبية الشعب، أو ليست ضمن أولوياته القصوى، وهو ما باعد بين هذه القوى والشعب، والذي رغم غضبه على النظام بسبب سياساته الاقتصادية والأمنية إلا أنه لم يترجم هذا الغضب انحيازا لمناهضيه وقبولا لدعواتهم للتحرك العملي ضد النظام.

حديث المصالحة ليس وليد أزمة كورونا فحسب، بل إنه حديث ممتد عبر السنوات الست الماضية، فقد ظهرت عدة دعوات للمصالحة بين النظام ومناهضيه، ولكنها جميعا افتقدت إلى الجدية الضرورية، وكانت جميعها من أطراف لا تمتلك قدرة على التنفيذ، وحتى التي انطلقت من أفراد قريبين من النظام لم تكن دعوات لتسويات عادلة، بل لإذعان كامل بلا شروط للنظام دونما تحقيق أي مكاسب لمناهضيه. ولم تكن هناك محاولات جدية سوى تلك المبادرة الدولية التي حملتها كاترين أشتون، مبعوثة الاتحاد الأوروبي، في الأيام الأولى لاعتصام رابعة، وكان معها مساعد وزير الخارجية الأمريكي، ووزيري الخارجية القطري والإماراتي، وهي المبادرة التي أجهضها النظام بفض الاعتصام قبل أن تكتمل، حسبما كشفه لاحقا الدكتور محمد البرادعي الذي كان يشارك في تلك المفاوضات بصفته نائب رئيس الجمهورية في ذلك الوقت.

جدير بالذكر أيضا أن العديد من المساعي التي تلت فض رابعة انطلقت من فكرة أن المصالحة هي حكم دستوري نصت عليه المادة 241 من الدستور المعدل المعمول به حاليا، وكانت نقطة بارزة في خارطة الطريق التي أعلنها السيسي في بيان الانقلاب يوم 3 تموز/ يوليو 2013، ولكن رغم وجود هذين النصين إلا أن السيسي انقلب مجددا عليهما ضمن سلسلة انقلابات أخرى تالية، فقد نصت المادة 241 من الدستور المعدل على: "يلتزم مجلس النواب فى أول دور انعقاد له بعد نفاذ هذا الدستور بإصدار قانون للعدالة الانتقالية يكفل كشف الحقيقة، والمحاسبة، واقتراح أطر المصالحة الوطنية، وتعويض الضحايا، وذلك وفقاً للمعايير الدولية". ورغم أن مجلس النواب قارب على نهاية دورته بالكامل إلا أنه لم يتحرك لتفعل هذه المادة، ومن الواضح أن ذلك تم بتوجيهات عليا. ورغم أن السيسي أشار أكثر من مرة في أحاديثه المتعلقة بالمصالحة إلى أن الأمر بيد الشعب، إلا أنه يخشى اللجوء فعلا إلى الشعب لاستفتائه على هذا الأمر لمعرفته المسبقة بالنتيجة التي ستكون في غير صالحه.

إذاً الظروف غير مواتية حتى هذه اللحظة لمصالحة وطنية، وما نقله البعض من شائعات عن وجود جلسات تفاوض غير صحيح، كل ما في الأمر هو بعض المساعي (خلال السنوات الماضية) من شخصيات قريبة من النظام وأغلبها لجس النبض، أو أنها تريد إلقاء التبعة على الجانب المناهض، وخاصة الإخوان، لتبييض وجه النظام، وهو ما ردت عليه الجماعة في عدة بيانات، أن أيديها ستظل ممدودة لاي محاولة جادة لإنقاذ مصر.

فارق كبير بين المصالحة السياسية مع النظام والمصالحة المجتمعية عموما، وهذه الأخيرة تستهدف إنهاء حالة الانقسام المجتمعي التي صنعها الانقلاب، بتقسيمه المصريين إلى شعبين، يخاطب أحدهما بلطف، ويخاطب الثاني بمنتهى العنف، كما تعني تجاوز الاستقطابات السياسية، والشقاق بين القوى السياسية الوطنية، التي نشبت خلال الفترة الماضية، وغزاها النظام لصالحه. كما تشمل أيضا بعض مؤسسات المجتمع مثل الأزهر والكنيسة، والنقابات المهنية والاتحادات العمالية، وجمعيات رجال الأعمال، والنخب الثقافية والفنية.. إلخ، وهذا هو لب الخطاب الجديد الذي أعلنته جماعة الإخوان المسلمين مؤخرا، الذي حملته البيانات المتتالية في أزمة كورونا، والذي ورد في تصريحات نائب المرشد إبراهيم منير في هذا المنبر، ومنها قوله: "المصالحة الحقيقية تكون مع الشعب المصري، وجميع التيارات الوطنية على اختلاف أطيافها، ومع جميع العقلاء والحكماء والشرفاء في جميع مؤسسات الدولة المصرية".

وإذا كانت القوى المناهضة للانقلاب وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين قد خسرت الجولة السياسية، فإن عليها أن تكسب الجولة المجتمعية، وهي الساحة التي نجحت أذرع السيسي في تسميم عقول الكثيرين فيها عبر شيطنة المعارضة عموما والإخوان خصوصا، ومحاولة تحميلها أي فشل للنظام داخليا أو خارجيا. وكسب هذه المعركة أمر ممكن، ويحتاج أمورا بسيطة أولها خطاب يفهمه الشعب، ويتماس مع همومه ومشاكله الحقيقية، والوقوف إلى جانبه في أزماته، وأهمها أزمة كورونا.

التعليقات (0)