قضايا وآراء

خواطر عن الدولة والمجتمع

بلال هشام
1300x600
1300x600

 

في نهاية العام الماضي، بدأ انتشار فيروس كورونا من مدينة وهان الصينية، لم يبدُ الأمر خطيرا في بدايته، لكن مع تسارع انتشاره في دول العالم أعلنته منظمة الصحة العالمية في 11 آذار/مارس، جائحة/ وباء عالميا. الأمر إذا لم يعد بسيطا، ويتطلب المواجهة، في كثير من السياقات يتكامل دور الدولة والمجتمع في هذه المواجهة، يتحدان تحت قيادة الدولة كمعبر عن مصالح المجتمع كما تنص التصورات الليبرالية.

ولكن، هنا يُطرح سؤال عن السياق المصري وعن طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، حيث النظرة العدائية من الدولة للمجتمع وعلاقة تتسم بالهيمنة بدلا من التناغم، حيث لا تحتفي الدولة بتنامي دور المجتمع وتخفيفه جزءا من أعبائها حتى في ظل الأزمات، سؤال قد يُستنكر في سياقات أخرى، لكن في السياق المصري حيث العداء المبطن من الدولة تجاه المجتمع، يتصاعد سؤال كهذا.

بين نموذجين:

في إحدى الليالي قام الناس بالتكبير والدعاء من بيوتهم، وكانت محافظة الإسكندرية هي من تصدرت هذا المشهد، خصوصا بعد أن نزل مجموعة من الناس إلى الشوارع مكبرين وداعين الله وهاتفين ضد كورونا. هذا السلوك لاقى سخرية من باقي المحافظات التي طالما ناكفهم أهل الإسكندرية، لكونهم أعلى ثقافة ووعيا، لكن هذا النزول ينافي الوعي الذي ادعوه، مناكفة وفكاهة متكررة من الشعب المصري. لكن بتأمل هذه المبادرة نرى أنها شعبية بحتة، فيها يتضامن الناس بتكبيرهم معا ويلجأون لله، حيث يتجلى معنى التدين (بشكل عفوي)، الذي طالما وُسم به المصريون وشُكك فيه بعد تقلبات السنين الأخيرة. كرابطة مجتمعية ودينية إذا هي التي تربطنا كمصريين. وبتجنيب السخرية يمكننا أن نفهم النزول في ضوء الثورة كمخيال ثقافي مخيم على الناس، فالتجمهر هو وسيلة التضامن والاحتجاج والمطالبة بإزالة الظلم والغمة.

وفي سياق آخر حيث لا عداء بين الدولة والمجتمع، كانت في تركيا مبادرة من نوع مختلف بدأت من المجتمع، فيها يصفق الناس من نوافذهم في الساعة التاسعة ليلا دعما وشكرا للأطباء، سرعان ما تبنت الدولة هذه المبادرة وشجعتها، مما أدى إلى انتشارها على نطاق أوسع مجتمعيا. وعلى مدار ما يقُارب الأسبوع، خرج الناس كل يوم في التاسعة ليلا في الكثير من الأحياء مصفقين دعما للأطباء، مبادرة مجتمعية تتسم بتصالح مع الدولة ولا تتسم بأي طابع ديني، على عكس ما حدث في مصر. في الحالة المصرية تضامن الجميع مع الجميع بحثا عن الأمان في غير الدولة، وفي التركية تضامن الجميع مع القليل، أي الأطباء، كجزء من كيان متماسك اسمه الدولة.

الدولة المصرية ورؤيتها للمجتمع:

عادَت الدولة المصرية الحديثة المجتمع منذ نشأتها كغيرها من الدول التي شهدت عمليات التحديث، ونظرت الدولة للمجتمع وقواه التقليدية على أنها عدو لها ينافسها وبالتالي قمعته. تغير الوضع قليلا في ظل الحقبة الليبرالية ما بين عامي 1923 و1952، وخلال هذه الفترة نشأ العديد من القوى المجتمعية، كان أبرزها الإخوان المسلمين، ثم كانت نظرة الجمهورية الوليدة على أيدي الضباط مختلفة عن سابقتها. نظرت الدولة خلال هذه الحقبة لنفسها على أنها الأب الراعي للمجتمع محددا الصواب والخطأ والقيم والأخلاق. كان هذا بحكم التصور الناصري الاشتراكي العسكري، الذي ظل قائما وإن بدرجات أقل فيما تلا.

بعد الثورة ثم الانقلاب، نظر العسكر/ الدولة للمجتمع نظرة سخط، فالمجتمع هو من تسبب في "فوضى يناير" (من منظورهم)، ومن ثم وجبت إعادة إحياء التراث العلوي (نسبة لمحمد علي) في قمع القوى المجتمعية، واختلف هذا النموذج عن سابقه من حيث إن النظام الناصري وما تلاه، سعى لبناء قوى مجتمعية تتبعه؛ إما على هيئة الاتحاد الاشتراكي أو الحزب الوطني مع السماح بمتنفس بدرجات متفاوتة، أما الحالي فحتى اللحظة لم يفعل أيا من ذلك.

كما أن نظام السيسي اتسم بغياب منطق السياسة، وبدلا منه حضر المنطق العسكري في سياساته. فكل التحليلات التي تنبأت بأنه سيفتح المجال العام ليكتسب شرعية ويقلل الاحتقان باءت بالفشل، فكلها تحليلات مبنية على منطق سياسي، وكل مبادرات التصالح والتفاوض والوساطة رفضها النظام أو تجاهلها. هذا المنطق الجديد أتاح الفرصة لتصاعد أصوات المفاصلة التطرف (بمعنى البعد عن الوسط والتيار السائد ولا تتحمل بالضرورة أي دلالة سلبية) في كثير من الفصائل، فالتعقل لا يُثمر ولا يأتي بحلول أو حتى يخفف من الضغط الحالي. فمثلا الفيديو الذي نشره عبد الله الشريف الذي يُظهر ضابطا في الجيش يُمثل بجثة شاب في سيناء؛ لا يقدم جديدا لكنه يرسخ هذه الحالة، ويبعد أي صوت يدعو للتحاور؛ لأنه لا داعي له في ظل صورة التوحش الظاهرة في الفيديو.

بالإضافة إلى أن نظرة العسكر/ الدولة لما تقومه بأنه فضل لا واجب ووظيفة يُعمق المشكلة، فالدولة بطبيعة وظيفتها عليها حماية المجتمع من أوبئة كهذه، لكن الدولة المصرية إذا قصرت لامت المجتمع وقالت إنها فعلت ما عليها ولكن الشعب لا يلتزم، وإذا فعلت واجبها تضخمت نظرتها لذاتها ويكأن لسان حالها أنا من يفعل كل شيء. والخلاصة، الدولة تعادي المجتمع وتنظر له بدونية، والتناغم مفقود ويكأنهما ينتميان لعالمين مختلفين، بدلا من أن تكون الدولة تجسيدا لمصالح المجتمع.

الإخوان كفصيل مجتمعي:

تغيرت نظرة الدولة للمجتمع وقواه عبر العقود، وعليه كانت تتغير المساحات المتاحة للمجتمع. ويمكننا هنا أن نأخذ الإخوان كمثال على قوة مجتمعية، تأثرت حركتها وأفعالها وتصوراتها بتغير نظرة الدولة لها.

في أدبيات الإخوان الأولى، لا يوجد عداء للدولة ولا التصورات الوطنية والقومية (إن لم يتعارضا مع الإسلام كما يقول البنا)، ومن ثم لا عداء وجوديا ولا نظرة سلبية للدولة، وبناء عليه شارك الإخوان في الانتخابات وتعاملوا مع الدولة وساعدوها. فعلى سبيل المثال، يُحكى أن حسن البنا في عام 1947 عندما انتشر وباء الكوليرا، وضع آلافا من جوالة الإخوان تحت إمرة المسؤولين في وزارة الصحة. 

لكن مع توحش الدولة في العهد الناصري، ظهرت كتابات سيد قطب المفاصلة والمعادية للدولة، وفي هذه النقطة تكون العداء بين الفكر القومي والإسلامي، سينحسر التيار القومي مع النكسة وسيفتح المجال للإسلاميين، ومع الوقت سيعود الإخوان إلى تصوراتهم التي لا تعادي الدولة (ربما بقيت كتابات قطب في مخيالهم لكن بلا انعكاس في الممارسة)، وكان من ظل يتبنى التصورات المفاصلة مع الدولة هي التيارات الجهادية.

وبعد الانقلاب العسكري كان العداء الوجودي للإخوان الذي استهل به السيسي دولته، فتم إحياء كتابات قطب بين بعض القطاعات الشبابية في الإخوان، بينما بقيت تصورات الكبار عن الدولة غير واضحة المعالم، فتنشئتهم وأدبياتهم لا تساعدهم على تكوين العداء الوجودي مع الدولة، وهو ما بدا واضحا في استعدادهم للتفاوض، وإن لم يصرحوا بذلك إعلاميا.

لذا نستخلص من هذه الفقرة، أن الدولة بقوتها وأدواتها هي من حددت دور القوى المجتمعية والمساحات التي تتحرك فيها، وعليه كانت تبني تصوراتها عن الدولة. هذا التحليل لا ينفي الفاعلية الداخلية للقوى المجتمعية، لكنه يرى أن الدولة حصرت خياراتها.

الدولة ليست ذا قدرة مطلقة وليست على النقيض شرا مطلقا أيضا. على مر القرنين الماضيين انتزع المجتمع فاعلية وقوة في مقابل الدولة، ولم يكن دائما في موقف المفعول الذي ينتظر أن تتاح له المساحات، لكن كانت العوامل الموضوعية من ظرف دولي وضغوطات خارجية وتوجه السلطة (وغيرها) تتفاعل مع العوامل الذاتية داخل المجتمع وقواه، من استعداد وقابلية للفعل وسريان للأمل والفكرة ووجود لقادة ورموز (وغيرها)، منتجة في النهاية درجات متفاوتة من فاعلية المجتمع ومساحات لحركة القوى المجتمعية إما زيادة أو نقصانا. وأزمة كورونا على سبيل المثال تتيح الآن مساحة للحركة غير المسيسة، ولكنها تبقى مساحة (وإن ضاقت) غابت عن المشهد في السنوات الأخيرة.

إعادة صياغة للعلاقة:

أزمة كورونا كغيرها من الأزمات تعيد صياغة علاقات القوة والنفوذ، وقد تؤدي الأزمة نفسها إلى نتيجتين مختلفين لاختلاف السياق والعوامل؛ فعلى سبيل المثال الحرب قد تؤدي لتوغل الدولة بحكم شرعية النصر كما حدث في تركيا عقب حرب الاستقلال، وقد يكون النقيض فتعطي شرعية للمجتمع وأفراده الذين حاربوا. فبعد الحرب العالمية الأولى اكتسبت النساء في العديد من الدول الأوروبية حق الانتخاب، وبعد أزمة الكساد العظيم ستتغير سياسات الدول الرأسمالية إنصافا ودعما للجماهير، كما حدث في أمريكا وألمانيا.

أزمة كورونا آخذة في التزايد، وعليه فإن تداعياتها تكبر هي الأخرى، دعونا على سبيل المثال نأخذ مشهدا حدث في قريتي الشهر السابق، حيث كانت تتجول سيدة تبيع الخضار إلى أن أبلغ أحدهم الشرطة الذين حضروا مانعين إياها من هذا الفعل. دعونا نتخيل دخل هذا السيدة بعد عدم تمكنها من بيع خضارها التي ستفسد تباعا، ودعونا نتخيل ماذا سيحدث لها ولأسرتها إن طالت الأزمة، من أين سينفقون؟ من مدخراتهم مثلا؟

تهدد أزمة كورونا العاملين باليومية والعديد من أصحاب الأنشطة التجارية المختلفة وغيرهم، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل ستعوضهم الدولة؟

أزمة كورونا ستؤذي الفقير والغني، ولكن السؤال: لمن ستنحاز الدولة مع إطالة الأزمة وبعدها؟ دعم الدولة للفقراء يتطلب زيادة الضرائب على الأغنياء، ولكن هذا قد يبطئ من حركة الاقتصاد، ودعم الدولة للأغنياء يعني تقديم محفزات وتخفيض الضرائب، وهذا قد يساعد في استعادة نمو الاقتصاد، لكن يعني أيضا مزيدا من السحق للفقراء، فماذا ستختار الدولة؟!

ويبقى الشعب أمام طريقين: الأول أن يتحرك مطالبا بحقوقه ومنتزعا لها، حق الحياة وحق العمل وغيرها من الحقوق، كما حدث بعد الكساد العظيم في نهاية عشرينيات القرن الماضي، فتحرك الناس دفع الدولة لتبني شبكات الدعم الاجتماعي (1) (بالإضافة إلى نمط كينز الذي يرى التركيز على جانب الطلب لتجاوز الأزمة). والثاني أن يتحمل ويتجه لأساليب دفاعية أخرى هربا من المواجهة (2).

ويبقى الحديث على تغييرات ما بعد كورونا مبكرا.
__________
الهوامش:

(1) يختلف هذا النموذج عن مصر لكون الناس لديهم وسيلة ضغط بالإضافة للتجمهر والإضرابات ألا وهي القوة التصويتية، هذا يزيد من أهمية التحرك في مصر إن سنحت الفرصة، فلا قوة تصويتية يضغط بها الفقراء.



(2) كالتي يذكرها الدكتور مصطفى حجازي في كتابه سيكولوجيا الإنسان المقهور: الانكفاء على الذات والتماهي مع المتسلط وغيرهما.
التعليقات (0)