قضايا وآراء

تشكيل الحكومة التونسية: المأزق والمآلات الممكنة

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
بعد أن تأكد رسميا فوز المترشح قيس سعيد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، تتوجه أنظار التونسيين بمختلف شرائحهم إلى المفاوضات الجارية لتشكيل الحكومة. ورغم أنّ التشكيلات السياسية المحسوبة على الخط الثوري (مثل حركة النهضة والتيار الديمقراطي وحركة الشعب وائتلاف الكرامة وبعض الأحزاب الصغيرة والمستقلين)، تستطيع نظريا الحصول على الأغلبية البرلمانية اللازمة لتشكيل الحكومة، فإن مناخا من "عدم الثقة" المتبادل وغلبة "المزايدات الطهورية" والخلافات الأيديولوجية، بالإضافة إلى الدخول في المفاوضات ببعض الشروط التعجيزية، كل ذلك قد يحول دون الوصول إلى اتفاق قريب، أو قد يدفع في أسوأ الحالات إلى الدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة.

بعد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية، حددت حركة النهضة (وهي الحزب المكلف دستوريا بتشكيل الحكومة بحكم تصدرها للانتخابات التشريعية) طبيعة الأطراف المعنية بالتفاوض لتشكيل الحكومة، وقد أكد قياديوها أنهم لن يدخلوا في أي تفاوض مع حزب قلب تونس الفائز بالمرتبة الثانية، والحزب الدستوري الحر المتحصل على المرتبة الخامسة في الانتخابات التشريعية. ومن المعلوم لأي مُطّلع على الشأن السياسي التونسي، أنّ النهضة قد وعدت خلال حملتها الانتخابية بعدم التحالف مع "الفساد"، وهو خطاب أرادته الحركة قاطرة لاستعادة جزء من قاعدتها الانتخابية الرافضة لسياسات التوافق اللامشروط مع ورثة المنظومة القديمة.

ورغم تثمين قواعد الحركة لهذا القرار، ورغم أنه قرار عقلاني يحاول إقامة مفاصلة سياسية مع رموز الفساد المالي والسياسي (أي مع المال السياسي المشبوه والخطاب السياسي الاستئصالي)، فإن السؤال الذي لم يُطرح هو التالي: لماذا يُستثنى حزب "تحيا تونس" مثلا من هذا القرار، رغم أنه نظريا وواقعيا لا يختلف إلا قليلا (من جهة الشبهات المالية والخطاب الاستعلائي أو الإقصائي أحيانا) عن حزبي قلب تونس والدستوري الحر؟ إنه سؤال مركزي، وقد تُحدد الإجابة عليه مدى جدية النهضة في وعودها مع منظومة "الفساد" ومع واجهاتها الحزبية.

ومهما كانت جدية حركة النهضة في تفعيل قرارها بلا استثناء ولا "توافقات" خفية، فإنها قد وجدت نفسها أمام الرأي العام في موضع لا تُحسد عليه. ذلك أنّ التراجع عن وعدها بمحاربة "الفساد" وعدم التحالف مع رموزه سيجعلها تفقد مصداقيتها أمام قاعدتها الانتخابية، وهو أمر لن تنفع معه إعادة تدوير حجج "الإكراهات" و"المصلحة الوطنية العليا" و"التنازلات المؤلمة" و"حماية مسار الانتقال الديمقراطي"، وغير ذلك من المفردات التي شكلت النواة الصلبة في"شرعنة" سياسة التوافق مع المنظومة القديمة بعد انتخابات 2014. ولا شك في أن تفكك المنظومة القديمة وخسارتها للأغلبية البرلمانية، بالإضافة إلى وصول ممثل للتيار الثوري إلى قصر قرطاج، هي وقائع ستزيد من إحراج النهضة وتقليص هامش المناورة عند بعض قياداتها "التوافقية" التي قد تفكر في الانقلاب على وعود الحركة.

ولكن الإشكال الأكبر الذي تواجهه حركة النهضة في عملية التفاوض، يأتي من بعض الأحزاب المحسوبة على الثورة، كالتيار الديمقراطي وحركة الشعب. فالتيار الديمقراطي قد بنى خطابه التفاوضي (الذي بدأه في بعض وسائل الإعلام المشبوهة كقناة الحوار التونسي) بمنطق يغلب عليه مناخ من انعدام الثقة، لا في حركة النهضة فحسب، بل في باقي شركائه المحتملين في تشكيل الحكومة. ومهما كان تفهمنا لمطالب التيار وتنزيه هذا الحزب عن منطق " الشروط التعجيزية"، فإن المشكل الأساسي هو في نبرة الخطاب "التخوينية" لباقي الشركاء. فعندما يطالب التيار الديمقراطي بثلاث وزارات (هي الداخلية والعدل والإصلاح الإداري) ويضيف إليها شرط ألا يكون رئيس الحكومة المكلف من حركة النهضة، فإنه لا يبني خطاب ثقة، بل يعيد ضمنيا إنتاج خطاب الجبهة الشعبية وبعض ورثة التجمع، لكن مع تعديل بسيط.

فإذا كان اليسار والتجمعيون يتعللون بالخوف من "أخونة الدولة" ومن المشروع المفترض للنهضة بـ"التمكين" (أي حتمية انقلاب النهضة على الديمقراطية حال تمكنها من مفاصل الدولة)، فإن التيار الديمقراطي يؤسس خطابه على انعدام ثقته في حركة النهضة، أو في فسادها"الجوهري" وغير القابل للإصلاح رغم وعودها. إننا في الحد الأدنى أمام مصادرة على النوايا وعلى عملية تثبيت لصورة نمطية يراد لها أن تتسرمد، وفي الحد الأقصى أمام خطاب "إقصائي" و"انقلابي" مخاتل؛ لأنه متخفف من مفرداته الصدامية المعروفة في خطابات اليسار الجبهوي.

أما حركة الشعب ذات التوجه القومي الناصري، فإن أحد رموزها قد اشترط أن يكون رئيس الجمهورية هو من يقترح رئيس الحكومة لا حركة النهضة. وهو أمر لا يحتاج إلى مجهود كبير لتبين فساده من الناحيتين الدستورية والسياسية، بل لتبين انخراطه في تراث "الزعيم الملهم" و"القائد الفذ" الذي يشكل جزءا مهما من الوعي/ التاريخ السياسي القومي. إن استثمار المد الشعبي المناصر للرئيس المنتخب قصد حصر النهضة في زاوية وإدخالها في صراعات هي في غنى عنها مع أنصار السيد قيس سعيد، هو منطق سياسي "براغماتي"، وقد يكون فعّالا في المدى المنظور، ولكنه منطق ستكون له تداعيات كارثية في حال استثمره البعض في التمهيد لصراعات دونكيشوتية بين رئاسة الجمهورية والحكومة المقبلة. ورغم الاختلاف الظاهر بين مطالب حركة الشعب والتيار الديمقراطي، فإن الحزبين معا يصادران حق النهضة في ترشيح شخصية من داخلها، ويفرضان عليها إما ترشيح شخصية من الخارج، أو التنازل عن حقها الدستوري لرئيس الجمهورية.

لا شك في أن رفع سقف التفاوض هو جزء صميمي في العملية التفاوضية ذاتها، ولا شك أيضا في أن سياسات النهضة طيلة فترة التوافق لا تشجع على الثقة بوعودها، إلا بالحصول على ضمانات وتعهدات مكتوبة ومعلومة عند عموم الشعب. ولكنّ "البنية العميقة" للوعي السياسي عند بعض شركاء النهضة المحتملين تجعلنا أمام حقائق قد لا تعكسها البنية السطحية للخطابات التفاوضية. وهو ما يضعنا في مأزق سياسي يتجاوز مستوى انتقاد "الأداء السياسي" للحركة؛ إلى مستوى إعادة إنتاج بعض الخطابات الإقصائية والاستئصالية، لكن بصورة مخاتلة.

ورغم تنادي الكثير من العقلاء بـ"الكتلة التاريخية" لمواجهة ورثة المنظومة القديمة ولتفعيل مشروع مقاومة الفساد (الذي هو في جوهره إعادة صياغة مختزلة لمجمل استحقاقات الثورة)، لا يبدو أن تلك الكتلة التاريخية سترى النور قريبا. وفي صورة تواصل العملية التفاوضية على الأسس المذكورة أعلاه، من الوارد أن تُضيّع النخب المحسوبة على الثورة فرصة أخرى لبناء الجمهورية الثانية، ومن الوارد أيضا أن تذهب البلاد إلى انتخابات تشريعية مبكرة قد تفتح الواقع السياسي التونسي على ممكنات؛ ليست بالضرورة أفضل من الواقع الحالي.
التعليقات (0)