قضايا وآراء

أهم رسائل الانتخابات التشريعية والرئاسية التونسية

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600

قد يختلف التونسيون في توصيف الوضع السياسي في بلادهم، وقد يختلفون أيضا في تقييم مسار الانتقال الديمقراطي، ولكنهم لا محالة يتفقون على أن شيئا ما قد تغير بعد الانتخابات التشريعية، وأساسا بعد الدور الأول من الانتخابات الرئاسية.

فرغم حالة "الإنكار" التي تطبع المنابر الإعلامية المرتبطة، أظهرت نتائج انتخابات التشريعية والرئاسية (في دورها الأول) أن هناك اتجاها شعبيا للقطع مع رموز المنظومة القديمة وحلفائها في اليسار الاستئصالي. ولكنّ الحياة السياسية في تونس (مثل كل الدول التابعة والفاقدة لمقومات السيادة الوطنية) تظل مرتبطة بفاعلين غير سياسيين، أو بـ"قوى نوعية" لا تكتسب تأثيرها من عمقها الشعبي، بل من تموقعها داخل أجهزة الدولة والمجتمع المدني والنقابات والإعلام وعالم المال، وكذلك من دورها الوظيفي في خدمة بعض الأجندات الإقليمية والدولية المعادية للثورات العربية، وهو ما يفرض علينا أن نفهم المشهد السياسي التونسي باستحضار المتغيرات المؤثرة في توجهاته الكبرى، حتى إن كانت بعيدة عن إرادة الناخبين أو معادية لها.

جاءت نتائج الانتخابات التشريعية لتبعث برسائل متعددة لأهم الفاعلين السياسيين في تونس، فالناخب التونسي كاد يخرج اليسار الجبهوي (وهو يسار ثقافي مسكون بالنهضة فوبيا، وأدت مكوّناته دور الطابور الخامس لمنظومة الحكم التقليدية قبل الثورة وبعدها) من المشهد السياسي. ولا يبدو أن اليسار الجبهوي قد فهم هذه الرسالة جيدا؛ بحكم إصراره على تأبيد التناقض الرئيسي مع الإسلاميين، والتحالف الاستراتيجي مع البرجوازية اللاوطنية وقاطراتها الحزبية المختلفة (وآخرها حزب قلب تونس).

 

علينا أن نفهم المشهد السياسي التونسي باستحضار المتغيرات المؤثرة في توجهاته الكبرى، حتى إن كانت بعيدة عن إرادة الناخبين أو معادية لها

أما الرسالة الثانية، فقد كانت للنواة الصلبة لمنظومة الحكم منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا (نواة تنتمي إلى بلدية العاصمة وبعض اللوبيات المنتمية إلى جهة الساحل)، إذ فشل مرشحوها في الحصول على مراكز متقدمة في الانتخابات التشريعية، بعد أن فشلوا في تمرير أحد مرشحيهم للدور الثاني من الانتخابات الرئاسية. ولعل ما يثير التفاؤل هنا هو أن جهات الساحل كانت أكبر معبّر عن الوعي المواطني الذي هو في طور التشكل. فهذه الجهات كانت من أكبر مؤيدي الأستاذ قيس سعيد في الدور الأول، ولكنه حكم يجب تنسيبه بحكم وجود قوى مقاومة لهذا التوجه المواطني، الأمر الذي عبّر عنه اكتساح قوائم "الدستوري الحر"، بقيادة عبير موسي، للكثير من مقاعد جهات الساحل.

ولم تكن حركة النهضة بمعزل عن رسائل الناخبين. فرغم أنها قد استعادت موضع الصدارة الذي كان لها في انتخابات المجلس التأسيسي، ورغم محدودية الخسائر من جراء سياسة التوافق مقارنة بحزب نداء تونس الذي أصبح أثرا بعد عين، فإن تراجع عدد مقاعدها من 69 إلى 52 مقعدا، بعث لها برسالة قوية مفادها أنه لا توجد قاعدة انتخابية ثابتة، ولا يوجد تفويض شعبي بلا شروط. ويبدو أن حركة النهضة قد فهمت الرسالة، فأكد قياديوها أنهم لن يتحالفوا مع رموز الفساد الاقتصادي (حزب "قلب تونس" الذي تحوم حول مؤسسه شبهات تهرب ضريبي وتبييض أموال) ولا رموز الفساد السياسي ("الحزب الدستوري الحر" المصرّ على منطق الاستئصال والصراع الوجودي ضد النهضة). وبصرف النظر عن صدقية هذه الوعود، لا يبدو أن حركة النهضة قادرة على إخلافها والانقلاب عليها بدعوى الإكراهات والمصلحة الوطنية، اللهم إلا إذا كانت تريد الانتحار السياسي.

أما الرسالة الأهم التي بعث بها الناخبون التونسيون، فهي رغبتهم في وصول الأحزاب والائتلافات التي تعلن تمايزها عن المنظومة الحاكمة إلى مراكز القرار. فرغم اختلاف القاعدة الانتخابية لحزب التيار الديمقراطي وائتلاف الكرامة، ورغم تباين جمليتهما السياسية ومرجعيتهما الأيديولوجية، فإنهما يشتركان في التركيز على القضايا الاقتصادية ومحاربة الفساد والإصلاح الإداري. وما فوز هاتين التشكيليتين السياسيتين بالمرتبتين الثالثة والرابعة في مجموع نواب المجلس النيابي، إلا رسالة ضمنية لليسار الجبهوي من جهة أولى، ولحركة النهضة من جهة ثانية. فالكثير من الناخبين التونسيين (رغم مرجعيتهم الحداثية) لم يعودوا يجدون أنفسهم في قضايا اليسار التقليدي ورهاناته وتحالفاته، ولكن الكثير منهم أيضا (رغم خلفيتهم المحافظة) لم يعودوا يجدون أنفسهم في توافقات حركة النهضة وتنازلاتها للمنظومة القديمة.

 

الرسالة الأهم التي بعث بها الناخبون التونسيون، فهي رغبتهم في وصول الأحزاب والائتلافات التي تعلن تمايزها عن المنظومة الحاكمة إلى مراكز القرار.

إننا أمام رسالة قوية لليسار التقليدي الرافض لبناء كتلة تاريخية مع الإسلاميين على أساس مشروع مواطني جامع، وكذلك أمام رسالة قوية للنهضة بأنها قد أخطأت حليفها عندما اختارت التوافق مع ورثة المنظومة القديمة، على حساب انتظارات ناخبيها قبل غيرهم من التونسيين.

لقد جاءت نتائج الانتخابات التشريعية ونتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية لتؤكد سطحية كل المقاربات الاختزالية التي تركن إلى التفسير بالعامل المحدد. فلو اعتبرنا الإعلام التقليدي محددا أساسيا لنوايا التصويت (بالاحتجاج مثلا بملكية نبيل القروي لقناة نسمة التلفزية)، فكيف نفهم فشل وسائل إعلام أخرى  في تمرير يوسف الشاهد أو عبد الكريم الزبيدي، رغم تجندها لخدمة حملتيهما الانتخابية؟ وكيف نفسر احتفاظ النهضة بجزء كبير من خزانها الانتخابي رغم تجند أغلب وسائل الإعلام المرئية والمسموعة لشيطنتها؟ وإذا ما اعتبرنا المال السياسي الفاسد محددا لنوايا الناخبين، فكيف نفسر نتيجة "عيش تونسي" رغم إنفاقها ملايين الدنانير في حملتها الانتخابية؟ وإذا ما كان امتلاك أجهزة الدولة أو الانتماء إلى جهات معينة هو المحدد، فكيف نفسر فشل رئيس الوزراء ووزير دفاعه؟ ونحن لم نطرح هذه الأسئلة إلا للحث على التواضع والابتعاد عن منطق الوصاية والاستعلاء المعرفي الفارغ، ذلك الاستعلاء الذي لا يطبع فقط تدخلات الكثير من المدافعين عن المنظومة القديمة، بل يطبع أيضا تدخلات الكثير من المحسوبين على الخط الثوري.

لقد أثبتت نتائج الانتخابات التونسية محدودية العوامل التقليدية في توجيه الناخبين، ولكنها أثبتت أيضا استمرار تأثير تلك العوامل وإن بصورة جزئية. كما أظهرت الانتخابات التونسية مقدار الضرر الذي ألحقه المرحوم الباجي قائد السبسي بالحياة السياسية، عندما رفض الإمضاء على تنقيح القانون الانتخابي. فقانون أفضل البقايا والخلط المشبوه بين العمل الجمعياتي والعمل السياسي، بالإضافة إلى وجود شبهات قوية حول دور المال السياسي المشبوه في تصعيد بعض النواب، كل ذلك يجعل من أولويات البرلمان القادم تمرير ذلك القانون، وهو ما سيتيسر إذا ما كان ساكن قرطاج شخصية تعترف بعلوية الدستور والإرادة الشعبية، كما هو شأن الأستاذ قيس سعيد، لا شخصية تحوم حولها شبهات كثيرة؛ لعل آخرها فضيحة "مجموعة الضغط" الصهيونية التي هي الآن من مشمولات القضاء.

التعليقات (2)
ناصح قومه
السبت، 12-10-2019 03:55 م
يا أهل تؤنس: لئلا يتكرر في قطركم أمين ثابت جديد أخطر من الأول، صوتوا غدا للأستاذ قيس سعيد؛واعلموا ان عدم ختم الرئيس السابق للقانون الانتخابي الذي كان سيقطع الطريق على اعوان الصهيونية كان بأوامر دولية عليا. واعلموا أن موضوع ين ميناشي ليس أول تعامل لنبيل قروي مع اخطبوط الصهيونية. لقد بدأت تعاملاته معها في السنوات الأخيرة للمخلوع بن علي.
ADEM
الجمعة، 11-10-2019 08:35 م
شكرا على الموضوعية و الصّراحة لذلك نقول لا تحمّلوا النهضة و المخلصين في تونس ما لا طاقة لهم فهم يتعاملون مع واقع شديد التعقيد و ما ورد في الفقرة الأولى من التّحليل يلخّص ذلك الواقع المرّ الواجب التّعامل معه بذكاء و عبقريّة سياسيّة نادرة .فيما يخصّ أدعياء الدّيموقراطية المهمّ مدى وطنيتهم ومدى إخلاصهم للشعب و لتونس أمّا عداوتهم للنهضة فهي مرحلة و بعدها إمّا أن يعودوا إلى رشدهم و يحكّموا عقولهم كما حدث أخيرا لزعيم ! المعارضة التّركية أو إلى مزبلة التّاريخ كما حدث للكثير من أمثالهم .