قضايا وآراء

هل ما زالت حركة النهضة ضمانة للانتقال الديمقراطي في تونس؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
ممّا يُنسب إلى الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه قوله: "هلك فيّ رجلان، مُحبٌ غالٍ، ومبغضٌ قالٍ"، وسواء أكانت هذه الرواية نبوءة من نبوءات الرسول صلى الله عليه وسلم أم كانت من أقوال الإمام عليه، كما هو مثبت في نهج البلاغة، أو كانت من موضوعات أهل الحديث، فقد كان من أمر عليّ ما كان مصداقا لها (أو على الأقل مرجعا تاريخيا لاختلاقها). ولو أردنا البحث في السياق التونسي الحالي عمّن تنطبق عليه هذه الرواية، فلن نجد أفضل من حركة النهضة التي أصبحت موضوعا للمشاعر الأكثر تناقضا عند مجموع التونسيين.

إثر الثورة التونسية، جاءت حركة النهضة إلى الحقل السياسي القانوني بعد عقود من العمل السري والمطاردة والقمع خلال حكم بورقيبة والمخلوع، كما جاءت الحركة لتخلخل التجانس الأيديولوجي بين النخب السياسية اللائكية المعادية لأي مرجعية دينية في بناء المشترك المواطني، وهي النخب ذاتها التي توحّدت قبل الثورة وبعدها على معاداة "الإسلام السياسي"، واعتباره خطرا على "النمط المجتمعي التونسي" مذوّبة أو دافعة إلى الخلف جميع خلافاتها الأيديولوجية، وكل التاريخ الصدامي الذي ميّز علاقات مكوّناتها زمن المخلوع، سواء من جهة علاقاتهم البينية أو علاقاتهم بالنظام الحاكم.

لقد كان عدد كبير من الناخبين التونسيين ينظرون إلى حركة النهضة باعتبارها النقيض الفكري والموضوعي للمنظومة القديمة، وهو أمر أكدته نتائج انتخابات المجلس التأسيسي التي جعلت النهضة القوة الأكبر في الحقل السياسي، ولكن سرعان ما خيّبتهم الخيارات السياسية الكبرى للحركة التي ضيّعت رأسمالها الرمزي (المظلومية، التناقض مع المنظومة، الخطاب الثقافي والاقتصادي المختلف عن خطابات ممثلي "النمط المجتمعي"، التحول من الاستعلاء الإيماني إلى الاستضعاف الديمقراطي.. الخ)، الأمر الذي سرّع باهتراء خزّانها الانتخابي وتراجع شعبيتها بين الفئات التي تشكّل قاعدتها الانتخابية الافتراضية (المتدينين، المحافظين، الإصلاحيين أو حتى العديد من الثوريين).

وبصرف النظر عن الأنساق الحجاجية التي تحاول تبرير هذا المعطى بـ"وطنية" الحركة التي ضحّت بجزء كبير من قاعدتها الانتخابية لتفكيك المنظومة القديمة من جهة أولى، ولضمان الشروط الضرورية لاستمرار الانتقال الديمقراطي. وبصرف النظر عن الأنساق الحجاجية الضديدة التي ترى في تراجع شعبية النهضة "أثرا منبثقا" أو غير مقصود من سياسات عشوائية وانتهازية لا تضبطها مرجعية سياسية ولا أخلاقية ثابتة، فإن اليقين الأوحد هو أن حركة النهضة تجد الآن نفسها في وضعية حرجة لا تسمح لها بهامش مناورة كبير، ولا تسمح كذلك لمنطق "التكتيك" بأن يمارس سحره السابق.

مهما كانت الاعتراضات الوجيهة على سياسات حركة النهضة وخياراتها "التوافقية" بعد الثورة، من المؤكد أن وجودها قد حال دون الرجوع إلى مربع 13 كانون الثاني/ يناير 2011 أو حتى إلى مربع 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987. فقد أثبتت الثورة التونسية أن تناقض النخب العلمانية (حتى تلك النخب المنتمية إلى المعارضة الراديكالية) مع المنظومة القديمة هو تناقض ثانوي، وأن ما يجمع تلك النخب بالنواة الصلبة للمنظومة الحاكمة أكبر مما يفرّق بينهم.

لقد أكدت مواقف الأغلب الأعم من ممثلي "العائلة الديمقراطية" بعد الثورة؛ أن تناقضهم الرئيس هو التناقض مع التحرر الوطني وبناء مقومات السيادة، والتناقض مع هوية الشعب ومقدساته، لا التناقض مع الفساد والتبعية والاستبداد داخل تونس وخارجها. ولا يمكن اعتبار الالتقاء الموضوعي بين هؤلاء وبين رعاة الوهابية والثورات المضادة في المنطقة العربية إلا وجها من وجوه "الانفصام"، أو ازدواجية الخطاب التي تطبع مواقفهم وتعمّق الفجوة بين الادعاء الذاتي والمحصول الواقعي.

رغم ما قدمته حركة النهضة من خدمات للمنظومة القديمة، فإن رفض جزء كبير من النهضويين لسياسة التوافق من جهة أولى، واستحالة تطبيع المنظومة مع الجسم النهضوي من جهة ثانية، هما أمران كفيلان بتغليب الثقة في وعود قيادات الحركة بعدم التحالف مع منظومة الفساد بعد الانتخابات التشريعية القادمة. ومهما كانت الحسابات السياسية التي دفعت بمجلس شورى حركة النهضة إلى إعلان تأييد السيد قيس سعيد في الانتخابات الرئاسية، فإن هذا القرار قد كان خطوة مهمة في استعادة ثقة جزء مهم من الناخبين في حركة النهضة. ولكن المعطى الأكثر تحديدا يظل هو العقل السياسي السليم الذي يقول بأن حركة النهضة لا تملك هذه المرة القدرة على خيانة ناخبيها أو تسفيه أحلامهم؛ لأن المسار الانحداري الذي يثبته انحسار القاعدة الانتخابية للنهضة بمفعول التوافق يجعل من "الانتحار السياسي" مواصلة سياسات التوافق مع المنظومة الفاسدة.

ختاما، لا يزعم صاحب هذا المقال أنه قد جاء بالقول الفصل في الخيار الانتخابي الأكثر عقلانية والأقدر على مراعاة المتغيرات المتحكمة في نوايا التصويت، ولكنه يزعم أنّ إعطاء فرصة أخيرة لحركة النهضة في الانتخابات التشريعية هو قرار يمتلك من الحجج السياسية، ما يجعل قرارا عقلانيا مناسبا، أو على الأقل قرارا براغماتيا أفضل من غيره في ظل السيناريوهات المرعبة التي قد تفضي إليها الانتخابات.

ولا شك عندنا في أنّ حركة النهضة ستكون هذه المرة مضطرة إلى مراعاة انتظارات ناخبيها؛ لأن كلفة إخلاف وعودها لن تكون إلا ذاب ريح الحركة وتحولها إلى رقم"صفري"، لا يختلف في شيء عن الأرقام الصفرية لليسار الاستئصالي، بل هو أدنى منه رتبة لأنه لا يمتلك "القوة النوعية" التي يمتلكها اليسار بحكم تغلغله في مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، وبحكم قدرته المؤكدة على لعب دور"كلب الحراسة الأيديولوجية" لكل الأنظمة بدعوى حماية "النمط المجتمعي"، وغير ذلك من الخرافات المؤسسة للدولة- الأمة التابعة والمتخلفة.
التعليقات (0)