كتب

بطاقة ملكية.. تاريخ من النهب في المكتبة الوطنية الإسرائيلية

في المسألة الفلسطينية من المستحيل نسيان ما تعرض له الشعب الفلسطيني من إبادة جماعية وطرد من وطنه
في المسألة الفلسطينية من المستحيل نسيان ما تعرض له الشعب الفلسطيني من إبادة جماعية وطرد من وطنه

صدر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" ــ رام الله ـ فلسطين، والأهلية للنشر والتوزيع ـ عمان ـ الأردن، النسخة العربية من كتاب "بطاقة ملكية: تاريخ من النهب والصوان والاستيلاء في المكتبة الوطنية الإسرائيلية" (ط1 2016)، للباحث "الإسرائيلي" غيش عميت، نقله إلى العربية علاء حليحل. 

وقد صدرت الترجمة العربية بالتزامن مع إصدار الكتاب باللغة العبرية، عن دار النشر هكيبوتس همئوحاد ومنشورات معهد فان لير في القدس المحتلة. الكتاب في الأصل رسالة دكتوراة أنجزها المؤلف في قسم الأدب العبري في جامعة "بن غوريون" في النقب (ص 7).

يقع الكتاب في 223 صفحة من الحجم المتوسط، ويتألف من مدخل وثلاثة فصول وخاتمة وقائمة لثبت المراجع، بالإضافة إلى تقديم للمترجم.
 
يتطرق المؤلف في هذا الكتاب إلى ثلاثة أحداث وقعت بين جدران المكتبة الوطنية ـ الصهيونية في القدس بين الأعوام 1945 ـ 1955: مشروع "كنوز المنفى" الذي جلبت في إطاره إلى القدس بعد الحرب العالمية الثانية، مئات آلاف الكتب التابعة لليهود والتي نهبها النازيون؛ جمع [نهب] نحو 30.000 كتاب كانت بملكية فلسطينيين أثناء حرب 1948 وتحويلها إلى جزء من مجموعات الكتب في المكتبة الوطنية؛ وجمع [نهب] كتب ومخطوطات ليهود من اليمن هاجروا إلى "إسرائيل" في نهايات سنوات الأربعين ومطلع الخمسين" (ص 11).

يوضح المؤلف أن فكرة ولادة المكتبة الوطنية تعود إلى عام 1892 "بمبادرة يوسف حزنوفتش (1844 ـ 1919)، وهو طبيب وعضو حركة "حوفقيه تسيون" (محبي صهيون) (...) [تبني] فكرة خلاص الكتاب العبري وجمع الشتات (...) [و] تأسست كشراكة بين مكتب "بني بريت" وبين المؤسسات القومية اليهودية، والتي سميت في غرة سنواتها "مكتبة مدراش أبربانيل"(...) في عام 1925 تأسست الجامعة العبرية، التي بسطت رعايتها على المكتبة الوطنية" (ص 28 ـ 29).
 
الفصل الأول: المكتبة اليهودية الأكبر في العالم

تناول المؤلف في هذا الفصل كتب ضحايا المحرقة وإعادة توزيعها بعد الحرب العالمية الثانية. يقول: "مع صعود النازية للحكم اجتاحت ألمانيا عدائية للكتاب والكتب والناشرين وحوانيت الكتب. وشملت هذه النشاطات اعتقال أدباء وحبسهم، ومصادرة منهجية للأدب الماركسي وتدمير الأدب الإباحي ونهب الكتب من الحوانيت التي كانت بملكية اليهود" (ص 38). 

و"عند انتهاء الحرب كانت ملايين الكتب والمكتبات الثقافية التي نهبها النازيون متوزعة على طول القارة برمتها. جزء كبير من الممتلكات لم يكن تابعا لليهود بل الكنائس والشيوعيين وأعداء آخرين للنظام النازي"، (ص 40). 

ويناقش المؤلف موضوع المدفوعات والتعويضات والاستعادة في أعقاب الحرب العالمية الثانية (ص 41 ـ 45). وفي إطار "سياسة الاستعادة الخاصة بالملكيات الثقافية اليهودية، في السنوات التي تلت الحرب"، فقد "أسست الجامعة العبرية لجنة "كنوز المنفي" التي مثلت مطالب الجامعة والمكتبة الوطنية(...) واعتقد جميع المشاركين أن المكان الطبيعي للأملاك الثقافية هو القدس" (ص 45). "وبكونهم صهيونيين، آمن أعضاء لجنة "كنوز المنفى" بأن مركز اليهود المستقبلي موجود في فلسطين" (ص 46). و"حتى عام 1952، أخرجت الشركة الأمريكية لترميم الثقافة اليهودية ما مجموعه 439.263 غرضا من ألمانيا. وقد وصلت منها إلى القدس 191.423 و169.013 إلى الولايات المتحدة وكندا، وأرسل ما تبقى إلى دول أخرى. في العقود الثلاثة التي تلت الحرب العالمية الثانية وصل إلى القدس نحو نصف مليون كتاب نهبها النازيون" (ص 82). 

الفصل الثاني: بلاطة ضريح غريبة، جمع المكتبات الفلسطينية من غربي القدس في حرب 1948

يتفحص المؤلف في هذا الفصل، "قضية جمع عشرات آلاف من الكتب الفلسطينية في حرب 1948، وخصوصا من أحياء القدس الغربية، وتحويلها إلى جزء من مجموعات المكتبة الوطنية" (ص 88)

"بين كانون الأول (ديسمبر) 1947 وأيلول (سبتمبر) 1949، فر أو طرد من بيته 600.000 ـ 700.000 فلسطيني، كانوا يسكنون في المدن وفي 440 قرية احتلها اليهود إبان حرب 1948(...) لم تحظ الكارثة التي ألحقتها الحرب بالثقافة الفلسطينية حتى الآن إلا باهتمام محدود" (ص 87). "بين أيار (مايو) 1948 ونهاية شباط (فبراير) 1949، جمع عمال المكتبة الوطنية نحو 30.000 كتاب وصحيفة ومخطوطة خلفها من ورائهم فلسطينيون من سكان القدس الغربية(...) زد على ذلك أن عمال الوصي على أملاك الغائبين جمعوا في عام 1948 والأعوام التي تلته، نحو 40.000 كتاب من مدن يافا وحيفا وطبرية والناصرة وأماكن سكنية أخرى. 

كانت غالبية الكتب تعليمية جمعت من مؤسسات ومدارس، وحفظت في مخازن أقيمت لهذا الغرض في حيفا ويافا والناصرة والقدس. الكثير من هذه الكتب بيع مجددا للمدارس العربية، ونحو 100 منها نقلت عام 1954 إلى قسم علوم الشرق في المكتبة الوطنية، فيما جرى هرس 26.315 كتابا، حين قرر الوصي على أملاك الغائبين عام 1957 أن "هذه الكتب لا تلائم المدارس العربية في البلد(...) وأيضا لأن قسما منها احتوى على مواد مناهضة للدولة، ويمكن لنشرها أو تسويقها أن يلحق الضرر بالدولة". (ص 88).

 

عند انتهاء الحرب كانت ملايين الكتب والمكتبات الثقافية التي نهبها النازيون متوزعة على طول القارة برمتها. جزء كبير من الممتلكات لم يكن تابعا لليهود بل الكنائس والشيوعيين وأعداء آخرين للنظام النازي


منذ آذار (مارس) 1948 أسست الهاغاناه "لجنة الممتلكات العربية في القرى" بغية مصادرة ممتلكات الفلسطينيين، (ص 94). شملت أعمال المصادرة والنهب الكتب والتحف الأثرية (ص 95). في يوم 15  آب (أغسطس) 1948 أصدر الحاكم العسكري في يافا مئير لنيادو أمرا غايته منع نهب الكتب وإخراجها خارج المدينة: "يحظر إخراج أي كتاب عربي من نطاق مدينة يافا. ثمة لجنة عينها وزير الأقليات برئاسة د. يسرائيل بن زئيف، المختص في الأدب والتاريخ العربيين، ستقوم بجمع كل الكتب العربية في يافا وستقوم بتجميعها في داخل المدينة. كل شخص في نطاق المدينة يملك كتابا أيا كان، من أي نوع، عليه إعلام مكاتب الحاكم كي يأتي المسؤولون لأخذه" (ص 96). 

وكتب بن غوريون في يومياته: "زرت برفقه ساسون المكتبة العربية التابعة لدولة إسرائيل في يافا. لقد جمعوا عشرات آلاف الكتب العربية. يعمل هناك تسيماح ود. يسرائيل بن زئيف. لم يقوموا بعد بتصنيف وتسجيل الكتب. يواصلون التجميع" (ص 96). وفي القطمون [من أحياء القدس الغربية] "نظمت لجنة من طرف الجامعة (العبرية)، التي تتبع الجيش وتجمع الكتب من داخل البيوت" (ص 97). 

في 26 تموز (يوليو) 1948 تم جمع نحو 12.000 كتاب وتزيد. قسم كبير من مكتبات الأدباء والمثقفين العرب موجود الآن في مكان آمن. وهناك بضعة أكياس من المخطوطات التي لم تتضح قيمتها بعد، موجودة بحيازتنا أيضا. يعود مصدر غالبية الكتب إلى القطمون" (ص 97). 

و"بين أيار (مايو) 1948 وشباط (فبراير|) 1949 جمع في القدس نحو 30.000 كتاب كانت بملكية فلسطينية خاصة، غالبيتها بالعربية وبعضها بالإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية. وقد جمعت أيضا آلاف الكتب التي كانت تابعة لمؤسسات تربوية وكنائس. وقد كانت الكتب متنوعة ومختلفة: القضاء الإسلامي، الشريعة الإسلامية، تفسيرات القرآن، الأدب المترجم من لغات أجنبية، القليل من الأدبيات العلمية، التاريخ والفلسفة" (ص 98). إن "جمع كتب الفلسطينيين شكل وازنا لميل الصهيونية لإنكار وجود الفلسطينيين كأصلانيين"(ص 103 ـ 104). لدرجة أن الكتب المنهوبة من القدس، "أزيلت أسماء المالكين؛ وبدلا منها ظهر التوقيع بحرفي (AP) أي (Abandoned Property) [أي أملاك متروكة"(...) جرى بتر هذه العلاقة المباشرة وبدلا منها حلت العلاقة غير الشخصية والتي تجلت في الكنية العامة ـ "أملاك متروكة". وبدلا من ذكرى البشر الخاصة والعصية على الاستنساخ، والتي كانت محفوظة في المكتبة لأكثر من عقد، حلت محلها إقامة أرشيف عام" (ص 108 ـ 109).

 

إن "جمع كتب الفلسطينيين شكل وازنا لميل الصهيونية لإنكار وجود الفلسطينيين كأصلانيين"


يورد المؤلف أسماء أصحاب الكتب المنهوبة: "محمد إسعاف النشاشيبي، التي ضمت مكتبته عشرات آلاف الكتب، وكانت مكتبته من إحدى أكبر المكتبات في القدس أثناء الانتداب البريطاني؛ وقد أمها في كثير من الأحيان مثقفون وأدباء عرب. وخليل السكاكيني وهو مرب وأديب عربي مسيحي. ويعقوب فرج، زعيم طائفة الروم الأرثوذوكس. وهنري قطان، عضو مجلس القضاء الفلسطيني بين الأعوام 1940 ـ 1948. خليل بيدس، أديب وكاتب مقالات ومترجم من الروسية. د. توفيق كنعان، من الشخصيات البارزة في فلسطين أواخر العهد العثماني والانتداب البريطاني، وإلى جانب نشاطه كطبيب، عرف كنعان إثر اهتمامه الكبير بالفولكلور والإنثوغرافيا الوصفية. وفؤاد أبو رحمة وهو نفسه فايز أبو رحمة، عضو سابق في المجلس الفلسطيني. ويوسف هيكل، الذي يحمل لقب الدكتوراة في القانون ورئيس بلدية يافا بين سنتي 1947 ـ 1948" (ص 113 ـ 117). 

يتعقب المؤلف المصير الذي لحق بهذه الكتب بالقول: "هناك نحو 40.000 كتاب أخر حفظت في المخازن التي أقامتها وزارة المعارف وفي أواخر سنوات الخمسين مزق وأبيد أكثر من نصف الكتب" (ص 118 ـ 132). 

الفصل الثالث: يجب إنقاذ هذا الموروث من النسيان

"كانت مكتبات وأرشيف الكنس في اليمن طافحة بالكتب الدينية وبالمخطوطات العتيقة. وشملت الأدبيات التوراتية التوراة والأنبياء والكتب، المشناه والجماراه وكتب الدراسة (مدراش) وكتاب الزوهار وكتب الفتاوى الدينية وعلى رأسها الرمبام، الذي نظر إليه في اليمن إبان القرن الثاني عشر على أنه المرجعية الشرائعية الأعلى. وبما أن اليمن لم يكن يحوي أي مطابع حتى مطلع القرن العشرين. فإن غالبية نصوص يهود اليمن كانت مكتوبة بخط اليد، وبعضها كان كتبا قديمة تنوقلت من جيل إلى جيل" (ص 148). 

في أيار (أيار) 1949 بلغ ممثلي الوكالة اليهودية في عدن بأن القادمين إلى المخيم جلبوا معهم آلاف الكتب ونحو 300 كتاب توراة؛ "مبعوث خاص من قسم الهجرة صنف الكتب واهتم برزمها. وستنقل هذه الممتلكات أيضا إلى أرض إسرائيل". وفي تلك الفترة بدأت تسمع ادعاءات بخصوص المس بممتلكات يهود اليمن، ومن ضمنها سرقة وإخراج الكتب والأغراض اليهودية والمخطوطات والمجوهرات عن طريق الحيلة" (ص 149). 

ويشير المؤلف إلى بعض حالات نهب الكتب والمخطوطات بالقول: "وصل الحاخام يحيئيل عوميسى، رئيس المحكمة والأب الروحي لجماعة ردع في اليمن، إلى إسرائيل في مطلع 1950. وقبل صعوده إلى الطائرة أودع كتب التوراة العشرة التابعة لجماعته بيد مدير وكالة التأمين في الحكومة الإسرائيلية. وعند حضوره لأخذها من مخازن الوكالة اليهودية في تل أبيب اكتشف أنها اختفت(...) في النصف الثاني من عام 1950، شيدت مخازن كتب ومخطوطات في يافا وأخرى بجوار حيفا. ولكن عندما رغب يهود اليمن بالحصول على ممتلكاتهم، رد الموظفون طلباتهم بذرائع شتى؛ وأحيانا كانت الكتب الموجودة في المخزن تختفي في الغداة" (ص 150). و"في أحد الأيام أظهروا لنا كتبا محروقة" (ص 151). اكتشفنا "بعد مرور بضع سنوات وجود بعض الكتب "المحروقة" في دكان تاجر كتب". (ص 151). "كان فصل يهود اليمن عن موجوداتهم الروحانية جزءا من تحويل المجتمعات اليهودية الكثيرة إلى وحدة إثنية وقومية، تبلورت من خلال صلة متينة مع البناء الثقافي المرتبط بالمشروع الكولونيالي الغربي، وبما يخضع للنموذج الاستشراقي. وجرى في عملية البلورة هذه إقصاء لثقافات وطمس لتقاليد وقطع لانتماءات" ( ص 181).
 
الخاتمة:

يقول المؤلف في خاتمة كتابه: "تشكل هذه القضايا الثلاث شهادة إضافية على أن الاستيطان اليهودي المعاصر في فلسطين والثقافة العبرية التي تطورت إلى جانبها، رغم صلتها العميقة والتواقة بأزمة تاريخية سابقة، هي أولا وأخيرا فصل في التاريخ الأوروبي المعاصر." (ص 183). و"خصص للخيال الكولونيالي والاستشراقي في القضايا الثلاث دور مركزي: فقد ارتكز جمع كتب الفلسطينيين ويهود اليمن بقسط كبير على موقف المستشرق الذي يعتقد أنه الوحيد القادر على التحدث (من موقع أبوي) باسم المجتمعات الأصلانية والمتخلفة التي يدرسها(...) وهو يستند من ضمن ما يستند إليه على معتقد يفيد بأن تأسيس مستعمرات أوروبية من المتوقع أن يسهم مستقبلا في رفاهية الأصلانيين وأن يعود بالفائدة والمنفعة على مناهج حيواتهم وأن ينير لهم الدرب إلى "الحياة الحضارية"." (ص 184). 

فقد "استندت عمليات الجمع والتملك في الحالتين على معتقدات مركز ـ أوروبية واستشراقية، فقد نُظر إلى الفلسطينيين ويهود اليمن على أنهم أنتجوا ممتلكات ثقافية لم يكونوا قادرين بأنفسهم على فهم وإدراك قيمتها وأهميتها بشكل حقيقي" (ص 187). وبصياغة أكثر وضوحا: لم تتغذ هذه القضايا الثلاث على القرب القائم بين الصهيونية والغرب والاستشراق الأوروبي فحسب، بل على التوق القائم لخلق صورة غربية للجامعة العبرية، وتأسيس هوية رؤسائها كأشخاص يشاركون في مشروع التنوير الأوروبي" (ص 188). 

في خاتمة الكتاب، يشير المؤلف صراحة إلى "الصفح"، والذي هو "شكل للوجود بعد عمل إجرامي، فعل يتم في الحاضر لكنه موجه للمستقبل والماضي في آن واحد؛ وهو يمكن من الانتقال من ماض لا يغتفر إلى مستقبل ممكن، وهو لا يفعل ذلك بواسطة تحويل اللا يغتفر إلى أمر مغفور، بل على العكس ـ بواسطة تحويل اللا يغتفر إلى أمر معترف به لدى من قام بهذا الفعل الذي لا يغتفر" (ص 192). إذن "الصفح"، كما يري المؤلف، لا يرتبط بالفرد الذي تعرض للأذى والظلم، ولكن يرتبط بمن قام بالفعل الذي لا يغتفر لكى يستمر في حياته! 

فـ"الصفح" من وجهة نظري يتعلق بالنسيان، ورأب الصدع بين الجلاد والضحية، وفي المسألة الفلسطينية من المستحيل نسيان ما تعرض له الشعب الفلسطيني من عمليات إبادة جماعية وطرد من وطنه? ونهب ممتلكاته المادية والثقافية والحضارية.

 

*كاتب وباحث فلسطيني

التعليقات (0)