أفكَار

رئيس "علماء المسلمين" الجزائرية: الدولة جزء من المعتقد الإسلامي

رأى بأن القائل بالفصل بين الدين الإسلامي والسياسة إما جاهل أو حاقد (عربي21)
رأى بأن القائل بالفصل بين الدين الإسلامي والسياسة إما جاهل أو حاقد (عربي21)
لم يأخذ موضوع تحالفات الإسلاميين السياسية حظّه من البحث والدراسة، وذلك لأسباب عديدة منها طول أمد العزلة السياسية التي عاشها الإسلاميون بسبب تحالفات النظم الحاكمة مع بعض القوى السياسية، واستثناء الإسلاميين من هذه التحالفات، بناء على قواسم أيدولوجية مشتركة بين الأنظمة ونلك التيارات.

لكن، مع ربيع الشعوب العربية، ومع تصدر الحركات الإسلامية للعمليات الانتخابية في أكثر من قطر عربي، نسج الإسلاميون تحالفات مختلفة مع عدد من القوى السياسية داخل مربع الحكم، وترتب عن هذه التحالفات صياغة واقع سياسي موضوعي مختلف، ما جعل هذا الموضوع يستدعي تأطيرا نظريا على قاعدة رصد تحليلي لواقع هذه التحالفات: دواعيها وأسسها وصيغها وتوافقاتها وتوتراتها وصيغ تدبير الخلاف داخلها، وأدوارها ووظائفها، وتجاربها وحصيلتها بما في ذلك نجاحاتها وإخفاقاتها.

يشارك في هذا الملف الأول من نوعه في وسائل الإعلام العربية نخبة من السياسيين والمفكرين والإعلاميين العرب، بتقارير وآراء تقييمية لنهج الحركات الإسلامية على المستوى السياسي، ولأدائها في الحكم كما في المعارضة.

اليوم يُقدم رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائرية، الدكتور عبد الرزاق قسوم، في حوار ننشر قسمه الأول اليوم، رأيه في الدولة الإسلامية مفهوما وممارسة.

رئيس "علماء المسلمين" الجزائرية: الدولة جزء من المعتقد الإسلامي (1من2) 

تُعتبر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي تأسست خلال النصف الأول من القرن العشرين (5 أيار/مايو 1931)، المرجعية الدينية الأهم في الجزائر بالنظر إلى الدور الذي اضطلعت به سواء إبان ثورة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي، أو في ظل الدولة الوطنية لجهة الحفاظ على هُوِية الجزائر العربية والإسلامية.

تُعرّف الجمعية نفسها، بأنها إصلاحية دعوية تربوية، قائمة على أصول ثابتة هي القرآن والسنة الصحيحة.

وتعدّ الجمعية امتدادا للحركة الإصلاحية التي قادها الشيخ عبد الحميد بن باديس، والتي قامت على مقاومة تأثيرات الاستعمار الفرنسي وترسيخ مقوّمات الشخصية الجزائرية ببعدها الإسلامي.

وكما انشغلت الجمعية بالشأن المحلي الجزائري قبل الاستقلال وبعده، فإنها لم تغفل عن الاهتمام بالشأن العربي والإسلامي، منذ رئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس مرورا بالبشير الإبراهيمي وأحمد حماني وعلي مغربي وعبد الرحمن شيبان، وصولا إلى الدكتور عبد الرزاق قسوم، الذي يرأسها اليوم.

كيف تنظر الجمعية لواقع العالم الإسلامي اليوم، ولأوضاع المسلمين في مختلف أنحاء العالم؟ وما هو تصورها عن ثورات الربيع العربي التي اجتاحت العالم العربي منذ أواخر العام 2010 من تونس، وجدل الحريات والمساواة في الفكر الإسلامي؟

هذه الأسئلة وغيرها طرحها الكاتب والإعلامي الجزائري عبد القادر قلاتي على رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الدكتور عبد الرزاق قسوم، فكانت هذه ردوده: 

س ـ ظلّت فكرة الدولة الإسلامية، تشكل حيزا كبيرا في المخيال الإسلامي، وفي مجمل النتاج الفكري للجماعات الإسلامية، وبالرغم من مجهودات هذه الجماعات، في البحث عن موضع المجال السياسي العربي، إلّا أنّ أغلب المؤشرات الفكرية الجادة، تؤكد استحالة قيام هذا النموذج لشكل الدولة الحديثة، إلى أي حد مازال مفهوم الدولة الإسلامية حاضرا في الإطار العام للفكر الإسلامي، وهل يمكن القول بالتجاوز للمفهوم ـ أي مفهوم الدولة الإسلامية ـ لصالح صيغ أخرى ممكنة التحقق، وغير متجاوزة للتصور الإسلامي للمجتمع والدولة؟

 ـ إن فكرة الدولة في تأصيلها تمثل جزءا من المعتقد الإسلامي، الذي من مقاصده بناء المجتمع الإسلامي الأفضل.

وتستلهم فكرة الدولة الإسلامية بعدها من الكتاب والسنّة، فعلى سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ (سورة المائدة، الآية 49). وقوله تعالى: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً (سورة المؤمنون، الآية 52). وقوله تعالى: لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ  إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (سورة الأنفال، الآية 63).

كما أن أحاديث كثيرة، تحث على بناء الدولة الإسلامية، من ذلك الحديث المعروف "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعت الأكلة إلى قصعتها، قالوا أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء، كغثاء السيل..." إلى آخر الحديث.

ففكرة الدولة الإسلامية إذن عريقة وعميقة في المخيال الإسلامي، ولكنها فقدت بريقها اليوم، وضعف معناها ومبناها بسبب الممارسة الخاطئة لها، والظلم لمصطلحها ومفهومها، حيث شوهت من مستعمليها إما بالعنف الإرهابي الأعمى، أو بالظلم التعسفي الأنكى، أو بالتنظير الجاهلي الأغبى، وكل ذلك قدم صورة سيئة عن الدولة الإسلامية، التي هي في أصلها عدل، وإخاء، وبناء، ومحبة.

وإذن، فإن فكرة الدولة الإسلامية، بفهم صحيح، وتطبيق فصيح، ستظل مقصد كل مسلم ومسلمة، وإن سطا عليها أحيانا غير المؤهلين لبنائها، ولا يمكن تجاوزها كمبدأ. غير أنه يمكن القول، بالبحث عن صيغ جديدة كبدائل، تكون مقدمات سليمة، لنتائج أفضل، كالتضامن الإسلامي، أو الحلف الإسلامي، أو الوحدة الإسلامية، إلى أن يأذن الله بقيام دولة إسلامية، ثابتة الأركان، تقوم على أنقاض الدعاوى المزيفة.

لا تعارض بين الوطنية والإسلام

س ـ واقعيا هل يمكن القول إن مفهوم الدولة الوطنية المدنية أجهض فعليا مشروع الدولة الإسلامية؟ وهل هناك أي تعارض بين المفهومين؟

 ـ لا أعتقد بوجود تعارض بين الوطنية والإسلام، ولا بين الدولة الوطنية، وفكرة الدولة الإسلامية.

إن قيام المجتمع الإسلامي الأفضل، القائم على الأركان الإسلامية الصحيحة هو النواة الصلبة في كل مجتمع مسلم لبناء الدولة، التي يجد فيها المواطن حرية إثبات وجوده، وحرية التعبير عن إرادته، وحرية الاختلاف مع بعض التوجهات المخالفة، فذلك كان شأن الدولة الإسلامية الأولى التي نشأت في المدينة، والتي تعايشت فيها الطوائف، وتساكنت الديانات، وكانت نموذجا يحتدى بفضل القيادة السليمة التي جسدها الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، ولا عبرة بالمصطلح.

س ـ كثير من دارسي الفكر السياسي الإسلامي، يعتقد أن السبب الرئيسي في فشل مشروع الدولة الإسلامية، يعود إلى أن الدين لا علاقة له بالسياسة، على اعتبار أنّ الدين مجاله علاقة الإنسان بخالقه ويهتم بالكون نشأة ومآلا، وأنّ السياسة هي تصريف حياة النّاس اليومية، هل مفهوم الدولة الإسلامية له وجود في التصور الإسلامي للإنسان والكون والحياة؟

 ـ إن من يقول بفصل الإسلام عن السياسة لا يخلو من أمرين، إما جاهل بجوهر الدين الإسلامي الذي يقوم على شمولية الحياة الفردية والمجتمعية، وأن علاقة الإنسان بخالقه، واهتمامه بالكون نشأة ومآلا، تتحكم أساسا في تصريف حياة الناس اليومية.

أما الصنف الثاني من القائمين بفصل الإسلام عن السياسة، فهو الحاقد المعادي لكل ما يمثل القيم الإنسانية العليا، والمدفوع بإيديولوجيات أو قناعات دينية أخرى، فهو ينزّل تلك القناعات ظلما على الإسلام.

نحن نؤمن بأن فصل الدين عن الدولة مفهوم يتعلق بالديانات الوضعية، ولا علاقة له بالدين المنزل من عند الله القائل: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ (سورة المائدة، الآية 49).

فمثل هذه الأحكام الداعية إلى فصل الإسلام عن السياسة، دعاوى لا تستند إلى دليل ديني أو عقلي، وإنما هي فقاقيع هواء يقصد بها صرف المسلمين عن فهمهم الصحيح لدينهم.

التعددية من ثوابت العقيدة

س ـ منذ سقوط الخلافة الإسلامية، وإلى أن قامت الجماعات الإسلامية الكبرى في العالم الإسلامي، وعلى الرغم من تعدد هذه الجماعات واختلافها في الكثير من تفاصيل العمل الإسلامي، إلّا أنّ مفهوم التعددية، يغيب كإطار فاعل في العمل الإسلامي، وعلى الرغم من الكتابات التنظيرية حول المفهوم، إلّا أنَّ جماعات الإسلام السياسي لم تحسم موقفها من هذا الموضوع فكريا ونفسيا، هل من قراءة للمفهوم بعيدا عن الأطر التقليدية والمفاهيم الجاهزة؟

 ـ إن الخلل المنهجي الكامن خلف أخطاء الجماعات الإسلامية الكبرى، يكمن في غياب تعميق الثقافة السياسية المتأصلة، التي تضرب بجذورها في أركان الفهم الإسلامي الصحيح.

فمفهوم التعددية في المجتمع الإسلامي ثابت من ثوابت العقيدة، بنص الكتاب والسنّة، كقوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (سورة سبإ، الآية 24). وقوله: قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (سورة سبإ، الآية 25)، وقوله: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (سورة الكافرون، الآية 6).

لذلك نقول بأن كل من يتحمل مسؤولية البناء للمجتمع الإسلامي، ينبغي أن ينطلق من مبدأ "أدب الاختلاف"، وأن يؤمن بالتسامح، والانفتاح، والسلم المجتمعي، فالقرآن صريح في هذا حين نجد خطاب الله لرسوله قائلا: وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (سورة آل عمران، الآية 159).

ولنا في ما دعا إليه الماهدون الأولون في الحركات الإسلامية، من أمثال ابن باديس في الجزائر، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وغيره، خير مثل يمكن أن يحتذى.

 س ـ بالمناسبة، لم تنجح في تاريخنا أي تجربة وحدوية، ولا حتى تجمع واحد، لا في دول المغرب الكبير ولا في الجامعة العربية ولا في دول الخليج، ولا حتى في منظمة التعاون الإسلامي، ولا حتى بين الجماعات الإسلامية نفسها.. أين الخلل؟

   إن الخلل ـ من وجهة نظرنا ـ في فشل التجارب الوحدوية في أمتنا، يكمن في أن هذه التجارب لم يؤصل لها إسلاميا، بحيث توضع لها أسس إسلامية مضادة للزلازل المعادية، فكان مآلها عدم الصمود لأن ما بني على باطل فهو باطل.

وإلا كيف تفسر نجاح المجموعة الأوروبية، وهي دول تختلف معتقدا وثقافة، وتاريخا، وعادة، ومع ذلك كتب لوحدتها النجاح، في حين فشلت تجارب أمتنا، مع ما يجمعها من دين، وثقافة، وتاريخ ومصير؟

 س ـ مع ظهور الثورات العربية، أو ما سمي بالربيع العربي، برز من جديد مفهوم قديم في الفكر السياسي الإسلامي، وهو ما يعرف بالخروج عن الحاكم، كيف نقرأ هذا المفهوم في إطار جدلية السلطة والمجتمع؟

ـ إن جدلية السلطة والمجتمع في واقعنا العربي الإسلامي، كما جسده ما عرف بالربيع العربي، تتبع من أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أو بين السلطة والمجتمع لم تحكمها قواعد ثابتة، نابعة من عمق المجتمع وقناعته، وإنما حكمتها عوامل خارجية في معظمها، ففقدت بذلك الناظم الذي يحكمها، وهو الناظم الشرعي.

فإذا أضفنا إلى ذلك التنظير الخاطئ الذي يستند إلى أحكام خاطئة كقولهم: "حاكم غشوم ولا فتنة تدور"، أو قولهم: "لا يجوز الخروج عن الحاكم حتى ولو جلد ظهرك، وأخذ مالك"، إلى غير ذلك من الأحكام التي تفهم فهما خاطئا، أو لا تقوم على سند شرعي صحيح تبين سبب الفشل.

إن العلاقة بين الحاكم والمحكوم حددها الشرع الإسلامي في أكثر من حكم: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم"، وقول الخليفة أبي بكر الصديق: "إن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فقوّموني"، والأمثلة عديدة في تاريخنا الإسلامي على تصحيح العلاقة بين الحاكم والمحكوم في المجتمع الإسلامي، فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟!
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم

خبر عاجل