قضايا وآراء

ما بعد الاعترافات الأوروبية بفلسطين

1300x600
تثير الاعترافات الأوروبية المتتابعة بدولة فلسطين نقاشًا عن هذه الدولة وفرص تنزيلها رغم واقع الاحتلال القائم على الأرض. يأتي ذلك بعد أن تبلورت فكرة إقامة دولة فلسطينية في الخطاب السياسي الفلسطيني عبر مراحل متلاحقة، بدءاً من أواسط السبعينيات، عندما تبلور "برنامج النقاط العشر" الذي نادى بإقامة دولة فلسطينية على أي شبر يتمّ تحريره من فلسطين.

إنّ تتبّع مسار الخطاب الرسمي الفلسطيني في تناوله هذا الملف يُظهر أنّ الدولة لم تكن في صدارة أولويات ذلك الخطاب في مرحلة الثورة والكفاح المسلح؛ بل كانت الصدارة للتحرير، وتفعيل حقّ العودة، وتقرير المصير. ورغم أنّ حقّ تقرير المصير يستبطن التوجّه إلى الاستقلال وإقامة دولة؛ إلاّ أنه كان يضع الدولة عملياً ضمن مسارها الاعتيادي في عملية التحرّر الوطني. ثمّ برز توجّه إقامة الدولة متلازماً مع هبوط مصطلح التحرير، والتخلي عن خيار الكفاح المسلّح أو حتى الانتفاضة الشعبية من جانب الرسمية الفلسطينية.

لقد تقلّص مفهوم الدولة الفلسطينية ذاته مع الوقت، فتضاءلت شروط قيامها، حتى باتت عملياً مفهوماً غير محدّد المواصفات في الخطاب الرسمي الفلسطيني، خاصّة في ما يتعلّق بسيادتها الكاملة وتسلّحها، بل وحتى رقعتها الجغرافية، كما اتجه هذا الخطاب إلى تضخيم الأبعاد الرمزية على حساب الجدوى الواقعية من موضوع الدولة، وبدا كأنّ الدولة تُقدّم في الساحة الداخلية الفلسطينية في هيئة الإنجاز السياسي لمسار السلام والتسوية الذي يمضي بلا أفق.

لقد ازدادت "الدولة" حضوراً في أولويات الخطاب السياسي للسلطة الفلسطينية بعد مرحلة انتفاضة الأقصى، وتزامن ذلك مع اضمحلال فرص التوصل إلى اتفاقات تسوية سياسية مع الحكومة الإسرائيلية التي تُبدي تصلّباً مُعلناً أكثر من أي وقت مضى. وبدا ذلك واضحاً من مرحلة الحديث عن إقامة "مؤسسات الدولة"، إلى مرحلة رفع لافتة "استحقاق أيلول"، إلى التحرّك للحصول على عضوية فلسطين في المنظمات الدولية، ثمّ جاءت متوالية الاعترافات الأوروبية في هذا الصدد.

للوهلة الأولى؛ سيبدو أنّ متوالية الاعترافات هذه تمثِّل مكسباً سياسياً للسلطة الفلسطينية أساساً، ومن الواضح أنها تحاول تسويقها داخلياً كإنجاز يبرهن على جدوى نهجها السياسي. لكنّ الشعب الفلسطيني سيعوِّل في النهاية على ما يلمسه في واقعه المباشر، خاصّة وأنّ الاعترافات وحدها لا تمنح الاستقلال أو السيادة على الأرض.

واضح أنّ السلطة الفلسطينية تكتسب من خلال هذه المتوالية من الاعترافات فرصة للحديث عن "إنجازات" يجري إحرازها، وسط حال الانسداد القائمة في مشروعها السياسي. ويمكن للسلطة الفلسطينية أن تبني على هذه الاعترافات خطوات متعدِّدة على المستوى الدولي، لاسيما التوجّه إلى مجلس الأمن، وعضوية فلسطين في مزيد من المنظمات الدولية. كما قد تستفيد السلطة، نسبياً، من هذه الاعترافات في أي عملية تفاوضية مقبلة، عبر تعزيز موقفها التفاوضي، في المنظور المعنوي على الأقل.

لقد جاءت متوالية الاعترافات الأوروبية لتنعش الحديث عن "دولة فلسطين"، ولكنّ هذه المتوالية تمثِّل استحقاقاً تاريخياً تأخّرت الدول الأوروبية فيه عن كثير من دول العالم التي سبقت إليه، وحتى عن دول أوروبية كانت منضوية في الكتلة الشرقية السابقة.

وما لا يمكن تجاهله أنّ هذه الاعترافات لا تحقِّق في محتواها السياسي الفعلي آمال الشعب الفلسطيني وتطلّعاته المشروعة، كما لا تشير إلى حقوق فلسطينية جوهرية كحقّ العودة مثلاً، بينما ترسِّخ بقاء دولة الاحتلال وحصانتها. لكنّ هذه الاعترافات تحمل مخزوناً رمزياً لفلسطين في العالم، وترسِّخ وجود اسم فلسطين في تداول الحاضر والمستقبل، وتبقى المعضلة أنها تختزل فلسطين وحقوق شعبها وترسِّخ الاحتلال ودولته.

وبغضّ النظر عن القرارات الأوروبية التي تصدر في متوالية الاعترافات هذه، فإنّ طابعها الجارف يتيح فرصاً لقضية فلسطين عبر فتح آفاق لزعزعة بعض ثوابت المواقف الأوروبية، على الأقل لدى بعض الأطراف السياسية والمجتمعية. إنّ وضع ملف فلسطين في دائرة النقاش العام ينطوي على فرصة للقضية الفلسطينية التي تكسب من مجرّد تنمية الوعي بواقع الاحتلال.

ورغم الأجواء البهيجة المصاحبة للاعترافات، فلا جديد يُذكر في الخطاب السياسي الأوروبي في موضوع فلسطين، إذ تتمّ هذه الاعترافات إجمالاً ضمن سقف الخطاب السياسي الأوروبي، مع بعض الإزاحات الموضعية.

وتجدر ملاحظة التباينات النسبيّة بين الصيغ التي تم طرحها للتصويت في برلمانات أوروبا بخصوص الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فعموماً جاءت الصيغ النهائية التي تمّ إقرارها أضعف بوضوح من مشروعات القرار التي تمّ التقدّم بها ابتداء.

ورغم أنّ هذه الاعترافات لا ترقَى إلى التجاوب مع حقوق الشعب الفلسطيني، إلاّ أنّ ما دونها - أي عدم الاعتراف بالكلية - ليس بحال أفضل. ثمّ إنّ معارضة هذه الاعترافات ليس خياراً للمدافعين عن حقوق الشعب الفلسطيني، لكنّ المبالغة في تقدير مردوداتها الفعلية تصرف النظر عن أنّ المسألة الجوهرية تتمثل باستقلال الدولة الفلسطينية على أرض الواقع، كما يجدر العمل على تبيان القصور الكامن في النصوص التي تمّ إقرارها كي لا تحتفظ بمكانة أبدية غير قابلة للمساس مستقبلاً، وهو ما يفرض تهيئة أذهان الصفوة السياسية في أوروبا والعالم لهذا.

وفي كلِّ الأحوال؛ ينبغي الدفع باتجاه اغتنام متوالية الاعترافات هذه في عزل الاحتلال وإبراز الحقوق الفلسطينية. كما يجدر استثمار كافة المكتسبات التي تتيحها الاعترافات هذه، خاصّة عضوية المنظمات الدولية، والاستفادة من أنظمة العدالة الجنائية الدولية، والضغط على المستوى الرسمي الفلسطيني في حال تلكأ عن خطوات كهذه. وستضع هذه الاعترافات المستوى الرسمي الفلسطيني أمام اختبار استنفاد خيارات الضغط الدولي على الاحتلال، خاصة العدالة الجنائية الدولية، وقد يعود ذلك على السلطة الفلسطينية بالحرج إذا لم تنضج إرادة سياسية لديها في هذا الاتجاه.

ويبقى أنّ الصيغ التي تمّ التصويت عليها، ترسم تحدياً في مواجهة خطاب الحقوق والثوابت الفلسطينية، لجهة قدرته على التعامل مع هذه الخطوات بانفتاح، دون تسليم بمحتواها السياسي المباشر.

ينبغي تطوير خطاب شعبي فلسطيني فعّال يتوجّه إلى العالم، بما يعزِّز حضور الحقوق غير القابلة للتصرّف ويتصدّى للتحديات التي تمثلها أي مشروعات سياسية قادمة. إنّ هذا الخطاب يُرجى منه أن يعزِّز من خطاب المقاومة الفلسطينية، وألّا يُبقي التعبير عن الساحةَ الفلسطينية على المستوى الدولي متروكاً لخطاب الرسمية الفلسطينية. إنّ وضع القضية الفلسطينية في مربّعها الأول، خاصة من خلال حدث النكبة المؤسِّس، وإبراز حقوق الشعب الفلسطيني الثابتة، يظلّ خياراً لا غنى عنه في التعامل مع تحديات ترسيخ الاحتلال وتحصين دولته.