كان على البلاد أن تنتظر عقوداً سبعة كي تشهد
احتفاليتها الأكبر من جديد. احتفى البريطانيون في السادس من أيار/ مايو بتتويج
تشارلز الثالث ملكاً عليهم، كما احتفلوا بوالدته سنة 1952 وبأسلافها أيضاً، أو
هكذا تقريباً، وكأنّ عقارب "بيغ بن" لم تتزحزح عن مواضعها منذ البدء.
تقف المملكة المتحدة، كعادتها، في صدارة الأمم
المحسوبة على الحداثة و"ما بعدها"، لكنّ احتفاء الجماهير البريطانية،
والأوروبية والغربية عموماً، بطقوس
التتويج المحكومة بالمقدّس الديني وسطوة
التراث؛ يستدعي تساؤلات عن امتداد الماضي في الحاضر، وعن اتصال واقع الحداثة
والعصرنة بالدِّين والتقاليد، وعن حالة الديمقراطية و"حُكم الشعب" في
زمن المتغيِّرات المتسارعة.
تشكّل المشهد اللندني حسب
الطقوس المتوارثة، وتعيّن
على جماهير الشعب أن تهتف من أعماقها لحامل التاج كما فعلت منذ قرون خلت تقريباً،
وأن تغنِّي معاً: "ليحمِ الربّ الملك" بعد تتويجه في كنيسة ويستمنستر.
واكبت أوروبا العلمانية الحدث عبر الشاشات والشبكات وباركته عواصمها، وإن لم تسمح
بعض أنظمتها بهذا الاغتراف
الديني المتقيّد بطقوس صارمة. على أنّ لبعض هذه
التقاليد ما يحاكيها رمزياً في أنظمة أوروبية غير ملكية أيضاً، فهي تقف بخشوع
ظاهر؛ تعظيماً لرايات طوطمية وشارات وطنية، أو تسترجع محفوظات مبجّلة من مقولات
جمهورية تبلغ عندها مبلغ القداسة تقريباً.
احتفاء الجماهير البريطانية، والأوروبية والغربية عموماً، بطقوس التتويج المحكومة بالمقدّس الديني وسطوة التراث؛ يستدعي تساؤلات عن امتداد الماضي في الحاضر، وعن اتصال واقع الحداثة والعصرنة بالدِّين والتقاليد، وعن حالة الديمقراطية و"حُكم الشعب" في زمن المتغيِّرات المتسارعة
انفلتت بعض الأنظمة من مقدّس تقليدي عهدته إلى جديد
نحتته وعظّمته؛ فصار هذا لديها هو الثابت الجديد والمرجعية المؤكّدة. لا تنفك
الأمم عن مُقدّسات تتبعها أو تبتدعها، ويتجلّى منحى الإحلال الرمزي لدى أنظمة
أعلنت التمرّد على المقدّس وتباهت بالفكاك من الماضي. نحتت العلمانية الفرنسية
الصارمة ألواحها المُقدّسة المُسماة "قيم الجمهورية"، ونقشت الأنظمة
الحمراء البائدة أيقونات مُحاطة بهالة قداسة بروليتارية، وأزاح التثليث الشيوعي
المتذرِّع بماركس وإنجلز ولينين شارات الكنائس ورموزها، وصار ضريح الزعيم السوفييتي
الأوّل مزاراً في الساحة الحمراء على منوال التبرّك بالقدِّيسين والأولياء.
سلّمت جماهير الحدث التاريخي الضخم في لندن بسلطة
رمزية متذرِّعة بالسماء وترقّبت بهوَس ظاهر
طقوس استمداد الأهلية الملكية من ترسيم
كنسي تخلّلته
طقوس متوارثة منذ ألف سنة؛ تعيّن الالتزام بها والتقيّد بحذافيرها.
لا حاجة لشرعية شعبية تُزاحِم شرعية السماء، إذ تكفي هتافات الجماهير الشغوفة
بالحدث التاريخي لتُعَدّ برهاناً على حفاوة الشعب بتتويج جرى في رواق مقدّس احتكره
حاملو الصلبان وحاشية القصر.
لم تكفّ شعوب الملكيات الأوروبية عن تقليدها المعهود
في التجمهر أسفل شرفة القصر شغفاً بخروج زوج ملكي يلوِّح لهم بالأيدي ويمنحهم
ابتسامة مُختزلة. لهذه الإيماءات مفعولها الأخّاذ لدى الجماهير إذ يدغدغ إحساسها
بهُويّة جامعة وبانتماء إلى وطن مشترك، ويمنحها رشفة الاستقرار المعنوي في زمن
التقلّبات؛ من خلال إطلالة والِدية وَقورة. يحدث هذا كلّه رغم أنّ الأسر الملكية
عينها لا تملك سلطة فعلية تتجاوز القصور والأملاك والأرصدة التي تستحوذ عليها.
تتواطأ شعوب الديمقراطيات عينها مع الأسر الحاكمة عندما تكبح الجدل عن الامتيازات
المالية والضريبية التي تحظى بها، ومنها أنّ منصب الملك في
بريطانيا مُعفى في
الأساس من الإلزام الضريبي؛ وإن تعهّدت الملكة إليزابيث الثانية بشكل طوعي فقط
بدفع الضرائب بدءاً من عام 1993.
لا مساحة لتساؤلات نقدية وسط زحام المبتهجين بإطلالة
الملك وحاشيته من شرفة قصر بكنغهام، كأن يجرؤ بعضهم على التفكير بجدوى الاحتفاظ
بتيجان أثقلتها الجواهر، أو بمبرِّر الإبقاء على معطف فراء فاخر تضطر صبية الحاشية
إلى حمل ذيله الطويل خلف خطوات الملك وعقيلته. وأيّ معنى في الحاضر لجلوس أحدهم
على مقعد في كنيسة بانتظار مباركته بصلوات مخصوصة وكتاب مقدّس وهو يمسك بعصا ترمز
إلى السلطة والسطوة؛ وبأخرى ترمز إلى الرحمة والترفّق، على أن يرتدي في يده الأولى
قفّازاً أبيض كناية عن الترفّق في استخدام سلطته؛ التي لم يعد يملكها أساساً في
الواقع؟! بل إنّ هذا التتويج يفرض على تشارلز أن يحدّ من بعض تحرّكاته النشطة
ومواقفه الرمزية التي اعتادها في المجتمع كي لا يتورّط بشبهة التأثير على مداولات
الحيِّز العام.
من نافلة القول أنّ الشعوب لا تنتخب ملوكها في
الديمقراطيات الأوروبية كما في غيرها. لا يرغب القوم باستذكار حقيقة أنّ الملكيات
نشأت في الأساس من غلبة أحدهم على خصومه والتمكّن من منافسيه، ثمّ حيازة مباركة دينية ضمنت شرعيّته، لكنّ
بريطانيا تفرّدت فوق هذا بأنّ رئيس حكومتها الحالي، المليونير ريشي سوناك، كما
سابقته ليز تراس، ليسا مُنتخبيْن للمنصب من الشعب أيضاً، فكلاهما صعدا إلى رئاسة
الوزراء بتصويت داخلي في حزب المحافظين، بعد تنحِّي بوريس جونسون تحت وقع الفضائح،
إذ لا يتطلّب الأمر في بريطانيا، التي لا دستور مكتوباً لها أساساً، التوجّه إلى
انتخابات عامة إنْ استقال رئيس الوزراء.
ي هذه الديمقراطية العريقة التي تأتي ضمن صدارة الاحتفاء بحرية التعبير عبر العالم؛ اقتضى الأمر كبح المعترضين على التتويج؛ حسب توجّهات حكومة غير مُنتخبة، لأنها لم ترغب بتعكير صفو الاحتفال. أقدمت الشرطة التي حظيت بصلاحيات غير مسبوقة على اعتقال غراهام سميث زعيم جماعة "ريبابليك" وعشرات الناشطين المطالبين بإلغاء الملكية، ولم تطلق سراحهم إلاّ بعد انقضاء الاحتفالية
وفي هذه الديمقراطية العريقة التي تأتي ضمن صدارة
الاحتفاء بحرية التعبير عبر العالم؛ اقتضى الأمر كبح المعترضين على التتويج؛ حسب
توجّهات حكومة غير مُنتخبة، لأنها لم ترغب بتعكير صفو الاحتفال. أقدمت الشرطة التي
حظيت بصلاحيات غير مسبوقة على اعتقال غراهام سميث زعيم جماعة "ريبابليك"
وعشرات الناشطين المطالبين بإلغاء الملكية، ولم تطلق سراحهم إلاّ بعد انقضاء
الاحتفالية حرصاً على صورة البهجة العامّة في الميادين.
على أنّ تتويج ملك غير مُنتخب يبدو لبعض الأنظار
خياراً حكيماً بعد خبرة "بريطانيا العظمى" مع رعونة ساسة حسموا وجهة
البلاد؛ من قبيل رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، الذي هو نسخة إنجليزية تقريباً
من دونالد ترامب، أو نايجل فاراج، وهو من مقرّبي ترامب حرفياً. أمسكت النزعة
الشعبوية بزمام المملكة ودفعتها إلى مغادرة أوروبا عبر استفتاء شعبي متسرِّع، سبقه
تضليل الناخبين بأخبار مزيّفة باشرها جونسون وأشياعه في حملة
"البريكست". صوّت البريطانيون في النهاية بفارق ضئيل للغاية لصالح
الانفكاك عن مشروع الوحدة الأوروبي الذي شاركت بلادهم ثلاثين سنة بحيالها في
تطويره.
تمنح الملكية جماهيرها القلقة استقراراً معنوياً
وتُشعّ عليهم برمزيات حالمة في زمن المتغيِّرات. تبدو بريطانيا من حول قصر بكنغهام
كما كانت عليه، رغم أنها لم تعد هي هي. كان للحنين إلى الماضي مفعوله في حشد
الجماهير للاحتفال بتتويج تشارلز ملكاً، وللحدث مفعوله في تسكين آلام الواقع
الاقتصادي والسياسي الذي تدهورت إليه إمبراطورية لم تغب عنها الشمس يوماً ما.
ولهذا الحدث كلفته الضخمة التي دفعها الجمهور ذاته
سلفاً رغم وطأة الأزمة الاقتصادية المزمنة ومؤشرات التضخّم المتصاعدة على جيوبهم،
التي يُرجى تعويضها من تجارة الحنين إلى الملكية التي حرّكها هوس التتويج. يعاود
بعض الذين احتشدوا في ميدان الاحتفال النزول مجدداً إلى الشوارع للمطالبة بزيادة
أجورهم على نحو ينتشلهم من بؤس الحال الذي انتهوا إليه؛ كما تفعل ممرِّضات الصحّة
العامّة.
بدّد تشارلز الثالث في حضوره المتوّج وهم الانقطاع عن الماضي، وأظهر تنصيبه مفعول الرمزيات التي تطوِّق به هذه الأمّة ذاكرتها المحمولة من قرون مضت. منح الحدث جماهيره فرصة الاتصال الوجداني ببريطانيا "العظمى"؛ التي كانت قبل أن تتحجّم وتتقلّص وتتدهور إلى ما آلت إليه
كان الماضي هو سيِّد الموقف في مشهد التتويج، وعبّرت
الحفاوة الشعبية الغامرة بتنصيب الملك عن انشداد مُفْرط إلى ما كان، وبرهنت على
سخاء جماهير الحداثة و"ما بعدها" في التسامح مع تقاليد متحجِّرة محمولة
منذ العصر الوسيط لا مبرِّر للاحتفاظ بها بمنطق العصر الحديث.
بدّد تشارلز الثالث في حضوره المتوّج وهم الانقطاع عن
الماضي، وأظهر تنصيبه مفعول الرمزيات التي تطوِّق به هذه الأمّة ذاكرتها المحمولة
من قرون مضت. منح الحدث جماهيره فرصة الاتصال الوجداني ببريطانيا
"العظمى"؛ التي كانت قبل أن تتحجّم وتتقلّص وتتدهور إلى ما آلت إليه،
دون الحاجة إلى إفساد البهجة بمراجعات أخلاقية للتاريخ الاستعماري الذي لم تصدر
حتى الآن اعتذارات رسمية نحو الأمم المتضرِّرة منه.
أسكرت رشفة "النوستالجيا" بعضاً من أمم
الحداثة وأمسكت بخطامها؛ فللحنين إلى الماضي سلطانه على جماهير ديمقراطيات غربية
ترضخ بعضها لوعود سياسيين يعدونها بالعودة إلى زمن تصرّم؛ إن صوّتت لهم في يوم
الاقتراع. كان هذا هو الوعد الذي اتخذته حمْلة "البريكست" عندما رفعت
شعار "عودة بريطانيا عظيمة مجدداً" بمجرد الانعتاق من الاتحاد الأوروبي.
انطلق دونالد ترامب على الضفة المقابلة من الأطلسي في
حملات انتخابية رفعت شعار "كي نجعل أمريكا عظيمة مجدداً"، مدغدغاً مشاعر
الحنين إلى ماضٍ مُتخيّل. سرعان ما تتبخّر الوعود ويتدحرج الشعبويون إلى خارج
المشهد، ويبقى حاملو التيجان المتوارثة مع هالات لا تنقشع في وجدان شعوبهم.