الكتاب: تونس بين الثورة والمحنة
المؤلف: الدكتور عبد اللطيف الهرماسي
الناشر : دار سيراس للنشر سنة 2024
عدد الصفحات: 350 صفحة
تأتي هذه القراءة التي يقدّمها الكاتب والإعلامي التونسي عامر عياد لكتاب "تونس: الثورة والمحنة" للدكتور عبد اللطيف الهرماسي، لتعيد من جديد طرح سؤال الفهم للثورات العربية التي انطلقت شرارتها الأولى من تونس أواخر سنة 2010، وما تزال تثير نقاشًا مفتوحًا حول معناها ومآلاتها.
فبعد القراءة الأولى التي قدّمها الباحث التونسي توفيق المديني لهذا الكتاب على صفحات عربي21، والتي ركّزت على آفاق التحول الديمقراطي في الفضاء العربي، تأتي قراءة عامر عياد لتضيف بعدًا تأمليًا وفكريًا مغايرًا، إذ تتجه إلى تفكيك السردية العميقة للثورة بما هي تحوّل في الوعي الجمعي لا مجرد انتقالٍ سياسي أو تبدّلٍ في موازين السلطة.
إنها قراءة تسعى إلى توسيع أفق النقاش حول معنى الثورة ومحنة الوعي العربي، عبر إبراز البعد الأنثروبولوجي والثقافي في تحليل الهرماسي، وربط التجربة التونسية بمسارٍ أوسع من أسئلة الحرية والهوية والديمقراطية في العالم العربي. بهذه المقاربة، لا تكتفي القراءة بإعادة عرض الكتاب، بل تُسهم في إعادة إنتاج معناه الفكري داخل النقاش العربي الراهن حول فشل الثورات أو اكتمالها، وانكسار الحلم أو تحوّله إلى وعي جديد.
تفكيك التجربة التونسية
من بين الكتب التي سعت إلى تفكيك التجربة
التونسية بعد 2011 بعيدًا عن الضجيج الإيديولوجي والاحتفاء الرومانسي بالثورة،
يبرز كتاب عبد اللطيف الهرماسي "تونس: الثورة والمحنة" كأحد النصوص النادرة التي
حاولت أن تمسك بالخيط المعقّد بين الأمل والخذلان، بين انبعاث الحلم الثوري
وانكسارات الواقع.
فالهرماسي، وهو عالم اجتماع سياسي وفاعل
حزبي يكتب من قلب التجربة ومن مسافة
تأملها في الآن نفسه. كتابه ليس تأريخًا للأحداث، ولا مرافعة سياسية، بل تشريحٌ
لمجتمعٍ دخل مختبر الثورة وخرج منه بأوجاعٍ جديدة وأسئلةٍ لم تُجب بعد.
الثورة كتجربة إنسانية لا كحدث سياسي
منذ الصفحات الأولى، يدعونا الهرماسي إلى
قراءة الثورة لا كمنعطف سياسي فحسب، بل كتحول أنثروبولوجي وسوسيولوجي في الوعي
الجمعي. الثورة بالنسبة إليه ليست فقط إسقاطًا لنظامٍ واستبداله بآخر، بل هي لحظة
انكشافٍ لجوهر المجتمع التونسي، بما فيه من تناقضات وأوهام ومخاوف.
لقد فتحت الثورة صندوق الهوية المغلق،
وأطلقت العنان للذاكرة المكبوتة، فأعادت طرح الأسئلة القديمة حول الدين والدولة،
الجهة والمركز، العدالة والكرامة، المرأة والهوية، النخب والشعب.
يستخدم الهرماسي مفهوم "الأسطورة السياسية" ليصف كيف تحوّلت الثورة إلى خطاب رمزي مثقل بالوعد والأمل، ثم كيف تآكل هذا الخطاب تحت ثقل الواقع. فشعار "الشعب يريد" الذي كان لحظة توحّدٍ استثنائية، صار مع الوقت مجالًا للصراع بين نخبٍ تتنافس على تأويل الشعب، لا على تمثيله.
يستعير الهرماسي أدوات علم الاجتماع السياسي
ليقارب هذه اللحظة باعتبارها «مرآة جماعية»: كل فئة رأت نفسها فيها بصورة مختلفة.
فالشباب رأى فيها الخلاص من البطالة واللامعنى، والنخب رأت فيها فرصة لتجديد
شرعيتها، والأحزاب الإسلامية واليسارية رأت فيها امتحانًا لمشروعها التاريخي، فيما
رأت الدولة العميقة فيها خطرًا على استمرارها.
لكن الهرماسي لا يقع في فخ المثالية
الثورية؛ بل يذكّرنا بأن الثورات ليست بالضرورة خلاصًا، بل قد تكون عبورًا مؤلمًا
نحو وعيٍ جديد بالذات والآخر.
من الأسطورة إلى المحنة
يستخدم الهرماسي مفهوم "الأسطورة
السياسية" ليصف كيف تحوّلت الثورة إلى خطاب رمزي مثقل بالوعد والأمل، ثم كيف
تآكل هذا الخطاب تحت ثقل الواقع. فشعار "الشعب يريد" الذي كان لحظة توحّدٍ
استثنائية، صار مع الوقت مجالًا للصراع بين نخبٍ تتنافس على تأويل الشعب، لا على
تمثيله.
بهذا المعنى، تحوّلت الأسطورة إلى محنة:
محنة مجتمعٍ اكتشف أن الثورة لا تُعيد توزيع السلطة فقط، بل تُعيد توزيع الخيبات
أيضًا.
يحلّل الهرماسي هذا التحوّل عبر تفكيك علاقة
النخب بالرموز الثورية. فكل تيارٍ ـ من الإسلاميين إلى اليساريين إلى الليبراليين ـ
حاول أن يحتكر تأويل "الثورة"، في حين ظلّ الشعب الذي فجّرها يواجه
الأزمات ذاتها: بطالة، تهميش، غلاء، وتآكل الأمل.
هنا تكتسب مقاربة الهرماسي أهميتها؛ إذ يرى
أن الثورة التونسية، مثل كل الثورات الحديثة، تنتج خطابًا مؤسطرًا حول الذات
الجماعية، ثم تصطدم بحدود الواقع الاقتصادي والسياسي، فتنكسر الأسطورة دون أن
تختفي، وتتحوّل إلى سردية ألمٍ مشترك.
النخب السياسية.. من البطولة إلى الانغلاق
أحد أهم فصول الكتاب يتناول ما يسميه
الهرماسي "سيكولوجية النخب" بعد الثورة. فبدل أن تكون النخب ـ الحزبية
والنقابية والمدنية ـ جسورًا بين المجتمع والدولة، تحوّلت في نظره إلى جزرٍ معزولة
تُعيد إنتاج منطق الامتياز والانغلاق.
يرى الهرماسي أن الثورة لم تُنتج نخبًا
جديدة بقدر ما أعادت تدوير النخب القديمة في لبوسٍ جديد، وأن ضعف الثقافة
التنظيمية والمرجعيات الفكرية جعل الصراعات الحزبية أشبه بمعارك هوية أكثر منها
مشاريعَ سياسية.
إنها نخبٌ تبحث عن رموزٍ أكثر مما تبحث عن
حلول، وعن تموقعٍ أكثر مما تبحث عن إصلاح.
وهنا يلتقي تحليل الهرماسي مع تشخيص عزمي
بشارة في كتابه "الثورة التونسية المجيدة" حين وصف المأزق التونسي بأنه
انتقالٌ سياسي دون انتقالٍ ثقافي: أي أنّ الثورة لم تُغيّر الذهنيات كما غيّرت
المواقع.
لكن الهرماسي يذهب أبعد من ذلك، فيُرجع أزمة
النخب إلى انفصالها عن المجتمع الواقعي، وعيشها داخل فضاءٍ إعلامي رقمي خلق
أوهامًا حول الشعبية والتمثيل، في حين ظلّت الكتلة الصامتة من الشعب خارج المشهد.
الاقتصاد والسياسة.. الكرامة المؤجلة
لا يكتمل تحليل الثورة في رأي الهرماسي دون
إدراج بعدها الاجتماعي والاقتصادي. فـ"الكرامة" التي كانت شعار الثورة، لم تكن
مفهوماً أخلاقياً مجردًا، بل صرخة اجتماعية ضدّ التفاوت والجهوية والبطالة
والتهميش.
غير أن السنوات التي تلت الثورة ـ كما يبيّن
الكتاب ـ كشفت عن انفصالٍ خطير بين الأجندة السياسية والأجندة الاجتماعية. انشغلت
النخب بكتابة الدستور، والتحالفات، والمناورات، بينما بقيت الجغرافيا الداخلية
لتونس على حالها: الجنوب المهمّش، الوسط الغاضب، والشمال المتمركز.
في هذا المستوى، يقارن الهرماسي ـ ضمنيًا ـ
الحالة التونسية بنماذج عربية أخرى مثل مصر واليمن وليبيا. ففي مصر، أجهضت الدولة
العميقة أي محاولة لإصلاحٍ اقتصادي جذري باسم الاستقرار. وفي اليمن وليبيا، تحوّلت
الثورة إلى صراع مسلّح دمّر البنى التحتية وأعاد البلاد إلى المربّع القبلي. أما في تونس، فكانت المحنة ناعمة الشكل،
عنيفة الجوهر: تآكل القدرة الشرائية، عودة البطالة، انهيار الثقة في المؤسسات،
وصعود خطاب الحنين إلى "اليد القوية". إنها خيبة بلا دماء، لكنها نزيفٌ بطيء في
الوعي الجمعي.
المرأة والمجتمع والثقافة.. الوعود المجهضة
يفرد الهرماسي حيزًا واسعًا لمسألة المرأة،
لا بوصفها قضيةً حقوقية فحسب، بل كمؤشرٍ على التحولات الاجتماعية بعد الثورة.
فرغم ما حملته الثورة من شعارات المساواة
والحرية، إلا أن الثقافة الأبوية والموروث الديني والاجتماعي ظلت فاعلة في تحديد
مكانة المرأة، سواء داخل الأحزاب أو في الخطاب العام.
فالنساء اللواتي كنّ في الصفوف الأمامية
أثناء الثورة وجدن أنفسهن بعد عقدٍ من الزمن في مواقع رمزية، لا في مواقع القرار.
يقارن الهرماسي ـ ضمنيًا ـ الحالة التونسية بنماذج عربية أخرى مثل مصر واليمن وليبيا. ففي مصر، أجهضت الدولة العميقة أي محاولة لإصلاحٍ اقتصادي جذري باسم الاستقرار. وفي اليمن وليبيا، تحوّلت الثورة إلى صراع مسلّح دمّر البنى التحتية وأعاد البلاد إلى المربّع القبلي. أما في تونس، فكانت المحنة ناعمة الشكل، عنيفة الجوهر: تآكل القدرة الشرائية، عودة البطالة، انهيار الثقة في المؤسسات، وصعود خطاب الحنين إلى "اليد القوية". إنها خيبة بلا دماء، لكنها نزيفٌ بطيء في الوعي الجمعي.
الهرماسي لا يحمّل المسؤولية لتيار بعينه،
بل للنسيج الثقافي بأسره، الذي لم يواكب التحول السياسي بتحولٍ قيميّ مماثل.
بهذا المعنى، تصبح مسألة المرأة جزءًا من
«المحنة الكبرى» التي يتحدث عنها الكتاب: محنة الوعي الجمعي الذي لم يقطع مع موروث
الاستبداد، بل استبدله بموروثٍ جديد من العجز والتردد والخوف من الحرية.
المحنة بوصفها استعارة جماعية
العنوان الذي اختاره الهرماسي ليس اعتباطيًا:
"الثورة والمحنة" ليست مجرّد مقابلة لغوية، بل ثنائية رمزية تعكس مسارًا
كاملاً من الأمل إلى الألم.
فـ"المحنة" عنده ليست نقيض
الثورة، بل استمرارها في شكلٍ آخر؛ إنها الامتحان الذي تمرّ به المجتمعات حين
تكتشف أن الحرية أصعب من القمع، وأن بناء الديمقراطية أبطأ من هدم الاستبداد.
بهذا التفسير، يضع الهرماسي تجربتنا
التونسية في سياق إنساني أوسع. فكل ثورة، في نظره، تمرّ بهذه الدورة: من النشوة
إلى الخيبة، من الأسطورة إلى المحنة، من الحلم إلى الواقع.
ولعلّ المقارنة مع تجارب عربية أخرى تُبرز
فرادة الحالة التونسية: في مصر، كانت المحنة سياسية: انقلاب على الحلم. في اليمن وليبيا، كانت
المحنة دموية: انهيار الدولة. أما في تونس، فهي محنة وعيٍ وثقافة: دولة قائمة لكنّها عاجزة عن تمثيل
حلمها. ذلك ما يجعل تونس "أكثر
استقرارًا وأقل طمأنينة"، كما يصفها الكاتب ببلاغةٍ مؤلمة.
الوعي والمجتمع والذاكرة
يولي الهرماسي اهتمامًا خاصًا لمسألة
الذاكرة الجماعية وكيف تُعاد كتابتها بعد الثورات. فكل جيلٍ يسعى إلى إعادة تعريف
تاريخه ورموزه، ويصوغ سرديته الخاصة عن النصر أو الهزيمة.
لكن في الحالة التونسية، أدّى هذا التعدد في
السرديات إلى تمزقٍ في الذاكرة الوطنية: فهناك من يرى الثورة مؤامرة، وهناك من
يراها خلاصًا مؤجلًا، وهناك من يعتبرها خطأً تاريخيًا.
إنها، كما يقول الكاتب، "ثورة يتيمة
تتنازعها السرديات".
وهنا يتقاطع تحليله مع الفيلسوف المغربي عبد
الله العروي، الذي رأى أن المجتمعات العربية ما تزال حبيسةَ التناقض بين "الحداثة
كخطاب" و"التراث كهوية".
في تونس، لم يُحسم هذا التناقض بعد، لذلك لم
تستطع الثورة أن تؤسس ذاكرةً وطنية جامعة. بقيت تُستعمل كرمزٍ انتخابي أو سلاحٍ
إيديولوجي، لا كمرجعيةٍ أخلاقية جامعة.
وهو ما يفسر ـ في رأي الهرماسي ـ عودة
الحنين إلى الدولة القوية و"المستبد العادل"، كأن المجتمع يريد أن يهرب
من مسؤولية حريته إلى راحة الطاعة.
الهرماسي بين السوسيولوجيا والسياسة
قوة الكتاب لا تكمن فقط في موضوعه، بل في
موقع مؤلفه. فالهرماسي ليس مراقبًا خارجيًا بل شاهدًا ومشاركًا في جزء من المسار
السياسي بعد الثورة. هذا ما يمنحه، كما يمنعه في آنٍ واحد.
يمنحه عمقًا في الفهم الميداني للحياة
الحزبية والاجتماعية، لكنه أحيانًا يقع في التباس بين التحليل والوصف، بين
السوسيولوجي والسياسي.
ومع ذلك، يبقى أسلوبه أقرب إلى النقد
البنّاء منه إلى الإدانة. فهو لا يلعن الثورة، ولا يمجّدها، بل يُحاكمها كمختبرٍ
لوعي التونسيين بذواتهم.
الكتاب بذلك يتجاوز سجالات اليومي ليطرح
سؤالاً فلسفيًا عميقًا: هل يمكن لمجتمعٍ عاش عقودًا من الاستبداد أن يكتشف معنى الحرية دون أن
يمرّ بالمحنة؟ سؤالٌ يبدو بسيطًا، لكنه يختزل جوهر الكتاب: أن الثورة ليست مشروعًا
سياسيًا بل تمرينًا وجوديًا على الوعي.
المقارنة والتفرد التونسي
حين نقارن تحليل الهرماسي بتجارب عربية
أخرى، نكتشف أن تونس ـ رغم كل تعثراتها ـ ما تزال "الاستثناء الإيجابي"
الوحيد من حيث بقاء المؤسسات والدستور والفضاء المدني.
لكن الهرماسي يذكّر بأن الاستثناء لا يعني
النجاح. فالاستثناء التونسي قائم
على توازن هشّ بين قوى متناقضة: نخبة ديمقراطية محدودة النفوذ، دولة بيروقراطية
عميقة الجذور، مجتمع مدني نشط لكنه متعب، واقتصاد متآكل يهدد كل المكتسبات.
وفي هذا السياق، يمكن استحضار تجارب أمريكا
اللاتينية، حيث واجهت دول مثل تشيلي والأرجنتين المعضلة ذاتها بعد سقوط
الدكتاتوريات: كيف نحول الحرية إلى مؤسساتٍ، لا إلى انقسامات؟
تونس اليوم، كما يرى الهرماسي، تعيش لحظة ما
بعد الحلم ـ وهي اللحظة الأخطر في عمر كل ثورة، حين يصبح الأمل عبئًا على الحاضر،
ويغدو المستقبل رهينة الخوف من الماضي.
من نقد الواقع إلى اقتراح الممكن
رغم الطابع النقدي الواضح، لا يسقط الكتاب
في السوداوية. الهرماسي يدرك أن كل ثورة
تحتاج إلى زمنٍ طويل لتُثمر وعيًا جديدًا. لذلك يدعو إلى تحويل المحنة إلى طاقة
معرفية، عبر مراجعة جذرية لعلاقة النخب بالمجتمع، وإعادة بناء الثقة بين الدولة
والمواطن، وإحياء المعنى الأخلاقي للسياسة.
فالتحرر لا يكتمل بالدستور ولا بالانتخابات،
بل بإعادة صياغة العلاقة بين الفرد والجماعة على أسس المشاركة والمسؤولية.
إنه يدعو إلى ما يمكن تسميته بـ«الثورة
الثانية»: ثورة في الوعي، في الأخلاق العامة، في الثقافة السياسية.
ومع أن الكتاب لا يقدم حلولاً تقنية أو
برامج إصلاح مفصلة، إلا أن قيمته تكمن في إعادة طرح السؤال الأساسي: كيف نحافظ على روح الثورة
بعد أن انطفأت شعاراتها؟ وهو سؤالٌ لا يخص تونس وحدها، بل كل المجتمعات العربية
التي عبرت تجربة الانتقال ولم تبلغ التحول.
موقع الكتاب في الفكر التونسي المعاصر
في المشهد الفكري التونسي، يقف "تونس:
الثورة والمحنة" في تقاطع بين أعمالٍ سوسيولوجية مثل دراسات الصادق الحمامي
عن الإعلام والرأي العام، وبين أعمالٍ فلسفية نقدية مثل كتابات أبو يعرب المرزوقي
حول الحرية والتأويل.
رغم الطابع النقدي الواضح، لا يسقط الكتاب في السوداوية. الهرماسي يدرك أن كل ثورة تحتاج إلى زمنٍ طويل لتُثمر وعيًا جديدًا. لذلك يدعو إلى تحويل المحنة إلى طاقة معرفية، عبر مراجعة جذرية لعلاقة النخب بالمجتمع، وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطن، وإحياء المعنى الأخلاقي للسياسة.
غير أن خصوصيته أنه يربط التحليل الاجتماعي
بالوعي الرمزي والثقافي، ليقدّم قراءة أقرب إلى «أنثروبولوجيا الثورة» منها إلى
علم السياسة التقليدي.
إنه ليس كتابًا عن الوقائع بل عن المعاني. ومن هنا، يمكن اعتباره
مرجعًا لفهم التحولات العميقة في المزاج التونسي بعد عقدٍ من الثورة: كيف تحوّل
الحلم إلى ذاكرة، والذاكرة إلى حسرة، والحسرة إلى حنين، والحنين إلى خطر سياسي
يُهدد المستقبل الديمقراطي.
خاتمة: الثورة التي ما زالت تمتحن نفسها
في نهاية المطاف، يقدّم عبد اللطيف الهرماسي
في كتابه مرآةً صادقة لوجه تونس بعد الثورة: وجهٌ يحمل ملامح الفرح الأول وندوب
الخيبة اللاحقة.
فالكتاب ليس مرثية للثورة، بل دعوة إلى
إنقاذ معناها قبل فوات الأوان. إنه يقول للتونسيين بوضوحٍ مؤلم: لقد أسقطتم الاستبداد، لكن لم تُسقطوا
بعد الخوف الكامن في ذواتكم، ولم تتعلموا بعدُ كيف تُديرون حريتكم بلا وصيّ.
من هذه الزاوية، يُمكن اعتبار "تونس:
الثورة والمحنة" أحد أهم النصوص التي أعادت الاعتبار للفكر النقدي التونسي،
إذ حرّر النقاش من ثنائية "الثورة أو الانقلاب"، وفتح الباب أمام سؤالٍ
أعمق: هل يمكن لمجتمعٍ جُرح
بالحرية أن يُشفى إلا بها؟
بهذا السؤال يختتم الهرماسي كتابه، وبه
يمكننا أيضًا أن نختتم هذه القراءة: فـ"المحنة" ليست نقيض "الثورة"، بل هي استمرارها
في الوعي. ولعلّ وعي التونسيين اليوم
هو الميدان الحقيقي للثورة القادمة.