قضايا وآراء

وأخيرا.. "الطوفان" وقوة الفعل التاريخي

"لم يكن الطوفان إلا أيقونة احتوت على كل شيء يتعلق ويتصل بهذا الصراع"- الأناضول
من أكثر من مائة سنة، وتحديدا من بدء الحرب العالمية الأولى 1914م، وهناك صراع ميداني كبير قائم على أرض الواقع بيننا وبين الغرب، يمثل الغرب فيه الطرف الأقوى عسكريا وعلميا، وهو صراع اكتسب موضوعه أولا وثانيا وثالثا من التاريخ؛ تاريخ خروج هذا الغرب من مصر والشام (634م)، وتاريخ الحروب الصليبية (1095م)، وتاريخ الدولة العثمانية (1453م) بكل ما مثلته من قوة وعنفوان وجبروت تجاه شرق أوروبا، وتاريخ دولة الأندلس (1492م) في غرب أوروبا.

الصراع كان فيه بُعد هام ومؤثر يتصل بالمجال الفكري (الإنسان والكون)، وهو المجال الدائم التي تُبتعث منه حركة التاريخ في كل وقت.

وسوف يمتلك الشرق رؤية شاملة وصلبة وموضوعية وواضحة عن ذلك، مصدرها "الوحي الإلهي"، ولسوف تزداد صلابة وقوة كل يوم، بإزاء الإنسان، في تكوينه العقلي والروحي والجماعي، في حين أن الغرب، وعلى لسان الكثير من فلاسفته ومفكريه، قد أعلن انتهاء الفكر الديني، وحضوره في المجال العام!

* * *
رأينا "الحركات الإصلاحية" تخوض معاركها الكبرى على طول وعرض عالم الإسلام، إصلاحا للإنسان في الواقع الصعب، ثم تطور الى جهاد للمحتل الأجنبي، وستكون هذه الحركات عبر كل مراحل التاريخ هي الأب الشرعي لكل حركات النهوض، ولكل حركات المقاومة بلا منازع

وذلك ليس فقط بسبب هذا الصراع الطويل القاسي البليد الذي احتدم طويلا مع الكنيسة عندهم من القرن السادس عشر، وليس فقط للثورة الصناعية التي اكتسحت أوروبا من قلب إنجلترا، وليس فقط للاكتشافات البحرية وبداية عهد الاستعمار واحتلال أوطان الغير ونهبها بدعوى "عبء الرجل الأبيض"، ولكن لكل ذلك أجمعه.

ويضاف إليه ظهور اتجاه سياسي اجتماعي ليبرالي واسع رافضا للدين بشدة، متشككا في مصداقيته كما سبق، موهوما بالاكتشافات العلمية الحديثة: كما قال لنا د. برهان غليون (79 عاما) أستاذ علم الاجتماع السياسي في السوربون، في كتابه "اغتيال العقل"، أن هذه الاكتشافات أثرت على نظرة الإنسان لبدايات وجوده على الأرض! واحتل مفهوم الصراع من أجل البقاء، والحياة للأصلح، محل مفاهيم الرحمة والحب، التي كان يقوم عليها المجتمع الإنساني.

كل هذه الأفكار أثرت على فكرة "الأخلاق والإنسان"، فالذي يخاف الله، تختلف تصرفاته بالطبع عن الذي يرى أن البقاء للأصلح.

* * *

حين احتدم الصراع وبلغ أوج شراسته، وبدأ الغزو الغربي لديار الشرق، كان طبيعيا أن تكون "الحركات الإسلامية الإصلاحية" في مقدمة المواجهة، وهي التي كانت موجودة أصلا في التنظيمات الصوفية والمجالس العلمية والأوقاف، وحتى تنظيمات الحرفيين، كما يخبرنا الراحل الكبير الأستاذ طارق البشري (ت: 2021م). وهي التي كانت قد انتبهت إلى أن هناك ابتعادا كبيرا عن منهج الوحي الذي قامت عليه الأمة وتاريخها وحضارتها.

وسوف تبدأ طريقها الإصلاحي الطويل بفكرة "الإنسان الصالح" في "البلد الصالح"، وكان طبيعيا أن يكون "الوحي الإلهي" هو "نبع الينابيع" في فكر الإصلاح، ليس فقط تسليما وإيمانا، ولكن إدراكا ووعيا بحقائق الأشياء وجوهرها الكامل.

ورأينا "الحركات الإصلاحية" تخوض معاركها الكبرى على طول وعرض عالم الإسلام، إصلاحا للإنسان في الواقع الصعب، ثم تطور الى جهاد للمحتل الأجنبي، وستكون هذه الحركات عبر كل مراحل التاريخ هي الأب الشرعي لكل حركات النهوض، ولكل حركات المقاومة بلا منازع.

* * *

ولسوف تدور دورة الزمان؛ بسنن التاريخ ستدور، بعوامل التدافع الطبيعي ستدور، بموت القديم وميلاد الجديد ستدور، وسنجدنا في منتصف القرن العشرين.

سنكون جزء من خريطة جديدة للمشرق العربي، مقسمة إلى بلدان تحمل في داخلها بذور أزماتها وألآمها، يحكمها ثوار جدد "أغلبهم عسكريون" لم يكونوا بعيدين في الحقيقة عن المحتل القديم (بريطانيا وفرنسا)، وسوف يقتربون أكثر من المحتل الجديد (أمريكا: الدولة القارية الأولى في العالم، بجيوش هائلة وثروات هائلة وسرداب سياسي عميق وهائل).

* * *

سيكون هذا هو الجزء الأقل أهمية في الموضوع! ماذا عن الجزء الأكثر أهمية؟

إنها "دولة صهيونية" تم الإعداد الهادئ الطويل لها لتكون في قلب هذه الخريطة، لتحقق للغرب أغراضا جمة (تاريخية ودينية واستراتيجية) وأهم جزء في هذا الجزء، هو أنه تم التفاهم مع الخريطة الجديدة في الشرق على وجود هذه الدولة! عروشا كانت أم جيوشا. كما قال لنا الأستاذ هيكل رحمه الله، والذي قال لنا يوما إن "تلك الدولة الصهيونية لا تحتمل هزيمة واحدة في وجودها كله، وإلا فبداية الانهيار"، وها هي الدولة الصهيونية، وها هي الهزيمة، وها هو وجودها، وها هي بداية النهاية.

* * *

الأستاذ هيكل (ت: 2016م) وبالرغم من علمانيته الشاملة! كان يطلق على الحركات الإصلاحية وصف "ملوك المقاومة"، وسواء كان هذا إقرارا بحقائق التاريخ وبديهياته، أو تأثرا بأقرب أصدقائه، والذين هم للمفارقة من كبار "الإسلاميين الإصلاحيين"، فكرا وتاريخا: الأستاذ طارق البشري والدكتور عبد الوهاب المسيري رحمهما الله، والمفكر الكبير الأستاذ فهمي هويدي حفظه الله.

أيا ما كان، فقد كان للرجل رحمه الله (ت: 2016م)، خاصة بعد ابتعاده التام عن "الدولة"، اجتهادات استراتيجية بالغة الرقي والفهم والاستشراف، نختلف ونتفق معه فيها، لكنها موصولة في الحقيقة بالتاريخ والدنيا والناس.

* * *

الحاصل أن "ملوك المقاومة" قرروا أن يتدخلوا، ويدخلوا، ويبادروا، في وقت بالغ الحرج، كان لا بد فيه من أن يقوم "أحد ما" بالتدخل، سواء كان ذلك باعتبارات استراتيجية تتصل بالواقع الدولي، أو اعتبارات إقليمية في الواقع العربي، أو باعتبارات تتعلق بالدولة الصهيونية ذاتها (نظاما ومجتمعا).

وأروع شيء في التاريخ، كما رأينا مرارا، هو هذا التوافق البديع بين كل "عناصر اللحظة". سواء في الواقع القائم (القديم) والواقع القادم (الجديد)، بل وتتوافر فيها ولها وبها، كل مكونات "الفعل التاريخي".

وبالفعل قاموا وقرروا أن يقوموا بتعديل وتصحيح جوهري في "الفعل التاريخي"، ذلك الفعل الذي يتصل في حقيقته بطبيعة هذا الصراع التاريخي الطويل القديم بين أمتنا والغرب، والذي تم فيه، وبخبث شديد، استبعاد أهم أدواته وقواه الفاعلة: الإسلام بمكوناته "الكبرى العميقة" الممتدة في الوجود، بين الحياة الصحيحة، والموت الكريم والبعث الحق.

* * *
كانت "الفكرة الدينية" هي سيدة الأفكار، في هذا الصراع الذي طال 15 شهرا، لحكمة لا يعلمها إلا الخالق العلى الأعلى، وها هي قد حضرت حضورا قويا شاملا، الآن في قلب هذا الصراع التاريخي الكبير بين الشرق والغرب، وقد كان هذا ضروريا للغاية في تشكيل مستقبل المنطقة كلها، فكرا وبشرا وحجرا وشجرا

وعلى الفور تم استحضار كل ذلك، وبـ"إخلاص" أطهر وأشف من الماء الزلال، ليس هذا فقط، بل ووصل كل المقطوع التاريخي منه وفيه بهذه "القوة الفاعلة". فوجدت الأمة نفسها أمام مشهد كانت تتوق إليه، وتنشده، ولا تعرف الطريق إليه! وإن عرفت، فلا تعرف الوسيلة! وإن عرفت الوسيلة، فلا تعرف كيف تستمر وتدوم، وتتواصل فيما بينها وتتصل، لتصل إلى أهدافها وغاياتها، والتي هي لعظمتها وجلالها، ترتبط فيها الحياة بالموت على أعظم وأجل واصدق ما يكون الارتباط. وما أعظمه وما أجله وسموه من رباط.

* * *

لقد كانت "الفكرة الدينية" هي سيدة الأفكار، في هذا الصراع الذي طال 15 شهرا، لحكمة لا يعلمها إلا الخالق العلى الأعلى، وها هي قد حضرت حضورا قويا شاملا، الآن في قلب هذا الصراع التاريخي الكبير بين الشرق والغرب، وقد كان هذا ضروريا للغاية في تشكيل مستقبل المنطقة كلها، فكرا وبشرا وحجرا وشجرا، إنها "قوة الروح" التي جاءت بها "طوفان الأقصى".

لم تكن حرب غزة حلقة مستقلة من حلقات التاريخ، ولم يكن "الطوفان" إلا "أيقونة" احتوت على "كل شيء" يتعلق ويتصل بهذا الصراع، كل شيء حرفيا.

وما "المكابرة" هنا وهناك، على إخفاء وإغماء ذلك، إلا مكابرة "الإنكار" المشهورة، عند من يكرهون شيئا ولا يطيقون وجوده، ولا حتى التفكير فيه، وهي حالة علمية معروفة.

انتهت الحرب في غزة، لكن الطوفان لم ينته.. لقد جاء ليكتسح كل قديم، في الفكر والحركة والواقع والدنيا والناس.. جاء ليعدل مسار التاريخ.

x.com/helhamamy