كتاب عربي 21

من "إسرائيل" الأولى إلى "إسرائيل" الآخرة.. أولاً ما الذي يجري؟

القضاء الإسرائيلي المدني، والعسكري من باب أولى، خادم للمنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية فيما يتعلّق بالفلسطينيين، وموظّف بالكامل في السياسات الاستعمارية الإسرائيلية.. الأناضول
يُستخدم لبيان التحوّلات الحاصلة في "إسرائيل" الآن؛ تعبيرات من قبيل "إسرائيل الأولى وإسرائيل الثانية" أو "إسرائيل القديمة وإسرائيل الجديدة"، إلا أنّ هذه التعبيرات، قد توحي بالتجدد والحيوية والاستمرارية، حتى وإن لم يقصد المتحدثون ذلك، فالثانية قد يتبعها ثالثة فرابعة، والجديدة قد توحي بأنّها تجديد للذات على الأصول الأولى، بيد أنّ التعبير الأدق، الذي يكشف عن عمق التحوّلات الحاصلة في الكيان الإسرائيلي، هو وصف "إسرائيل" الراهنة أنّها في طور النزوع نحو "إسرائيل الآخرة" أي تلك التي لا نسخة أخرى من "إسرائيل" بعدها.

حمت "إسرائيل" نفسها، بإنتاج مجتمع متجانس بالرغم من التعددية غير الطبيعية في أساسه وتكوينه، بحكم أنّه مجتمع مصطنع بالكامل؛ قوامه المهاجرون المستدعون من بلاد شتّى لا جامع بينها إلى فلسطين، فلا يربطهم إلا الأيديولوجيا الصهيونية، أو المصالح الاقتصادية المضمونة لهم في فلسطين.
هذا الوعي بـ "إسرائيل" المتحوّلة الذي تجدّد أمس بقوّة، بعد اقتحام عناصر من التيار الديني القومي في "إسرائيل" لمعتقل معسكر "سديه تيمان" في النقب، لحماية عدد من الجنود الإسرائيليين من التوقيف من النيابة العسكرية الإسرائيلية بتهمة الاعتداء الجنسي العنيف (بعصا) على معتقل فلسطيني، ثمّ تاليًّا اقتحام هؤلاء لقاعدة عسكرية إسرائيلية في "بيت ليد" لتخليص الجنود من المحكمة العسكرية التي في القاعدة؛ بدأ (أي الوعي بـ "إسرائيل" المتحوّلة)، مع الاستقطاب العميق الذي ضرب المجتمع الإسرائيلي، قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، مع مشروع الإصلاحات القضائية الذي دفعت به حكومة بنيامين نتنياهو، وكان يهدف إلى تقييد صلاحيات المحكمة العليا في إلغاء تشريعات الكنيست وقرارات الحكومة والمؤسسة الأمنية والعسكرية، وتضمّن محاولة لتغيير قانون "لجنة اختيار القضاة" بالنحو الذي يمنح الحكومة وأحزابها وحلفاءها القدرة على اختيار القضاة بما يُخضِع المنظومة القضائية في "إسرائيل" للسلطة السياسية.

حمت "إسرائيل" نفسها، بإنتاج مجتمع متجانس بالرغم من التعددية غير الطبيعية في أساسه وتكوينه، بحكم أنّه مجتمع مصطنع بالكامل؛ قوامه المهاجرون المستدعون من بلاد شتّى لا جامع بينها إلى فلسطين، فلا يربطهم إلا الأيديولوجيا الصهيونية، أو المصالح الاقتصادية المضمونة لهم في فلسطين. حماية "إسرائيل" لنفسها من نفسها، استندت إلى نظام قضائي مستقلّ، فوق السلطتين السياسية والتشريعية (وهو مستقلّ فقط فيما يخصّ الإسرائيليين)، وجيش مهني احترافي، وفّر الإحساس بالأمن لمجتمع غريب في منطقة معادية له بالكامل، وهذا الجيش بالإضافة إلى دعاية التفوق والقدرة العالية على الردع التي صنعها لنفسه في وعي جمهوره، وكذلك في وعي المنطقة والعالم، كان "وعاء الصهر" الفائق الذي يعيد إنتاج الأفراد غير المتجانسين والشرائح الاجتماعية والتيارات الأيديولوجية المتباينة في قالب واحد بالانتظام في الجيش، وبهذا صار الجيش العمود الفقري الذي تقوم عليه بنية الكيان، وفوق السياسة وتحولاتها.

إخضاع السلطة القضائية للسلطة السياسية، يعني هدمًا لواحد من أعمدة التماسك الإسرائيلي، فالنظام السياسي في "إسرائيل" برلماني من شأنه أن يلغي المسافة بين السلطة التشريعية والتنفيذية، لاسيما وبرلمانه من غرفة واحدة، ولأن اليمين يعتقد بأنّه يفوز ولا يحكم، لكون بعض مؤسسات الدولة كالقضاء والنخبة العالية في قيادة الجيش والأمن وفي الاقتصاد، أكثر ميلاً للعلمانية الليبرالية، ومتصلة بالجذور اليسارية القديمة للدولة، فقد وجد فرصته (أي المين المتحالف مع نتنياهو) في هذه الحكومة لتحويل هويّة الكيان ولمرّة واحدة، وبما يخدم المصالح التخادمية الانتهازية بين أطراف التحالف اليمني الحاكم الحالي، المكوّن من ثلاثة تيارات أساسية (اليمينية القومية العلمانية بنسختها القديمة ممثلة في الليكود، والتيار الديني القومي، والتيار الحريدي، مع وجود تمثّلات للتيار الديني القومي داخل الليكود نفسه)، وثمة أحزاب يمينية معارضة لتحالف نتنياهو، فصار الصراع مركّبًا؛ طبقيًّا واجتماعيًّا وأيديولوجيًّا وسياسيًّا، ولذلك حذّر معارضو نتنياهو من أنّ "إسرائيل" تمضي نحو حرب أهلية! وصعد الحديث يومها عن "عقدة العقد الثامن"!

ثمّة جانب خطير آخر، بإخضاع القضاء للسلطة السياسية، إذ تفقد "إسرائيل" دعايتها الخارجية، من حيث كون قضائها المستقل كفيلاً بمعالجة ما يُتهم به جنودها من جرائم وانتهاكات بحقّ الفلسطينيين، وهي بمثل هذه الدعاية لم تميّز نفسها فقط بكونها امتدادًا للحضارة الغربية وسط "غابة من البرابرة"، ولكنها أيضًا حمت جنودها وضباطها من الملاحقة القانونية الدولية، إلا أنّ جعل السلطة القضائية جزءًا من السلطة السياسية يعني توفير الإمكان لا لملاحقة الجنود والضباط بوصفهم أفرادًا اقترفوا جرائم فحسب، بل وملاحقة مؤسسة الجيش نفسها التي هي قوام الكيان وضمانة وجوده واستمراره، ولذلك يُلاحظ أن مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، المنحاز لـ "إسرائيل"؛ طالب قضاة المحكمة بإصدار مذكرات اعتقال بحق كل من نتنياهو رئيس حكومة الاحتلال، وغالنت وزير حربها، ولكنه لم يطالب بإصدار مذكرة اعتقال بحق هيرتسي هاليفي رئيس أركان الجيش، في حين أنّه جمع محمد الضيف قائد كتائب القسام إلى جانب إسماعيل هنية ويحيى السنوار في المطالبة بإصدار مذكرات اعتقال بحقهم، وهو ما يعني حرص النظام الغربي، الذي تنبثق عنه هذه المحكمة، حتى الآن؛ على حماية جيش الاحتلال!

ينبغي التأكيد هنا لغير الفلسطيني، أن القضاء الإسرائيلي المدني، والعسكري من باب أولى، خادم للمنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية فيما يتعلّق بالفلسطينيين، وموظّف بالكامل في السياسات الاستعمارية الإسرائيلية، فليس ثمّة قضاء إسرائيلي مستقلّ أصلاً في الجانب الأمني وما تعلق بحقوق الفلسطينيين، فالخلاف الإسرائيلي/ الإسرائيلي ليس في الاعتراض على إنصاف قضائي إسرائيلي للفلسطينيين (إذ لا وجود لهذا أصلاً)، ولكن أولاً لأن التغييرات القضائية جزء من مشروع تغيير هوية الكيان في سياق صراع إسرائيلي/ إسرائيلي، وثانيًا لأنّ هذا الإخضاع للقضاء يفقد "إسرائيل" تلك الدعاية الزائفة فيما يخصّ الفلسطينيين وحقوقهم.

ما أرادت أن تفعله النيابة العسكرية بتوقيف عدد من الجنود الذين اقترفوا انتهاكًا جنسيًّا مروّعًا بحقّ أسير فلسطيني، هو اصطناع شكلية قضائية لحماية هؤلاء الجنود ومؤسسة الجيش من الملاحقة القانونية الدولية، وليس انتصافًا للأسير الفلسطيني من منتهكيه (من نافلة القول إنّ هذه ليست حادثة معزولة، فالانتهاكات المريعة يومية منذ تأسيس الكيان الذي قام على التطهير العرقي، والحديث الآن عن عشرات الفلسطينيين الذين استشهدوا في سجون الاحتلال منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وما من أسير فلسطيني اعتقل منذ هذا التاريخ من الضفة الغربية أو قطاع غزة إلا نزعت عنه إنسانيته وعانى ضربًا مبرّحًا بنحو يوميّ، حتى داخل عيادات السجون من الأطباء والممرّضين، علاوة على تجويع الأسرى وحرمانهم من الحقوق الأوّلية كالأغطية والملابس والأدوية).

يتقاطع في مشهدية "سديه تيمان" و"بيت ليد" تآكل عموديّ القضاء والجيش، فالتيار الديني القومي، يحاول تخليص الجنود من التوقيف الشكلي من النيابة العسكرية الإسرائيلية (والذي لا يهدف كما سلف القول إلا لحمايتهم)، وفي الوقت نفسه يهاجم هذا التيار، وبدعوات من رسميين (في الكنيست والحكومة، أي حلفاء نتنياهو)، الجيش وقواعده، وهذه حادثة استثنائية غير مسبوقة في تاريخ الكيان؛ تعني أنّ الجيش لم يعد محلّ إجماع الإسرائيليين.

سبق لغابي آيزنكوت، رئيس أركان جيش الاحتلال الأسبق، وأن صرح بأن هذا التيار، التيار الديني القومي، سيدمر الجيش والشاباك بعدما سيطر على الشرطة والإدارة المدنية بالضفة، فقد سيطر على الشرطة بواسطة وزارة الأمن القومي التي شيدها نتنياهو لحليفه إيتيمار بنغفير زعيم حزب "القوة اليهودية" سليل الحركة الكهانية، وهذه الوزارة تتبع لها الشرطة، وحرس الحدود، ومصلحة السجون، والحرس الوطني الذي صُمّم خصيصًا لبنغفير وصادقت عليه حكومة الاحتلال منذ ثلاثة شهور، وقد بدأت وزارات حكومة نتنياهو صياغة القانون النهائي له، والذي سيكون قوة ميليشاوية رسمية تتمتع باستقلالية خاصة.

كما سيطر هذا التيار على الإدارة المدنية عبر الوزارة الثانية لبتسلئيل سموتريتش داخل وزارة الحرب الإسرائيلية، والتي تشرف، أي الإدارة المدنية، على احتلال الضفة الغربية، ويقودها ضابط عسكري يتبع قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال، وتنظّم العلاقة الاستعمارية في ضبط الضفة الغربية مع الشرطة وجهاز الشاباك.

 ويعمل الآن على السيطرة على الشاباك والجيش، فقد تقدّم حزب الصهيونية الدينية بمشروع قانون يقيّد قدرة جهاز الشاباك على اعتقال اليهود إداريًّا، وبالنسبة للجيش باتت كتائب كاملة فيه قوامها من عناصر التيار الديني القومي، مثل "نيتسح يهودا" بالإضافة إلى صعود ضباط ينتسبون إلى هذا التيار إلى مسؤوليات عليا في الجيش، مما يخلّ بالتراتبية فيه، لانصياع هؤلاء الجنود والضباط لمرجعياتهم الدينية والحزبية، وهو ما سيقضي على الجيش في النهاية بوصفه جيشًا مهنيًّا للدولة كلها.

ساهمت ضربة تشرين الأول/ أكتوبر في إضعاف الجيش أكثر، فمنذ ذلك التاريخ، والهجوم اللفظي والدعائي، من نتنياهو وعائلته وحلفائه في التيار الديني القومي على الجيش والأمن لا يتوقف، كما كشفت الضربة عن تلك التحولات الجارية بعمق في دولة الكيان ومجتمعه، فالإجماع على الحرب وخياراتها في الشهور الأولى، تحوّل إلى استقطاب حاد حول أولويات الحرب، وملف الأسرى، وصلاحيات الجيش والشاباك، وصولاً لاقتحام معسكرات الجيش وقواعده، وفي الأثناء خوّن نتنياهو وسموتريتش المعارضين في مظاهراتهم في الشوارع، وإذا كان إيغال عمير قد قتل إسحاق رابين عام 1995 لتوقيعه اتفاقية أوسلو مع الفلسطينيين، فلماذا لا تشتبك كتائب الجيش في القادم من أيّام "إسرائيل" مع بعضها؟! أو لماذا لا يشتبك الحرس الوطني الذي يُعدّ لبنغفير مع قوى أخرى في دولة الاحتلال؟! هذا ما يخشاه الإسرائيليون وما ينتظره بعضهم بيقين!