قضايا وآراء

قيس سعيد يربط الانتخابات الرئاسية بمعركة السيادة

كلما واجهه معارضوه بحصيلة حكمه طيلة خمسة أعوام كونها حصيلة ضعيفة جدا، فإنه يزيد في تصعيد لهجته بل ويزيد في الضغط على القضاء لملاحقة منتقديه.. (فيسبوك)
كثيرا ما يربط السياسيون أهدافهم المُعلنة بعناوين مقدسة كبرى مثل الدين والوطن والشعب والحرية وغيرها مما يغري السامعين ويؤثر على الناخبين، وقد يتكلم هؤلاء عن الفقراء وعن المظلومين وخاصة عن القضية الفلسطينية وعن جريمة التطبيع وخيانة الخونة وعمالة العملاء.

وفي مثل هذه الحالات يصعب الحكم على نوايا المتكلمين فلا نستطيع التمييز بين الصادق منهم وغير الصادق، لذلك تظل الممارسة السابقة أو اللاحقة هي الدليل على كل حكم يمكن أن نُطلقه على أي سياسي قبل أو بعد حملته الانتخابية، وكلما كانت المهام أكبر كانت المتابعة أكثر تدقيقا والأحكام أكثر جدية لتنبيه الناخبين ولتحذير المتسرعين ولتوعية الغافلين.

لقد خُدعت شعوبنا العربية المسلمة طويلا بشعارات الحكام وهم يقولون "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، ومعاركهم التي يقولون أحيانا إنها ضد المستعمر وأحيانا ضد الصهيونية ثم ضد الفقر والتخلف والجهل وأخيرا وبعد فشلهم في كل المعارك صارت حربهم في فترة أولى ضد الشيوعيين ثم في فترة ثانية ضد "الإرهاب" و"الظلامية" حيث يصطنعون أعداء داخليين يصورونهم في صور مخيفة ومنفرة لتحريض عموم الناس عليهم ولاستعمال جزء من الشعب ضد جزء آخر وتكون السلطة دائما في وضعية مريحة طالما أنها "تحرس" الوطن والدين وتحارب الأعداء والخونة.

لم يكفّ قيس سعيد ، منذ مجيئه، عن احتقار الأحزاب السياسية وعن اتهام من حكموا البلاد قبله بالخيانة والتآمر والتنكيل بالشعب، ولم يتوقف عن ذكر "متآمرين" و"لوبيات" و"كرتالات" يَصِمهم بأبشع النعوت ويعِد بـ "تطهير" البلاد منهم مستدعيا عموم الناس إلى المساهمة في تلك المعركة.
لم يكفّ قيس سعيد ، منذ مجيئه، عن احتقار الأحزاب السياسية وعن اتهام من حكموا البلاد قبله بالخيانة والتآمر والتنكيل بالشعب، ولم يتوقف عن ذكر "متآمرين" و"لوبيات" و"كرتالات" يَصِمهم بأبشع النعوت ويعِد بـ "تطهير" البلاد منهم مستدعيا عموم الناس إلى المساهمة في تلك المعركة.

وكلما واجهه معارضوه بحصيلة حكمه طيلة خمسة أعوام كونها حصيلة ضعيفة جدا، فإنه يزيد في تصعيد لهجته بل ويزيد في الضغط على القضاء لملاحقة منتقديه حتى عجت السجون بضحايا المرسوم 54 سيء الذكر فخفتت أصوات أغلب المدونين والإعلاميين تجنبا لغضب قيس سعيد ولما يترتب عن غضبه من ملاحقات قضائية.

وها هو الآن، وهو يتقدم نحو دورة ثانية لرئاسة الجمهورية، لم يتزحزح عن "حَدّيّته" التي دخل بها "حلبة" السياسة، فقد دخلها "محاربا" لا مجرد سياسي ممن تستهويهم السياسة وتغريهم السلطة فيناورون ويراوحون بين الشدة واللين وبين الخصام والمصالحة، إنه يردّد كونه "غريبا" وكونه قادما من "كوكب آخر" حتى قال "ليسوا مني ولست منهم"، وقال أخيرا إنه "كصالح في ثمود" وإنه ينظر للرئاسة على أنها "أمانة" دونها النجاح أو "الاستشهاد" وهو الذي يردد كونه "مشروع شهادة".

ورغم عزوف أغلب التونسيين عن "مشروع" قيس سعيد منذ "حادثة" 25 تموز 2021، حيث لم تشارك في مختلف المناسبات الانتخابية إلا نسبة مئوية ضعيفة، فإنه لم يشكّ لحظة في كونه يحمل "رسالة للبشرية" وهو مازال يخاطب في كل مناسبة "أبناء شعبه في كل مكان" وكأنه واثق من حتمية انتصاره على من ينعتهم بـ"الخونة" و"المتآمرين" وبـ "الجراد" و"الوباء" و"الجراثيم" ولا يتردد في إرسال إشارات يفهمها خبراء الخطاب بكون الرجل ذاهبا إلى خيارات قصوى في معركته السياسية، خيارات تُمليها قناعتُه بكون القضية هي "قضية بقاء أو فناء".

ولعل ما يُنهك المعارضة مجتمعة، هو أنها لا تعارض سعيد على قاعدة واضحة إما لأنها لا تملك وضوحا وإما لكونها لا تملك الشجاعة الكافية وإما لأنها لم تعد تعوّل على الشعب في تلبية نداءاتها لـ "استرجاع المسار الديمقراطي" ووضع حد للانقلاب.

كان شعار المعارضة في البداية أن كل ما يترتب عن باطل فهو باطل، وأن الانقلاب هو انقلاب مهما كان فاعله ومهما كانت أسبابه وأهدافه، وأن تعبئة الشارع ضده هو الخيار الوحيد لإسقاطه، وكانت المقاطعة واسعة للاستشارة الوطنية التي أعلنها قيس سعيد وللاستفتاء على دستوره الذي كتبه بنفسه وللانتخابات البرلمانية ثم انتخابات المجالس الجهوية، ولكنها فجأة غيرت أسلوبها لتُعلن أن قيس سعيد الذي جاء بالصندوق لن يسقط إلا بالصندوق، فكان قرار المشاركة في الانتخابات إما بتقديم مرشح أو بدعوة القواعد إلى التزكية وإلى الانتخاب ضمن مبدأ ترك الحرية للقواعد في ممارسة حقها الدستوري في انتخاب من تراه خادما للبلاد وللعباد ضمن عناوين مركزية هي الحرية والعدالة والسلم الأهلي.

ما يُنهك المعارضة مجتمعة، هو أنها لا تعارض سعيد على قاعدة واضحة إما لأنها لا تملك وضوحا وإما لكونها لا تملك الشجاعة الكافية وإما لأنها لم تعد تعوّل على الشعب في تلبية نداءاتها لـ "استرجاع المسار الديمقراطي" ووضع حد للانقلاب.
لا وجود لخطاب معارض هو بمستوى حَدّيّة خطاب قيس سعيد، وبقوة تحدّيه للخصم وبمستوى ثقته في الحسم، وهذا مهم جدا بالنسبة للرأي العام الذي لا يُفرق بين الخطابات باعتبار من يملك القوة المادية ومن لا يملكها، وإنما يعتمد الرأي العام على قياس القوة النفسية المُخبّأة في مفردات ذاك الخطاب، وهنا نحتاج إلى كتابات علماء النفس الاجتماعي، فالسياسة ليست موهبة ولا مهارة خطابية وإنما هي في بعد من أبعادها علم بأحوال الناس وطبائعهم ومصالحهم.

لم تبق إلا أيام معدودات لغلق باب الترشحات، ولم يتضح لحد الآن إن كانت المعارضة ستشارك فعلا في الانتخابات الرئاسية القادمة أم ستقاطعها بسبب ما تجده من صعوبات في استكمال ملف الترشحات وبسبب ما تعرض له عدد من المترشحين من تتبعات قضائية لحرمانهم من التقدم للانتخابات أو لمنع حركتهم بين الناس.

ولما كانت السياسة في عالم مفتوح ليست حدثا وطنيا خالصا، فإن قوى خارجية ليست بعيدة عن سخونة لحظة الذروة السياسية في تونس، بالنظر إلى تداخل المصالح وإلى تأثير المواقف من قضية التحرر الكبرى ـ فلسطين ـ على طبيعة العلاقات بين دول محور المقاومة ودول محور التطبيع.