في
الجزء الأول من المقال، كنا قد طرحنا جملة من الأسئلة ووعدنا بالإجابة عنها في هذا
الجزء الثاني. وهي أسئلة يمكننا إعادة صياغتها على النحو التالي: هل كان خيار التحريض
على "الانقلاب" ومساندته من لدن أغلب ما يُسمى بـ"القوى
الديمقراطية"
خيارا عقلانيا؟ هل كانت الأوضاع/ المواقف الداخلية هي المحدد الأساسي لنجاح الرئيس
في فرض "الإجراءات"، والنجاح في إعادة هندسة المشهد العام بصورة جذرية؟ كيف
يمكننا فهم المواقف الإقليمية والدولية من النظام
التونسي بعيدا عن اللغة
الديبلوماسية؟ هل تمتلك السلطة أو المعارضة مشروعا للتحرر الوطني؟ وكيف يمكن
الحديث عن ذلك المشروع، في ظل "التطبيع" مع منظومة الاستعمار/ الاستحمار
الداخلي، بل في ظل هيمنة تلك المنظومة على جميع الفاعلين منذ تأسيس الدولة-الأمّة، وما ارتبط بها من سرديات سلطوية قبل الثورة وبعدها؟
بعد 25 تموز/ يوليو 2021،
حاولت أغلب القوى السياسية المنتمية للعائلة "الديمقراطية" (أي القوى
اللائكية المهيمنة على مجمل الرساميل المادية والرمزية منذ تأسيس "الدولة
الوطنية")، أن تسبح مع تيار "الإجراءات"، سواء بمنطق الموالاة التامة
أو بمنطق الموالاة النقدية، بل حاول بعضها أن يبعث برسائل إلى الرئيس، لتذكيره بأنه
"مدين لها" في نجاح "الثورة التصحيحية"، وهو دَين يفرض على
الرئيس أن يعاملها "معاملة تفضيلية"، وأن يشركها في إدارة البلاد. ولكنّ
الرئيس لم يتردد في نسف هذا "الدَّين المتخيل" الذي لا وجود له إلا في
أذهان "الطامعين"، فقرار "الإنقاذ" كان قرارا فرديا لا فضل
لأحد فيه إلا للشعب الذي "فوّض" ساكن قرطاج دون غيره.
كان تشغيل منطق "التفويض" في مواجهة منطق "الدَّين" عاملا مهما من عوامل تحوّل بعض القوى المساندة إلى قوى معارضة جذرية (أي تحولها إلى قوى تعتبر إجراءات 25 تموز/ يوليو انقلابا على الدستور، لا قراءة ما فوق دستورية)، ولكنه لم يكن كافيا لنقل الكثير من "الديمقراطيين" من موقع "الموالاة النقدية" إلى موقع المعارضة، ولم يكن كافيا أيضا لتوحيد مكونات المعارضة الراديكالية، بحكم صراعاتها البينية ذات الجوهر الأيديولوجي.
كان
تشغيل منطق "التفويض" في مواجهة منطق "الدَّين" عاملا مهما من
عوامل تحوّل بعض القوى المساندة إلى قوى معارضة جذرية (أي تحولها إلى قوى تعتبر
إجراءات 25 تموز/ يوليو انقلابا على الدستور، لا قراءة
ما فوق دستورية)، ولكنه لم يكن كافيا لنقل الكثير من "الديمقراطيين" من
موقع "الموالاة النقدية" إلى موقع المعارضة، ولم يكن كافيا أيضا لتوحيد
مكونات المعارضة الراديكالية، بحكم صراعاتها البينية ذات الجوهر الأيديولوجي.
لقد
كان خيار التحريض على "الانقلاب" أو "الإنقاذ" ومساندته من
لدن أغلب مكونات المشهد السياسي والمدني والنقابي والإعلامي -على الأقل قبل صدور
المرسوم 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر 2021- في ظاهره قرارا عقلانيا؛ لأنه يهدف إلى ضمان
عودة دواليب الدولة إلى سيرها الطبيعي، ولأنه يطرح على نفسه "مقاومة
الفساد" الممأسس والمعمّم داخل أجهزة الدولة وخارجها. ولكنّ مساندة القوى
"الديمقراطية" للإجراءات باعتبارها ذات طابع "استثنائي"
و"مؤقت"، كان لا يُخفي تحريضا للرئيس على إعادة هندسة المشهد السياسي
بصورة دائمة، أي استهداف حركة
النهضة أساسا -بمنطق الاستئصال الناعم أو بمنطق
الاستئصال الصلب-، بعد أن تمّت المطابقة بينها وبين "العشرية السوداء".
ولا
شك عندنا في أن الرئيس قد وظّف قوة الاقتراح "الانقلابية" لكن لغير ما
تمنّت، فإذا كانت "القوى الديمقراطية" قد تحكمت في المقدمات (فساد
منظومة "النهضة" وضرورة محاسبة الحركة سياسيا وقضائيا، وهو طرح مغالطي؛ لأن الحقيقة هي فساد المنظومة القديمة بتواطؤ حركة النهضة)، فإن الرئيس قد بنى على
تلك المقدمات نتائج كسرت أفق انتظار "القوى المساندة"، وجعلها تتحرك في
هامش الحقل السياسي وتحت رحمة "المراسيم الرئاسية".
لقد
كان منطق "الدَّين" ينطلق من سوء تقدير سياسي لأمرين: أولا، سوء تقدير
لموقف الرئيس من الأجسام الوسيطة، وانتفاء الحاجة إليها في مشروعه السياسي
(الديمقراطية القاعدية)، وهو ما يجعل من التعامل مع الرئيس بمنطق
"الديمقراطية التمثيلية"، أو حتى بمنطق "النظام الرئاسي" ضربا
من العبث. ثانيا، سوء تقدير لدور تلك القوى في نجاح "الإجراءات"
("الانقلاب")، وقبل ذلك كله سوء تقدير لدورهم الحقيقي في استراتيجية
الرئيس (ومن ورائه النواة الصلبة للحكم ورُعاتها الإقليميين والدوليين)، عندما
وظفتهم للتمهيد لـ25 تموز/ يوليو.
الأهم من ذلك، هو أن المحرّضين على "الانقلاب" لم يفهموا أن تعفين المشهد "البرلماني" وشيطنة مختلف الفاعلين الجماعيين -رغم الاستهداف الممنهج لحركة النهضة أساسا-، كان سيمهد لضرب "الديمقراطية التمثيلية" ومختلف أجسامها الوسيطة دون استثناء، وكان سيضعف أوراقهم التفاوضية مع الرئيس -في صورة نجاح مشروعه السياسي-، ويجعل منهم مجرد "طوابير خامسة" تُقدّر الحاجة إليهم بمقدارها (وبالطبع، لن تكون ثمة حاجة إليهم بعد أن ينجح الرئيس في فرض خارطة طريقه وتأسيس "الجمهورية الجديدة").
لقد
استطاع الرئيس أن يُوظف الضغائن الأيديولوجية الموجهة ضد حركة النهضة؛ لجعل
المعارضة تخدم مشروعه السياسي من حيث تظن أنها تخدم مشروعها الخاص. ولكنّ الأهم من
ذلك، هو أن المحرّضين على "الانقلاب" لم يفهموا أن تعفين المشهد
"البرلماني" وشيطنة مختلف الفاعلين الجماعيين -رغم الاستهداف الممنهج
لحركة النهضة أساسا-، كان سيمهد لضرب "الديمقراطية التمثيلية" ومختلف
أجسامها الوسيطة دون استثناء، وكان سيضعف أوراقهم التفاوضية مع الرئيس -في صورة
نجاح مشروعه السياسي-، ويجعل منهم مجرد "طوابير خامسة" تُقدّر الحاجة
إليهم بمقدارها (وبالطبع، لن تكون ثمة حاجة إليهم بعد أن ينجح الرئيس في فرض خارطة
طريقه وتأسيس "الجمهورية الجديدة").
منذ 25 تموز/ يوليو 2021، حرصت القوى "الانقلابوقراطية" على إنكار مسؤوليتها الجزئية عن "العشرية
السوداء"، ليتم اختزالها في حركة النهضة، رغم أن أغلب تلك القوى عاشت زمنها
"الذهبي" في تلك العشرية، ورغم دورها المؤكد -سواء أكانت في الحكم أم في
المعارضة- في فشل الانتقال الديمقراطي سياسيا واقتصاديا.
وكانت
تلك القوى تظن أن تمهيدها للإجراءات والتحريض على حركة النهضة سيعطيها امتيازات
سلطوية، تعوّض خسارتها بعد نسف النظام البرلماني المعدّل. ويمكننا رد هذا
"الوهم التأسيسي" -كما ذكرنا أعلاه-، إلى عدم أخذها مشروع الرئيس المتقاطع
مع مشروع المنظومة القديمة ومحور "الثورات المضادة" بالجدية اللازمة،
ولكنّ ذلك "الوهم التأسيسي" يعود أساسا إلى المبالغة في تقدير دورها
الحقيقي في نجاح "تصحيح المسار".
لقد
كان تصحيح المسار خيارا إقليميا ودوليا، ولم تكن القوى المحلية إلا أداة لتحقيقه،
ولم يكن نجاح الإجراءات أو استمرارها رهينا بموقف الفاعلين المحليين (وهو ما تؤكده
الأحداث إلى حدود كتابة المقال)، بل كان وما زال مرتبطا بموقف النواة الصلبة
لمنظومة الحكم (المُركّب المالي- الأمني- الجهوي)، وبموقف القوى الإقليمية
والدولية المتداخلة في الشأن التونسي. ولا يعني هذا ارتهان المشهد التونسي بصورة
مطلقة للخارج، بل كل ما يعنيه هو أن المحدد النهائي (في السياق الحالي وبحكم
الوضعية الهشة للمعارضة) هو محدد خارجي.
بحكم
فقدان تونس لمقومات السيادة -مثل كل الدول المتخلفة والتابعة للمركز الغربي-، فإن
ارتهان القرار الداخلي لمؤثرات خارجية هو أمر لا يمكن التشكيك فيه، إلا من أولئك
الذين يُنكرون هذا الواقع في مزايداتهم الموجّهة أساسا للاستهلاك المحلي، ولكنّ
"معضلة الديمقراطية" في تونس تزداد تعقيدا، إذا أردنا "عقلنة" المواقف
الإقليمية والدولية من السلطة الحاكمة ومشروعها السياسي.
بصرف النظر عن مبدئية الرئيس أو عدمها في قضيتي التطبيع وإملاءات صندوق الدولي، فإن "المشروع الوطني للتحرر" يظل أفقا بعيدا عن السلطة والمعارضة على حد سواء.
فإذا
كان الموقف الغالب هو دعم المشهد الجديد، فكيف يمكننا فهم ترك النظام في حالة
"موت سريري" تضعفه أمام المعارضة وأمام الرأي العام؟ وإذا كان هناك رفض
حقيقي لما يُسمّى بـ"الانجراف الاستبدادي"، فكيف نفسر عدم وجو أي ضغط دولي
أو إقليمي على النظام لتعديل سياساته الرامية إلى تأسيس نظام رئاسوي، لا مكان فيه
لأي معارضة أو سلطة رقابية حقيقية؟ وهل إن رفض الرئيس -على الأقل في مستوى الخطاب
الرسمي- للتطبيع مع الكيان الصهيوني ولإملاءات صندوق النقد، هو السبب الأساسي في
إضعاف النظام التونسي دون إسقاطه، أي هل أن الوضع الحالي هو أداة لفرض توجهات
معينة على النظام التونسي وإضعاف قدرته على المقاومة؟ وكيف يمكننا أن نصدّق أنه يوجد مقاومة للتطبيع من لدن نظام متحالف استراتيجيا مع عرّابي التطبيع (محور
الثورات المضادة)، ويشتغل أساسا بورثة نظام مطبّع -أي يشتغل بالميراث الشيو- تجمعي، البعيد كل البعد عن الانحياز "للقضايا الكبرى"؟
ختاما،
وبصرف النظر عن مبدئية الرئيس أو عدمها في قضيتي التطبيع وإملاءات صندوق الدولي،
فإن "المشروع الوطني للتحرر" يظل أفقا بعيدا عن السلطة والمعارضة على حد
سواء؛ فالسلطة لا تستطيع أن تنجح في هذا المشروع في ظل انقسام الجبهة الداخلية، وفي
ظل هيمنة الكثير من المنتمين للمنظومة القديمة على مفاصل السلطة ومواقع القرار،
كما أن "تطبيع" السلطة مع منظومة الاستعمار الداخلي، يجعل من التحرر
الوطني مجرد مجاز لا محصول تحته. أما المعارضة -بقيادة حركة النهضة-، فإنها منذ أن
اتخذت قرار "التطبيع" مع المنظومة القديمة -بشروط تلك المنظومة-، قد رضيت
بأن تكون جسما وظيفيا في منظومة الاستعمار الداخلي. ولا يبدو أن أزمتها الحالية -وهي
أزمة تهدد وجودها ذاته-، قد استطاعت أن تفرض على قياداتها مراجعة ذلك الخيار. وهي
لا تختلف في ذلك عن أغلب مكوّنات "العائلة الديمقراطية"، التي لا يبدو أن
وضعية التهميش والإذلال التي تعيشها قد أخرجتها من ثنائية التناقض الرئيس (مع حركة
النهضة) والتناقض الثانوي (مع أي نظام استبدادي).
ولا
شك في أنّ هذا الوضع "المعضل"، سيجعل من أي مشروع لإسقاط النظام الحالي
مجرد مشروع لتدوير نخب "الاستعمار الداخلي"، بعيدا عن أي أفق حقيقي
للتحرر الوطني وبناء مقومات السيادة في مختلف مجالاتها السياسية والثقافية
والاقتصادية.
twitter.com/adel_arabi21