أفكَار

الطورانية العثمانية توقظ المشاعر القومية في المشرق العربي

فيصل جلول: المشروع القومي العربي الذي نشأ كرد فعل على الطورانية العثمانية لكنه سيشهد نقلة نوعية خلال الصراع من أجل استقلال الدول العربية
لا تزال فكرة القومية العربية أو العروبة القائمة على فهم أن العرب أمة واحدة تجمعها اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، قائمة لدى تيار عريض من النخب العربية. وعلى الرغم من الهزائم السياسية التي منيت بها تجارب القوميين العرب في أكثر من قطر عربي، إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار هذا التيار، ليس فقط كفاعل سياسي هامشي، بل كواحد من الأطراف السياسية الفاعلة في تأطير المشهد السياسي في المنطقة العربية.

ومع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، الذي دشنته الثورة التونسية، عادت الحياة مجددا إلى الفعل السياسي وتجدد السجال التاريخي بين التيارات الرئيسية التي شكلت ولا تزال محور الحياة السياسية العربية، أي القوميين والإسلاميين واليساريين، بالإضافة لتيار تكنوقراط يحسب نفسه على الوطنية ناشئا على هامش هذا السجال.

وإذا كان الإسلاميون قد مثلوا الصوت الأعلى في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي؛ بالنظر إلى كونهم التيار الأكثر تعرضا للإقصاء في العقود الماضية، ولأنه كذلك التيار الأقرب إلى غالبية روح الأمة التي تدين بالإسلام، فإن ذلك لم يمنع من عودة الحياة مجددا للتيار القومي، الذي بدا أكثر تمرسا بأدوات الصراع السياسي؛ على اعتبار تجربته بالحكم في أكثر من بلاد عربية، وأيضا لقربه من دوائر صنع القرار، خصوصا العسكرية والأمنية منها.

"عربي21"، تفتح ملف القومية العربية، أو التيارات القومية العربية بداية من المفاهيم التي نشأت عليها، وتجاربها والدروس المستفادة من هذه التجارب، بمشاركة كتاب ومفكرين عرب من مختلف الأقطار العربية، والهدف هو تعميق النقاش بين مكونات العائلات الفكرية العربية، وترسيخ الإيمان بأهمية التعددية الفكرية وحاجة العرب والمسلمين إليها.

اليوم ننشر ورقة الكاتب والباحث اللبناني فيصل جلول، التي كتبها خصيصا لـ "عربي21"، في أسباب يقظة المشاعر القومية العربية واتجاهاتها.


العرب والطورانية التركية

انتقلت الفكرة القومية العربية من أوروبا إلى العالم الإسلامي، في الهزيع الأخير من عمر الدولة العثمانية وتوسع انتشارها بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى. لم يقتصر الانتقال على الفكرة القومية. فقد انتقلت تباعا الأفكار الليبرالية والنازية والفاشية والاشتراكية والماركسية والديمقراطية. وتشكلت حولها أحزاب وجمعيات ومنظمات، في حركة وُصِفتْ بمجملها بـ "تحديث" العالم العربي ونقله من "التخلف" العثماني إلى "التحضر" الأوروبي. تقوم هذه الحركة في جوهرها على تأطير العلاقة بين التابع والمتبوع أو الغالب والمغلوب، ذلك أن التابع أو المغلوب يندمج في ثقافة المتبوع أو الغالب، يتزيّا بزيه ويتفكر بأفكاره بحسب استنتاج مبكر للعلامة ابن خلدون.

طُرِحتْ مجمل هذه الأفكار كبديل للفكر الإسلامي المهزوم، الذي تلقى الصدمة الأولى في مقر الخلافة نفسه في إسطنبول، حيث تشكلت منظمة "تركيا الفتاة" التي يمكن اعتبارها "روح" الطورانية التركية، وهي تشبه حرفيا منظمة "إيطاليا الفتاة" التي شكلها الفيلسوف الماسوني القومي الإيطالي جوزيبي مازيني في العام 1831 في مارسيليا جنوب فرنسا بعد هروبه من توسكانا. كان مازيني يقدم منظمته للقوميين الإيطاليين المهاجرين إلى جنوب فرنسا بوصفها "روح إيطاليا".

ملامح القومية العربية الأولى كانت تتبلور في سياق رد الفعل على سياسة التتريك، وليس عبر دعوات نهضوية مستقلة عن الدولة العثمانية.
كان الأتراك في بدايات القرن العشرين يرغبون في تتريك ما تبقى من مقاطعاتهم لاسيما العربية، فكان أن رد العرب بتشكيل منظمة "العربية الفتاة"، وجمعيات أخرى، من بينها "حركة بيروت الإصلاحية" و"جمعية العهد" والجمعية القحطانية" و"الجمعية العلمية السورية" و"المنتدى الادبي" وغيرها. طالبت هذه الجمعيات بأن تكون اللغة العربية هي اللغة الأولى في المقاطعات العربية، وأن تكون خدمة الجندية فيها، وأن يتولى عرب إدارة تلك المقاطعات.

أثارت هذه المطالب القوميين الأتراك الذين باتت شتيمة العرب رياضتهم المفضلة في شوارع إسطنبول ـ "بيس عرب" أي عربي قذر ـ، فضلا عن تطهير الإدارة العثمانية من الشخصيات العربية، الأمر الذي أدى إلى توسيع التباعد القومي بين الطرفين، وسيؤدي من بعد إلى إلغاء "الخلافة الإسلامية"، وتطبيق العلمانية في تركيا بصيغتها الفرنسية الراديكالية، وتغيير الحرف العربي واعتماد الحرف اللاتيني في اللغة التركية، مع الإشارة إلى أن الطورانيين كانوا في حينه يواجهون ضغطا من القوميين السلاف في مقاطعاتهم الأوروبية بدعم من موسكو، وسيواجهونهم من بعد على حدودهم، وسيواجهون أيضا القوميين الأرمن والأكراد، إضافة إلى العرب.

نرى في هذا السياق، أن ملامح القومية العربية الأولى كانت تتبلور في سياق رد الفعل على سياسة التتريك، وليس عبر دعوات نهضوية مستقلة عن الدولة العثمانية. ومن بين مظاهر ردود الفعل القومية على النزعة الطورانية، إعلان صدر في بيروت بعنوان "بيان إلى الأمة العربية" وفيه: "بني قومي، يا أبناء لغة عدنان وعمر بن عبد العزيز والمأمون بن هارون، أن عبر التاريخ تناديكم وكوارث الدهر تعظمكم فاستمعوا لهما: ذهب جاويد بك إلى أسواق أوروبا ليدلل على مرافق بلداننا، وذهب حقي باشا الى وزارات أوروبا ليدلل على البلاد نفسها. يا بني أمي وبني عمي، هيا إلى تلافي الخطر.. كونوا مع الحق ولا تبالوا. الله معنا وقوة الأمة لا يستهان بها"*.

إذا كان هذا حال أبناء "المأمون وعمر بن عبد العزيز"، فما بالك بحال أبناء "القديس شربل" الموارنة وأبناء الكنائس الارثوذكسية في بلاد الشام، الذين عاشوا قرونا "ذِمّيين" تحت سلطة العثمانيين الذين عمّروا مجدهم على احتلال القسطنطينية ودرتها "آية صوفيا"، وسيطروا على أجزاء واسعة من أوروبا المسيحية، ووصل تهديدهم للعالم المسيحي إلى فيينا.

لقد وجدت النخب العربية المسيحية حليفا عربيا مسلما مهددا بالزوال السياسي تارة عبر العنصرية الطورانية، وتارة أخرى عبر الكولونيالية الأوروبية، فكان المخرج القومي العربي من الإرث العثماني "مشرفا" للطرفين، وكان المؤتمر العربي الأول في باريس 1913 فرصة للتعبير عن هذا المخرج، الذي كان في جوهره محاولة ناجحة للخروج من قرون عثمانية طويلة، والدخول في تبعية "حضارية" لأوروبا مازالت مستمرة حتى اليوم.

صدرت الدعوة لانعقاد المؤتمر القومي العربي الأول في باريس من طلاب عرب يدرسون في العاصمة الفرنسية، فضلا عن جمعيات عربية تشكلت للرد على الطورانية العثمانية، ومن بين الداعين في باريس الطلاب عبد الغني العريسي وتوفيق فايد ومحمد محمصاني، وهم مسلمون من بيروت، وشكري غانم وشارل دباس وندرة مطران وجميل معلوف، وهم مسيحيون من جبل لبنان، وعوني عبد الهادي من فلسطين وجميل مردم بك، من دمشق، وقد لبى الدعوة حوالي 300 مشارك.

وقال رئيس المؤتمر عبد الغني الزهراوي؛ إن الهدف من انعقاده هو تحقيق اللامركزية في الولايات العربية في السلطنة، أما عبد الغني العريسي، فقال إن الحكومة العثمانية تعامل العرب معاملة الغالب للمغلوب، وتفرض عليهم "حق الفتح"، وأوضح: "إذا كان بوسع الحكومة العثمانية أن تدعي حق الفتح في بلاد البلقان، فلا يمكنها ادعاء هذا الحق في بلاد العرب. نحن قاعدة هذه الدولة قبل وبعد. نريد مشاركتها في الوزارة وفي الحكم. أما في بلداننا، فنحن شركاء أنفسنا". 

وبرر المؤتمرون انعقاد المؤتمر في باريس كل بحسب توجهه. فالبعض اعتبر أن المؤتمر هو لتحرير بلاد الشام من السلطة العثمانية بواسطة فرنسا، والبعض الآخر قال إن السبب هو حرية الرأي والصحافة والتحالف الفرنسي مع الدولة العثمانية، الذي يتيح لها الضغط من أجل تحقيق المصالح العربية. في المحصلة، زارت بعثة من المؤتمرين وزارة الخارجية الفرنسية، وأودعتها نتائج المؤتمر في حركة صريحة بأن الأمر يتعلق برهان قومي عربي على فرنسا في مواجهة الطورانية التركية.

في الواقع، لا تختلف نتائج المؤتمر القومي العربي الأول في باريس عن نتائج حركة الشريف حسين الموصولة بلندن و"لورانس العرب". ففي الحالة الأولى، كان المؤتمر "القومي" وسيلة تعبوية للرد على الطورانية، والخروج من السلطنة إلى مملكة عربية لا مركزية في ظل السلطنة برعاية وحماية فرنسية. وفي الحالة الثانية، كانت حركة الشريف حسين المسلحة وسيلة للتخلص من الطورانية نفسها نحو "مملكة عربية مستقلة" برعاية بريطانية. في الحالتين ما كان بوسع عرب تلك الفترة الرهان إلا على حسن النوايا والوعود الفرنسية ـ البريطانية، لكن الوعود "لا تلزم إلا الذين يؤمنون بها"، وليس الذين يطلقونها بحسب الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك.

تمت الولادة في فترة انتقالية من الطوارانية العثمانية المستبدة إلى الانتداب الأوروبي في المشرق العربي، في وقت كانت فيه دول المغرب قد وقعت تحت الاحتلال (الجزائر وتونس)، أو الانتداب والحماية (المغرب الأقصى) أو الاحتلال المتأخر (موريتانيا 1900 ـ 1960) وليبيا (احتلال إيطالي عام 1911) ومصر والسودان (احتلال بريطاني مقنع).
هنا، لا بد من التوقف قليلا عند مخاوف النخب السورية، من أن يبادر العثمانيون إلى التنازل عن "المرافق والبلاد العربية" للأوروبيين كما ورد في البيان البيروتي، فقد سبق لهم أن تنازلوا عن مدينة عدن للبريطانيين وعن الجزائر للفرنسيين. لقد جاء الكابتن البريطاني هينيز إلى سلطان لحج، الذي يشرف على الميناء اليمني بوثيقة رسمية يتخلى فيها العثماني (1830) عن "عدن" لملكة بريطانيا. فأجابه اليمني "من هو سلطان العثمانيين حتى يبيع أرضا ليست له؟ هذه أرضنا وسنقاتل دفاعا عنها حتى الموت. وبالفعل قاتل اليمنيون بوسائلهم الضئيلة، ولم يسلموا أراضيهم ولم يعترفوا بشرعية السلطان العثماني عليها، وسقطت عدن بيد الإنكليز على جثث مقاوميهم.

أما في الجزائر وفي الفترة نفسها تقريبا، فقد خرج الداي حسين العثماني والي الجزائر بعد خمسة أيام من الاحتلال الفرنسي للسواحل الجزائرية مع 118 شخصا من حراسه ومساعديه، محملا بالذهب والثروة التي جمعها خلال ولايته، فضلا عن الجواري (58 امرأة) خلال حفل وداع نظمته القوات الفرنسية المحتلة، التي نقلت الداي مع ثروته على متن السفينة الفرنسية "جان دارك" إلى نابولي، حيث عاش بعض الوقت ثم انتقل إلى باريس، ومن بعد إلى الإسكندرية التي توفي فيها.

المحصلة في الحالتين، أن الفرنسيين والبريطانيين سيمكثون في الجزائر وجنوب اليمن حوالي قرن وثلث القرن، وسيخرجون بعد حروب تحرير طويلة وقاسية بدعم من التيار القومي العربي، الذي قاده الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.

يفصح ما سبق عن ولادة التيار القومي العربي في بداياته الأولى كرد فعل على الطورانية التركية وبالتحالف مع أعداء السلطنة العثمانية الأوروبيين، الذين استتبعوا العرب ومازالوا حتى يومنا هذا تحت ستار التحديث والنهضة والعصرنة والحرية للخلاص من التخلف والاستبداد.

سمات الولادة الأولى للقومية العربية

وتتسم الولادة القومية العربية الأولى بالخصائص التالية:

أولاـ تمت الولادة في فترة انتقالية من الطوارانية العثمانية المستبدة إلى الانتداب الأوروبي في المشرق العربي، في وقت كانت فيه دول المغرب قد وقعت تحت الاحتلال (الجزائر وتونس)، أو الانتداب والحماية (المغرب الأقصى)، أو الاحتلال المتأخر (موريتانيا 1900 ـ 1960)، وليبيا (احتلال إيطالي عام 1911)، ومصر والسودان (احتلال بريطاني مقنع).

ثانياـ خروج المسيحيين العرب من "الذميّة" العثمانية، ورهان قسم كبير من نخبهم على القومية العربية التي تنظم العلاقة بين المسيحيين والمسلمين، على قاعدة المساواة العلمانية وليس على الشريعة الإسلامية، تحت شعار "الدين لله والوطن للجميع".

ثالثاـ سيتعزز الشعور القومي العربي بعد الإجراءات الانتقامية التركية، ومن بينها إلغاء الخلافة وتحلق الأتراك حول زعيمهم العلماني مصطفى كمال أتاتورك، الذي أطلق أوصافا شنيعة ضد العرب والرسول العربي، ناهيك عن الحكم بإعدام المعارضين في الولايات العربية من الذين تعاونوا مع الفرنسيين في مواجهة السلطنة خلال الحرب العالمية الأولى.

رابعاـ ستساهم نخبة مسيحية في بلاد الشام بنقل الثقافة القومية إلى العالم العربي، وتعظيم اللغة العربية والأدب العربي، وذلك جراء تأثرها بالقوميات الأوروبية الناجحة، التي سيطرت على العالم في القرن العشرين.

خامساـ ستساهم وسائل التعبير الحديثة الأوروبية التي انتشرت في الولايات العثمانية سابقا بعد الحرب العالمية الأولى وبعد الانتداب الأوروبي على الولايات العثمانية، ستساهم في نشر الأفكار القومية الأوروبية وسائر الأيديولوجيات الغربية.

سادساـ سيؤدي نشوء دولة إسرائيل إلى زيادة الشعور القومي العربي، وسيتوسع هذا الشعور ليس فقط كرد فعل على خسارة فلسطين، وإنما أيضا على الاحتلال الأوروبي لبلاد الشام وشمال أفريقيا العربية.

سابعاـ إن التلخيص الأفضل لمستوى الوعي القومي العربي في هذا الوقت، عبر عنه مؤسس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر الشيخ عبد الحميد بن باديس بقوله: "الشعب الجزائري مسلم وإلى العروبة ينتسب". لم يكن هذا التعريف مناسبا لقسم من المسيحيين المشارقة، الذين ربطوا القومية بالعلمانية والذين رفضوا صيغة "الذمية" في علاقتهم بمواطنيهم المسلمين، وفضلوا القومية العربية العلمانية المُجامِلة للإسلام، والبعيدة عن شريعته والبعيدة أيضا عن  اللاهوت الكنسي.

ثامناـ سيتوسع الشعور القومي في مواجهة مشروع "الإخوان المسلمين"، الذين حاولوا الرد في تلك الفترة (1920) على انهيار السلطنة العثمانية ببناء تيار سياسي إسلامي، يوحد الأمة الإسلامية بمختلف أعراقها، ويستأنف سيرة الخلافة التي ألغاها الطورانيون.

كانت تلك بدايات المشروع القومي العربي، الذي نشأ كرد فعل على الطورانية العثمانية، لكنه سيشهد نقلة نوعية خلال الصراع من أجل استقلال الدول العربية عن الكولونيالية الأوروبية (فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، إسبانيا)، وسيتم تأطيره في إيديولوجيات وأحزاب قومية تولت السلطة، وشكلت حضورا وازنا في الساحات العربية المختلفة، وهذا ما سنأتي على ذكره في الحلقة المقبلة.

ــــــــــــــــ

* للمزيد من التفاصيل حول المؤتمر القومي العربي الأول قي باريس، يمكن الرجوع إلى موقع يا بيروت على الرابط التالي:
 1913م المؤتمر العربي الأول في باريس - Beirut Heritage Society

*باحث في أكاديمية باريس للجيوبوليتيك