أفكَار

لماذا تآكلت الديمقراطيات الغربية وازدهرت الديكتاتوريات العربية؟

لماذا اضطرت الحكومات الغربية للاستسلام لشروط حكومات عربية وعالمثالثية مستبدة؟ (الأناضول)
في شهر كانون الأول (ديسمبر) 1996 أوقفت الشرطة السعودية ممرضتين بريطانيتين بتهمة قتل زميلتهما في سكنهن المشترك بمجمع الملك فهد الطبي العسكري في مدينة الظهران. في وقت لاحق أدانت محكمة في المملكة الممرضتين ديبرا باري وحكمت عليها بالإعدام بتهمة القتل العمد. وأدانت لوسي ماك لوكلان بتهمة المشاركة في القتل وحكمت عليها بالسجن ثماني سنوات نافذة. الضحية اسمها إيفون غيلفورد (كان عمرها 55 سنة)، وهي أسترالية الجنسية.

أذكر إلى اليوم كيف قامت الدنيا في بريطانيا ولم تقعد، وكيف أصبحت قضية الممرضتين شأنا وطنيا والشغل الشاغل للسياسيين والإعلاميين في بريطانيا. مارست الحكومة البريطانية على السعودية ضغطا هائلا، رسميا وشعبيا. توني بلير، رئيس الحكومة آنذاك، قام بزيارة دولة للسعودية في آذار (مارس) 1998 وناشد شخصيا الملك فهد للإفراج عن الممرضتين. كانت ثمرة ذلك الجهد الكبير والمناشدة الإفراج عن الممرضتين بعفو ملكي بعد شهرين من مناشدة بلير وعودتهما إلى بريطانيا عودة مظفَّرة استُقبلتا خلالها استقبال الأبطال.

في تلك الفترة أيضا، كان في مقدور أيّ برلماني بريطاني، وحتما أوروبي، ممارسة ضغط على حكومته لحضِّها على تسوية إقامات بعض المهاجرين ومنح حق اللجوء لآخرين. فعلها عدّة برلمانيين، خصوصا من اليساريين والاجتماعيين، واستجابت الحكومة في الكثير من الحالات.

آنذاك أيضا، كانت الحكومات الغربية تملك بعضا من أدوات وسبل الضغط على الحكومات الديكتاتورية لإجبارها على التراجع عن بعض القرارات والممارسات. وكانت تمتلك الجرأة على رفض الانصياع لهوى الحكومات المستبدة، مثل طلبات تسليم لاجئين سياسيين أو مطلوبين للقضاء في بلدانهم.

في تلك الفترة كذلك كان صوت المنظمات غير الحكومية، مثل منظمتي العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، مسموعا ومؤثرا في الأوساط السياسية الغربية. وكثيرا ما تدخلت في قضايا حقوقية عادلة وأنصفتها.

لكن دوام الحال من المحال. لو تكررت حادثة الممرضتين اليوم فمن المستبعد جدا أن تلجأ لندن للضغط ذاته الذي مارسته على الرياض بين 1996 و1998.

أيضا، من غير الوارد اليوم أن تستجيب الحكومة البريطانية لالتماسات برلمانيين لها بمنح حق اللجوء أو الإقامة لهذا المهاجر أو ذاك مهما كان جديرا بذلك.

منظمتا العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش وغيرهما غدت جميعا بلا صوت وبلا تأثير. أصبحت تكتفي ببيانات ظرفية وتقارير سنوية سرعان ما يغمرها النسيان.

فكيف وصلنا إلى هنا؟

عنوان الإجابة الأكبر على هذا السؤال هو أن الحكومات الغربية، وبسبب ظروف محلية ودولية، فقدت خلال ربع القرن الأخير نفوذها الأخلاقي والسياسي. في المقابل، استفادت حكومات عربية وآسيوية من الظروف ذاتها للتغوَّل وإملاء شروطها على الغرب.

الغرب يفقد نفوذه الأخلاقي

الإرهاب الدولي والأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي ضربت الغرب أدت إلى تآكل نفوذه الأخلاقي. بدأ الأمر مباشرة بعد تفجيرات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 عندما منحت الولايات المتحدة وبريطانيا، إضافة إلى دول غربية أخرى، نفسها حق ممارسة ما تراه مناسبا لها خارج أراضيها بذريعة محاربة الإرهاب. شكّلت أفغانستان المدخل في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، وبلغ الأمر ذروته مع احتلال العراق في ربيع 2003 بذرائع واهية وكذب مفضوح.

كانت الحرب على الإرهاب بمثابة إعصار دمّر كل شعارات الحقوق والحريات. استباح الأمريكيون، ومن ورائهم حكومات غربية وعربية، كل المحرمات وتجاوزوا كل الخطوط الحمراء. معتقل غوانتانامو، قاعدة باغرام، السجون الطائرة، برامج التجسس على كل شيء وكل الناس، تجميد أرصدة رجال أعمال عرب ومسلمين لمجرد الشبهة، كلها عوامل أفقدت الغرب حق تلقين الآخرين دروسا في الحقوق والحريات.

كان معتقل غوانتانامو حفرة أخرى حفرها الأمريكيون لأنفسهم ودفنوا فيها رصيدهم ونفوذهم الذي اكتسبوه عبر العالم منذ الحرب العالمية الثانية.

ثم جاء احتلال العراق ليقضي على كل شيء وينزع عن هذا الغرب الورقة الأخيرة من دفتر الأخلاق الذي طالما لوَّح به في وجه حكومات دول العالم الثالث، وبينها العربية. إلى فعل الاحتلال، أضافت أمريكا الممارسات المرافقة له.. التدمير المادي والسياسي للعراق، نهب الأموال والثروات الاقتصادية والثقافية، القتل والتعذيب والصمت عليهما عندما يمارسهما حلفاؤها. لم يحتج الأمر إلى وقت طويل ليفقد الأمريكيون كل رصيدهم المعنوي والأخلاقي. لقد كان العراق فخًّا حقيقيا للغزاة.

لا مجال اليوم للتساؤل عن سر اختيار الإمارات والسعودية الحياد في الأمم المتحدة أثناء التصويت على إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا. لقد كان موقفا انتقاميا من الولايات المتحدة قبل أن يكون حيادا "بريئا". ولا جدوى من استغراب كل هذه الجرأة التي لدى المغرب في تصلبه مع ألمانيا وإسبانيا وفرنسا وتحمّله علاقات متوترة مع هذه الدول لفترات زمنية غير قصيرة.
بسبب فظاعات العراق وأفغانستان، لم يعد في مقدور أيّ مسؤول أمريكي أو بريطاني اليوم توجيه اللوم لأي حكومة عربية مهما بلغت انتهاكاتها لحقوق وحريات شعبها. الردود جاهزة ومشروعة رغم أنها حقٌّ يراد به باطل: لست أفضل منا، فاحتلال أفغانستان أنتم. تدمير العراق أنتم. أبو غريب أنتم. بلاك ووتر أنتم. غوانتانامو أنتم. قاعدة باغرام سيئة الذكر أنتم. قصف مواكب الأعراس ومجالس العزاء في أفغانستان والعراق أنتم. الخراب في مالي ودول إفريقية أخرى أنتم. استهداف المهاجرين العزَّل واللاجئين البؤساء في أوروبا وأمريكا أنتم. الفساد السياسي والرشاوى لا فرق بيننا وبينكم. التضييق على الصحافيين كلنا في مركب واحد. جوليان آسانج انتم مَن دمّره.. إلخ.

الأزمات الداخلية القاتلة

تفسّر الأزمات الداخلية التي عصفت بالغرب خلال العقدين الماضيين الكثير من هذه الردَّة. شكلت هذه الأزمات ضربة أخرى نزعت عن الجزء الشمالي من الكرة الأرضية مصداقيته وجرّدته من أوراق ضغطه.

أقوى هذه الأزمات اقتصادية الطابع تجسّدت بوضوح مع الانهيار المالي سنة 2008. ثم انعكست اجتماعيا وسياسيا.

الضغوط الاقتصادية الداخلية الهائلة والمخاوف من تبعاتها الانتخابية والسياسية اضطرت الحكومات الغربية للبحث عن أطواق نجاة في الخارج. الحاجة لهذا الخارج لها كلفة غالبا باهظة. شكّل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الملجأ المفضّل للباحثين عن أطواق النجاة. لكونها خزّان نفط وغاز لا ينضب وسوقا بشرية هائلة تستهلك بنهم، أسالت المنطقة لعاب المأزومين. وقد أحسن قادتها اللعب ونجحوا في ترويض مَن كانوا بالأمس يلقِّنونهم دروسا في الحرية والديمقراطية.

اضطرت الحكومات الغربية للاستسلام لشروط حكومات عربية وعالمثالثية. يدخل ضمن بنود الاستسلام الكف عن توجيه الانتقادات وتسليم المطلوبين وتوفير الدعم الدولي والإقليمي في الأزمات والتساهل في العلاقات الدولية وترقية العلاقات من مجرد ثنائية رسمية بين دولتين إلى علاقات شخصية وعائلية أحيانا بين القادة في الضفتين، وغير ذلك.

اليوم مقابل صفقة تجارية تحفظ عشرات مناصب العمل، لا يتردد رئيس أيّ دولة غربية في تقديم تنازلات سياسية وأخلاقية للدولة المقابلة مهما كان نظامها مستبدا. من أجل شحنة من البضائع أو الأسلحة الفرنسية أو الألمانية أو الأمريكية، لا تتردد حكومات هذه البلدان لحظة في منح الدول التي تشكّل أسواقا محتملة ما تشاء من تنازلات، مقابل شرائها تلك الشحنات.

هذا ما يفسر أن الكثير من شحنات السلاح التي تشتريها دول عربية وآسيوية من أوروبا مجرد خردة لا قيمة لها ولا حاجة. هي مجرد صفقات سياسية لشراء ذمم الدول المزوِّدة وصمتها.

ما يزيد الطين بلة وجود منافسة حادة حتى داخل الفضاء الواحد الذي يبدو من الخارج كتلة موحدة متجانسة ومتعاونة. ففي ذروة الأزمة الدبلوماسية بين مصر وإيطاليا بسبب قضية الطالب جوليو روجيني، كانت دول أخرى أعضاء في الاتحاد الأوروبي تتودد لنظام عبد الفتاح السيسي من أجل الظفر بالصفقات العسكرية والاقتصادية التي كانت روما على وشك خسارتها مع مصر بسبب قضية ريجيني.

تغوّل الحكومات العربية

أدركت حكومات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ضيق حال الغرب وحاجته إليها فلعبت أوراقها وأحكمت عليه الخناق قدر ما استطاعت. لعبت دول الخليج العربية ورقة المال والاستثمارات المباشرة على أراضيها وفي أوروبا وأمريكا. ولعبت الدول الفقيرة والأقل ثراء (مصر، الجزائر، المغرب، تونس) الورقة البشرية والأمنية من حيث كونها سوقا استهلاكية هائلة تسيل لعاب أوروبا، ومعبرا رئيسيا لموجات الهجرة القادمة من أوروبا، وصاحبة قابلية للعب دور الوكيل الإقليمي في الحرب على الإرهاب. باختصار هي تمتلك تتحكم في نقاط ضعف الغرب الثلاث.

بهذه الأوراق أُجبرت الحكومات "الديمقراطية" على تقديم الدعم، ولو بالصمت، لأنظمة الحكم التي برزت على أنقاض انتفاضات الشعوب منذ 2011 في دول مثل مصر وتونس والجزائر والسودان.

وبفضل هذه الأوراق لم يعد من السهل على أيّ دولة أوروبية، مهما كانت ديمقراطية وتقدمية، أن تُضحي اليوم بمصر كسوق قوامها أكثر من 100 مليون نسمة (مستهلك). لهذا تراجعت إيطاليا في قضية ريجيني. وليس سهلا أيضا على أي دولة فتح جبهة مع السعودية وهي سوق لا تشبع من شراء الأسلحة والمعدات الحربية، ومخزونها من النفط يفوق الوصف. ولا تمتلك أيّ دولة أوروبية ترف التفريط في الجزائر كمصدر غاز بديل أمام احتمالات انقطاع تدفق الغاز الروسي وغلاء سعر الأمريكي، أو في الإمارات كحليف اقتصادي ووكيل أمني في قلب منطقة الخليج. ولا يمكن لأي قائد أوروبي أن يعبث بعلاقات بلاده مع المغرب لأسباب حقوقية وهو يدرك أنها بوابة رئيسية لكل الأفارقة الحالمين بالعبور إلى إسبانيا ومنها أوروبا. وقد جرَّبت أوروبا قرصة الأذن عندما تأزمت العلاقات بين إسبانيا والمغرب وسمح الأخير في أيار (مايو) 2021 لنحو 6 آلاف مهاجر أفريقي (قيل أن بينهم 1400 قاصر) بالسباحة نحو سبتة ومليلية في مشهد مثير يشبه مشاهد السينما.

أحد تجليات التأزم في الغرب وصول الديمقراطية التقليدية إلى نهايتها جراء تآكل الثقة فيها. هناك أسباب عدّة وراء ذلك أبرزها فشل القوى السياسية التقليدية في التغلب على الأزمات المحلية المتنامية وفي توفير بديل اقتصادي واجتماعي أفضل، وخوف المجتمعات والأفراد من المستقبل، وتراجع دور الكنيسة والمجتمع المدني كمهدئات روحية. النتيجة صعود اليمين الشعبوي بقوة في كل أوروبا، ووصول أشخاص متمردين عن "الاستبليشمنت" إلى أعلى مستويات السياسة والقرار.. أحزاب يمينية تشكّل كتلة نافذة في البرلمان الأوروبي والبرلمانات المحلية عبر كل القارة، ترمب في رئاسة أمريكا، أوربان يقود المجر، جونسون في بريطانيا، ميلوني في إيطاليا والمزيد آتٍ.

حتى المجتمعات في الغرب فقدت بريقها ورغبتها في الاحتجاج، فغابت المظاهرات العارمة التي كانت ترافق أو تستبق قمم المناخ واجتماعات مجموعة السبع وغيرها. توارت قوى اليسار والتنظيمات النقابية التي كانت تحرك الاحتجاجات، وتركت المساحة لغضب من نوع آخر جديد يجسّده أفراد مثل أدورد سنودن وبعض المنظمات الصحافية الاستقصائية.

محنة الحكومات الغربية أنها إضافة إلى فقدان ثقة شعوبها، خسرت في الطريق ثقة الشعوب الأخرى، القريبة والبعيدة، بسبب أخطاء في التقدير وتفضيل المصالح على القيم وسياسة الكيل بمكيالين في قضايا حساسة للشعوب مثل الهجرة والقضية الفلسطينية بالنسبة لسكان المنطقة العربية.

لسان حال القادة الأوروبيين اليوم، أفرادا ومجموعة، أن الوضع خطير ولا شيء ولا أحد يستحق التضحية بالمصلحة الاقتصادية للدولة والمجتمع. الإيطاليون يؤمنون بأن ريجيني مات وانتهى فلا الداعي لعداء أزلي مع مصر. الأمريكيون وحلفاؤهم يدركون بأن عزل السعودية ونبذها لن يعيد جمال خاشقجي إلى الحياة وإنما يُكلّفهم مصالح سرعان ما سينقض عليها الروس والصينيون. بريطانيا تعرف أكثر من غيرها أن الدفاع عن الناشط المصري البريطاني علاء عبد الفتاح مطلوب أخلاقيا لكنه ضمن حدود لا تُفقدها مصالحها مع مصر. فرنسا تعرف هي الأخرى أن مصالحها مع المغرب والجزائر أقوى من الصحافيين المسجونين في هذين البلدين، وأبقى.

محنة الحكومات الغربية أنها إضافة إلى فقدان ثقة شعوبها، خسرت في الطريق ثقة الشعوب الأخرى، القريبة والبعيدة، بسبب أخطاء في التقدير وتفضيل المصالح على القيم وسياسة الكيل بمكيالين في قضايا حساسة للشعوب مثل الهجرة والقضية الفلسطينية بالنسبة لسكان المنطقة العربية.
لسوء حظ مواطني الدول الغربية أن هذا التدهور نالهم وسينالهم أكثر في المستقبل. فكلما كبرت مصالح بلدانهم وحيثما تجلَّت أكثر، تضاعفت حظوظ التضحية بهم. بعد الآن، إذا اعتقل مواطن أوروبي في دولة عربية، خصوصا إذا كانت غنية، فالأكيد أن حكومته لن تفتعل أزمة دبلوماسية وقطيعة مع هذه الدولة. حتما ستقوم بواجبها الأخلاقي مثل توفير المساعدة القانونية له والتوسل لدى الدولة "المضيفة" لتحسين ظروف اعتقاله وعدم المبالغة في تعذيبه وتمكين عائلته من زيارته، لكنها لن تثير أزمة كالتي أثارتها بريطانيا مع السعودية بسبب الممرضتين، ولن تضحي بمصالح اقتصادية وصفقات تجارية وعسكرية مهما بدت صغيرة.

بعد كل هذا لا يجب أن نستغرب كيف يمتنع الأمير محمد بن سلمان، ولي عهد السعودية، عن الرد على اتصالات الرئيس جو بايدن، وكيف يرفض استجداءه بضخ المزيد من النفط في الأسواق حفاظا على الأسعار. القمة السعودية الصينية الأخيرة في الرياض، بحضور عدد من القادة العرب، هي تحدٍّ صريح للولايات المتحدة لم يكن يخطر على بال قبل سنوات قليلة لولا ضعف الغرب من الداخل وتوظيف خصومه ذلك الضعف.

لا مجال اليوم للتساؤل عن سر اختيار الإمارات والسعودية الحياد في الأمم المتحدة أثناء التصويت على إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا. لقد كان موقفا انتقاميا من الولايات المتحدة قبل أن يكون حيادا "بريئا". ولا جدوى من استغراب كل هذه الجرأة التي لدى المغرب في تصلبه مع ألمانيا وإسبانيا وفرنسا وتحمّله علاقات متوترة مع هذه الدول لفترات زمنية غير قصيرة.

الواقع اليوم أن الغرب أصبح لا يخجل من تآكل الديمقراطية في ربوعه، والعرب غير منزعجين من ازدهار الديكتاتورية عندهم.

*كاتب وإعلامي جزائري