أفكَار

تاريخ العلويين بالمغرب.. سيرة ونهج السلطان إسماعيل نموذجا (2 من2)

الكاتب والأكاديمي المغربي بنسالم حميش يروي سياسات السلطان مولاي إسماعيل مؤسس الدولة العلوية بالمغرب (الأناضول)
ذات يوم بُعيد صلاة العشاء أُنبئتُ أن فقهاء وبعضَ ذوي الحيثيات تهامسوا بالإنكار عليَّ اختلاطي بالعَمَلة البنائين، أباشر بنفسي مساعدتهم في حمل الأنقاض والآجر وإعداد الجير والبرشلانه وسوى ذلك مما لا يليق، من منظورهم الضيق، بمقام الملوك والسلاطين، فبعثت لهم من أعيان حاشيتي من يذكرهم إن نفعت الذكرى أن رسولنا سيد الخلق قد أسهم في حفر الخندق الذي تسمت به إحدى وقعات المسلمين المظفرة وكذلك في ترميم الكعبة المشرفة، كما أمرت بتذكيرهم أن آدمَ كان حراثا ونوحا نجارا وداودَ حدادا بل وأن أنبياءَ عليهم أزكى السلام كانوا رعاة، وأوصيت بتبليغ أولئك المنكرين أني سلطانٌ بنّاء ولا عيبَ ولا حرج في ذاك ولا في مشاركتي المهندس عبد الله الأمين وبعضَ العلوج في التخطيط لقصوري ومآثري الأخرى من حصون وأسوار منيعة وأبواب ومساجد ومدارس وكتاتيب وأضرحة وسقايات وحدائق. وكلها تشير إليَّ وعلى عهدي تدل.

وفي كل هذا أسوق وأبني ما استطعت، ولا أتيه وأهدم. فالله قُدّس مقامه ولأني على الناس ببيعاتهم ولم يسلطني عليهم محنةً أو وباء. وفي هذا السياق كم راقتني قصيدة عبد الحق السحيمي في مدحي مطلعها "يباشرُ في كلِّ الأمورِ أمورهُ/ بقلبٍ نقيٍّ للمكارِم منيع".

وعلاوة على ذلك وسواه كنت مرة في الشهر أو أكثر حسب ما يرد عليّ من الدواوين أتفقد أحوال السجون والماريستانات ودورا ومآوي كثيرة، والحق أني ألفيتها في هذي الخطرة عادية كما عهدتها وأوصيت به القيمين. وفي حبس قارة الأشهر والأوسع ذكّرت هؤلاء كدأبي من قبل أن الأسرى النصارى أريد أن يظلوا معافين حتى تصح مبادلتهم بأسرانا المسلمين حسب التساوي والندية. أما الحمقى والمغفلين فقد نفع نقلهم إلى خيام في البوادي تحت حراسة ماهرين ومسعفين، فلا يشكو من صراخهم وعويلهم ليلا سكان المدن العامرة.

وإن نسيت فلن أنس زيارتي متنكرا لأحد مخيماتهم بحوز مراكش حيث رحب بي ثلة من قاطنيه فجالستهم غير بعيد عن الحرس. سألني شيخهم عن سبب حلوله بينهم فادعيت نسيانه فقال مازحا ومشهدا صحابه: إذن أنت إنسان يصح عليك بيت نسيت شاعر اسمه وما سُميَ الإنسان إلا لنسيهِ/ ولا القلب إلا أنه يتقلبُ. ونطق آخر ناعتا إياي: والله يا درويش لم أعد أطيق تغيير المنكرات إلا بقلبي وهذا أضعف الإيمان، لكن قلبي أمسى يهددني بالسكتة، فما أفعل، أجبت قِ قلبك وارعه ودع التغيير لمن يسعه. هتف الجمع لنصحي وأيدوه، وعقب الشيخ تجاهي إذا كان عقلك يتصف بالرجاحة والسداد فلماذا حشروك بيننا نحن ضعاف العقل إجمالا ومختليه عند أناس ومطببين أجبت علم هذا عند الله وحده وما أوتيت من العلم إلا قليلا.

ذات يوم بُعيد صلاة العشاء أُنبئتُ أن فقهاء وبعضَ ذوي الحيثيات تهامسوا بالإنكار عليَّ اختلاطي بالعَمَلة البنائين، أباشر بنفسي مساعدتهم في حمل الأنقاض والآجر وإعداد الجير والبرشلانه وسوى ذلك مما لا يليق، من منظورهم الضيق، بمقام الملوك والسلاطين، فبعثت لهم من أعيان حاشيتي من يذكرهم إن نفعت الذكرى أن رسولنا سيد الخلق قد أسهم في حفر الخندق الذي تسمت به إحدى وقعات المسلمين المظفرة وكذلك في ترميم الكعبة المشرفة،
لاحظت بين الجمع نزيلا منطويا على نفسه وسبحته. أدرك من نظري إليه أني أسأله عن سبب سكوته فقال كلاما تفهم ألفاظه ويتشابه معناه ويعصى: إذا استكنهتَ صمتي يا ذا العقل فقد أتاكَ رعدي، وإذا ارتعدت لرعدي فلن تبصر في مداهُ إلا الحيرة والحسرة والروحَ الجريحة، فاصبر على ما تراه لعلّك تستبين قوام الإنسان البالغ ومأساته البليغة. التمست من الرجل الإفصاح فقال متلكئا: لولا نسبك لأولياء الله لما أجبتك. أصمت إذن حتى لا أنفجر أو يفجروني تفجيرا والسلام، أما إذا أردت مهدارا طويل اللسان فهو ذاك الجليس المغتاب. نزع المنعوت عمامته الضخمة وقال هؤلاء القوم يا سيدي ينفرون مني منذ حكيت لهم ذات يوم شديد الغنى والضجر أن شاة حسب ما رُوي لي كانت تعاشر الزاهد أبا مدين في غاره ولا تبخل عليه بلطيف النطح والشمِّ واللمس، وذلك كلّما رضيتْ عنهُ وارتاحت إليه. وكان وليُّ تلمسان من جهة أخرى لا يشفي النساءَ المريضات إلا بدلك صدورهنَّ وبطونهنَّ والثفل عليهن. وكان على الأزواجِ أن يذعنوا لهذا الأمر إن هم في ظنهم أرادوا لزوجاتهم خيرا.

حكمني النزيل في ما شجر بينه وبين زملائه فاعترفت أن لا إحاطة لي بالأمر وبالتالي لا رأي لي فيه ولا حكم. التفت إلي جليس منشغل بترديد كلمة يا عقلي قِ وسألته طمعا في صرفه عنها وأنت يا عبد الله ما أتى بك إلى هنا فاستشكل معرفتي باسمه فقلت كلنا عبيد الله، وأجابني: ذات صباح وقتَ السحر ومَد موج البحر اقتعدت صُخيرة ملساء ورميت بصنارتي لصيد سمك أسدّ به رمقي إن جعت، وكل سمكة تعلق بقنبي أضعها في سطل ماء لكن، حدث أن فتاة حسناء مرت بي وأخذت السطل بما فيه وطوحت به عرض الموج فلعنتُ أباها ومن ربّاها فإذا برجل ضخم الجثة مخيف وزبانيته يقبلون عليّ بالضرب المبرح ويقودونني إلى حيث نحن بتهمة الاعتداء على بريئة ذات نسب وحسب، وبالحمق الخطير وأضاف النزيل ناعتا إياي وأنت يا درويش ما فقصتك من مبتدأها إلى خبرها، استقمت واقفا ودعوت للجميع بحسن العاقبة والفرج القريب ووعدتهم بلقاء أقرب وقصدت باب المارستان حيث طمأنني القيِّم الطبيب أدراق وأعوانه على تنفيذ أوامري الرامية إلى منع تعنيف النزلاء والعمل عوضه على إصلاح أحوالهم وتمكينهم من نعم الهدي والرشاد، ثم ركبت فرسي الأدهم قرير العين يحيط بي حرسي وبعض الفتيان.


ذاك ثم إني انفردتُ باستصدار مراسم تدل بما لا مراءَ فيه، كما شهد ثقاتٌ وُعاة أني والعمدة عليهم سلطانٌ شهمٌ مقدام وفذٌّ مائز بما شاء الله لي ويسَّر. ومنها مثلا: [أما بعد فاذكرونا في الخطب بمجرد اسمنا إسماعيل بن الشريف من غير زيادة مولانا وسيدنا. فإني أستحي أن يُذكر الخلفاء من الصحابة الأجلاء والتابعين وأتباعهم رضوان الله عليهم بأسمائهم وكناهم ونُذكر بأزيد من ذلك. وإن أبدى بعض العلماء وجها وبالغ في الثناء فالحياء غلبنا ومنعنا من الالتفات إليه والسلام]. وعليه لم أقبل إلا بكنية أبو النصر تيمنا وفألا حسنا. ومن ذلك أيضا أني أمرت بالبريح في الأزقة والرحاب والأسواق أن لا يُرمى على الأرض كتابٌ أو كسرةُ خبزٍ، ومَن خالف ذلك يعاقب بقدر ما اجترح. وأَتْبَعْتُ ذلك من بعد بمرسومِ تحريمِ تمريغِ الخدودِ بالأعتابِ الشريفة أو بأكناف الأضرحة إذ في ذلك تنقيصٌ من قيمة عبيد الله وكرامتهم.

اقرأ أيضا: تاريخ العلويين بالمغرب.. سيرة ونهج السلطان إسماعيل نموذجا (1من2)