كتب

لماذا فشلت مساعي وضع اتفاقية عالمية لمكافحة الجرائم الإرهابية؟

من أسباب الفشل الذريع لضبط تعريف دولي علمي موحّد الاختلافُ حول تمييز العمل الإرهابي عن المقاومة المشروعة
الكتاب: "مكافحة الإرهاب بين مشكلة المفهوم واختلاف المعايير عند التطبيق" (الجزء الأول)
الكاتب: ولد الصديق ميلود وآخرون (كتاب جماعي)
الناشر: مركز الكتاب الأكاديمي ط 1، عمّان 2017
عدد الصفحات: 312 صفحة


1
هل أشكل الإرهاب فعلا على الإنسان اليوم؟ فهو لا يقوى على محاصرته بله عن التّوصّل  إلى فهمه الفهم المشترك وتعريفه التعريف الجامع.  ويواجه عسرا حقيقيا كلّما حاول التأريخ لاعتماده منهجا للفعل السياسي. وكيف له أن يفكّك خطابه ويحاصره ويجرّمه ومفهومه يظل هلاميا في الأذهان؟

حول هذا الإشكال دارت الندوة العلمية "مكافحة الإرهاب بين إشكالية إيتيمولوجيا المفهوم وازدواجية المعايير عند التّطبيق" بجامعة سعيدة بالجزائر في غرة آذار (مارس) 2016 ونُشرت أعمالها سنة 2017 في جزأين. فحاولت أن تخوض في النّقاشات النّظرية المختلفة لموضوع الإرهاب. وسنقصر ورقتنا على البحث في إشكاليات مفهمته وما تثير من اختلافات لم تُوفق الدوّل إلى اليوم في تجاوزها.

2
تحاول الباحثة عاسية رزوقي الإحاطة بنشأة ظاهرة الإرهاب في العصور القديمة وأن تتخّذ من التأريخ لها مدخلا لفهمها. ولكنها تصطدم بعقبة أولى. فعلى المستوى الإبيستيمولوجي لم تكن الممارسات التي يمكن تصنيفها بالإرهابية، وإن وجدت بالفعل وامتد اعتمادها في الزمن، تُفهم الفهم السائد في عصرنا الحالي. ومع ذلك تقدّر أنّ مصر الفرعونية شهدت جرائم ذات دوافع سياسية. فكثيرا ما وُظّف العنف والقتل بهدف السيطرة على الحكم. والأمر نفسه ينسحب على الأشوريين في القرن السابع قبل الميلاد. فقد قتلوا أعداءهم من البرابرة ونكّلوا بنسائهم وشيوخهم دون تمييز. وكانوا يعمدون إلى أسر سكان مدن بحالها حالما يسيطرون عليها ويتخذونهم عبيدا. وفي الشرق ظهرت جماعات الحشاشين. فقد كان أعضاؤها الذين ينتمون إلى الطائفة الإسماعيلية يفرضون تعاليم مذهبهم بالقوة ويرهبون الحكام ويتخذون من الاغتيال السياسي وسيلتهم.

كثيرا ما تتورّط أجهزة مخابرات بعض الدّول "المقاومة للإرهاب" في تصفيات أفراد مسالمين يمثّلون خطرا على مصالحها بأوامر من السلطات العليا. وهذا يمثّل وفق المعايير المعتمدة ضربا من إرهاب الدّولة. ويكفي أن نذكر أنّ الرئيس الفرنسي هولاند قد جاهر بأنه أعطى الأوامر في فترة حكمه بتنفيذ أربعة اغتيالات على الأقل.
وتتوسّع الباحثة في عرض نماذج ممّا عدته إرهابا في العصور الوسطى. فتركّز على العنف السياسي في أوروبا خاصّة. ولكن ما كانت تعرض من النماذج وتصنّفه على أنه إرهاب لم يخل من انتقائية لا تساعدنا في ضبط الحدود والتعريفات. فالفعل السياسي بأسره تقريبا، في تلك الأزمنة كان عنيفا دمويا. فلم تكن هناك مواثيق دولية ولا رقابة للحيلولة دونه. ولنا فيما يصحب التداول على الحكم، داخل الدّولة الواحدة أو ما يرافق سقوط بعضها وقيام بعض آخر، من التنكيل بالأعداء وتمثيل بجثثهم ما يغنينا عن التّفصيل. وعامّة فقد كان الفعل السياسي الدّموي الذي نصنّفه اليوم بالإرهاب أسلوبا شائعا يهدف إلى احتكار السلطة وزجر كل من يطمع في الوصول إليها من المنافسين.

3
وتردّ الباحثة الغنجة هشام داود بداية الوعي بالإرهاب وبداية تصنيف بعض الممارسات على أنها وجه من وجوهه إلى مصرع ملك يوغسلافيا سنة 1934. فقد تقدّمت فرنسا حينها إلى الأمين العام لعصبة الأمم المتّحدة بطلب الوصول إلى اتفاق دولي يعاقب الجرائم ذات الخلفيات السّياسية. وصيغ بناء على ذلك مشروعان سنة 1935. فعمل الأول على تعريف الإرهاب وضبط سبل مقاومته وتعلّق الثاني بإنشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة الإرهابيين. وتمت الموافقة عليهما سنة 1937. وعُرّف الإرهاب في وثيقة اتفاقية جينيف لقمع الإرهاب 1937 تبعا لذلك، بكونه "الأعمال الإجرامية الموجهة ضد دولة ما تستهدف أو يُقصد بها خلق حالة من الرّعب في أذهان أشخاص معينين أو مجموعة من الأشخاص أو عامّة الجمهور" ودُقّق المفهوم عبر ذكر طبيعة الجمهور المستهدف من العنف السياسي، كأن يكون من دولة أخرى وأن يتمتّع بالحماية الدولية، وعبر طبيعة الأفعال المعتمدة في هذا العنف، كأن يكون ترويعا أو قتلا.

وحاولت الاتفاقية الأوروبية لسنة 1977 الحدّ من ميوعة هذا التعريف. ولكنها فشلت في الوصول إلى تصوّر مشترك. واكتفت بعرض جملة من الأمثلة، منها ما تمّ تحريمه في اتفاقات دولية سابقة ومنها ما أضيف وتعلّق بكل الأفعال الخطرة التي تهدّد حياة الأشخاص وأموالهم. حاصلُ هذه المحاولة أنّ مختلف الدول المشاركة حينها لم ترض عن المسودّة لحصر الإرهاب في الأشخاص وعدم توسيعه للدول أو لعدم الاتفاق على معايير إدراج الدول في خانة الإرهاب. فلم تتم المصادقة عليها في النهاية.

أما الاتفاقية العربية فعرّفت الإرهاب بكونه "كل أفعال العنف أو التهديد أيا كانت بواعثه وأغراضه، يقع تنفيذا لمشروع إجرامي فردي أو جماعي، يهدف إلى إفشاء الرّعب بين الناس أو تعريض حياتهم وحرياتهم أو أمنهم للخطر، أو بإلحاق الضرر بالبيئة أو بأحد المرافق أو الأملاك العامّة أو الخاصّة أو احتلالها أو الاستيلاء عليها أو تعريض أحد الموارد الوطنية للخطر أو التّهديد".

4
لم تعرّف الولايات المتحدة الإرهاب تعريفا واحدا. وسنكتفي هنا بعرض تعريفين متباينين. فالبنتاغون مثلا يعرّفه بكونه "الاستعمال أو التهديد بالاستعمال غير المشروع للقوة أو العنف من قبل منظمة ثورية" في تعريف آخر بكونه "الاستعمال أو التهديد بالاستعمال غير المشروع للقوة أو العنف ضدّ الأشخاص أو الأموال غالبا لتحقيق أهداف سياسية أو دينية أو عقائدية". وبالمقابل تعرّفه وزارة الخارجية بكونه: "عنفا ذا باعث سياسي يُرتكب عن سابق تصوّر وتصميم ضد أهداف غير حربية من قبل مجموعات وطنية فرعية أو عملاء دولة سريين ويقصد به عادة التأثير على جمهور ما".

5
يمكننا أن نتبيّن أنّ كل تعريف من هذه التّعريفات المختلفة للإرهاب لم يكن يبحث في جوهر الظاهرة ويحاولّ أن يحدّها الحدّ العلمي الجامع المانع بقدر ما كان يناور لتحقيق مصالح سياسية خاصّة. وبدل أن يواجه انحرافات السياسات المحلية أو الدولية يتحوّل إلى أداة لتبرير تصفية الخصوم. فالمفهوم الذي سعت إليه فرنسا في ثلاثينات القرن الماضي يناسب وضعها باعتبارها دولة مستعمِرة تسعى إلى ضمان سلامة رجالها ممن تنصبهم لقهر الشعوب المحتلة وتوفّر لهم الحماية الدولية. ويؤكّد الاختلاف الأوروبي في السبعينات هذه النزعة بجلاء.

من أسباب الفشل الذريع لضبط تعريف دولي علمي موحّد الاختلافُ حول تمييز العمل الإرهابي عن المقاومة المشروعة وحق الدفاع عن النّفس وحول وجاهة الأخذ بدوافع العمل السياسي العنيف وأهدافه وربطه بالشرعية الدولية عند تشخيص حدث ما.
أما حافز حماية الديكتاتوريات العربية في الثمانينات فيبدو جليا  في ما اقتُرح من خلال حصر تعريف الإرهاب في "المشاريع الإجرامية" أو " إفشاء الرّعب بين الناس" أو "إلحاق الضرر بالبيئة أو بأحد المرافق أو الأملاك العامة أو الخاصّة" أو "تعريض أحد الموارد الوطنية للخطر أو التهديد". فلم يكن هذا التّعريف غير خزّان تهمٍ لكل الخصوم السياسيين المحليّين يكفل ملاحقتهم لتأبيد حكم الحاكمين. وأما الأمريكيون فكانوا يركّزون على "تحقيق الأهداف السياسية أو الدينية أو العقائدية" وعلى "المجموعات الوطنية الفرعية أو عملاء الدول السريين" لتعريفه، وفي الذّهن رغبةٌ في اعتماده لمحاصرة خصومهم الإيديولوجيين الذين يصطدمون بهم على الميدان، وهم الفصائل اليسارية والحركات أو الدّول الإسلامية أساسا.

6
من أسباب الفشل الذريع لضبط تعريف دولي علمي موحّد الاختلافُ حول تمييز العمل الإرهابي عن  المقاومة المشروعة وحق الدفاع عن النّفس وحول وجاهة الأخذ بدوافع العمل السياسي العنيف وأهدافه وربطه بالشرعية الدولية عند تشخيص حدث ما. وهذا ما يكفله قرار الأمم المتّحدة 1514 القاضي بحق الشعوب في الاستقلال الكامل سياسيا واقتصاديا وعسكريا. وبديهيّ أن يترتّب عليه الفصل بين المقاومة الشرعية والعمل الإرهابي الذي يستدعي التجريم.

ولكنّ إسرائيل والولايات المتحدة ترفضان أخذ ذلك القرار بعين الاعتبار عند ضبط حدّ الإرهاب. وهذا ما أفضى إلى الإرجاء المستمر لوضع اتفاقية عالمية لمكافحة الجرائم الإرهابية، وإلى تعويضها باتفاقات ثنائية تتمّ عامّة بمنطق المغالبة. فتفرض فيها الدول القوية على الدول الضّعيفة رؤيتها وتستخدمها لملاحقة بعض الأفراد وفق مزاجها السّياسي. وعليه يتمّ تصنيف بعض الأطراف "الإرهابية" تصنيفا عشوائيا تحكمه الأهواء السياسية وتعتمده وسيلة لتصفية الخصوم والتّخلص منهم، وتتحول بعض الأعمال التي تدّعي مقاومة الإرهاب إلى إرهاب مضاد.

7
نستنتج من استقراء ورقات الندوة المختلفة أنّ الإرهاب أنواع. فمنه إرهاب الدولة الذي تمارسه الأنظمة الديكتاتورية داخليا ضد مواطنيها. فتعوّل على التّعذيب والتّرهيب وتقييد الحريات لإطالة فترة حكمها. ومن إرهابها ما يمارس خارجيا في شكل عمليات عسكرية تشنّ ضد مدنيي الدّول الأخرى لكسر إرادة شعوبها بدل مواجهة قواتها العسكرية النظامية. ومنه إرهاب المنظّمات والجماعات والأفراد.

وفضلا عن الإرهاب الذي بات يصنّف بالتّقليدي ويعتمد التّفجيرات المباشرة ويستهدف المؤسسات والأفراد، بتنا نسمع اليوم عن إرهاب جديد، مفترض غالبا، كالإرهاب النّووي الذي يستند إلى فرضية حصول الإرهابيين على الأسلحة النووية أو الإرهاب البيولوجي والإرهاب الكيمياوي ويتوقّع حصول الجماعات الإرهابية على مواد مدمّرة بتكلفة زهيدة وتجارب تحصل في المخابر البسيطة. ويمكننا أن نضيف الإرهاب المعلوماتي الذي يستخدم الهجمات السيبرانية (وإن كانت تلك الهجمات تعتمد غالبا من قبل الحقوقيين للاحتجاج على سلوك شائن لمؤسسة أو دولة. فتعطّل مصالحها دون أن تخلف الخسائر البشرية).

8
تنتهي بنا عملية استقراء أوراق الندوة المختلفة إلى نحدّد النقاط المشتركة التالية التي اعتمدت لفهم الإرهاب:

ـ يشكّل الإرهاب تهديدا أمنيا ويلجأ الإرهابيون إلى العنف المادي خاصّة.
ـ يشمل عمليات الاغتيال والتعذيب والتشويه والتخريب والنسف بغاية تحطيم روح المقاومة وهدم المعنويات لدى الهيئات والمؤسسات أو تحقيق مكاسب سياسية في عمقها.
ـ يوجه ضد الدول أو المؤسسات أو ضد جماعات بعينها أو أفراد منها.
ـ يهاجم أهدافه معوّلا على خلل التوازن في التأهب. فغالبا ما تكون هذه الأهداف في حالة طمأنينة وارتخاء أو غير مستعدّة الاستعداد الكامل للدّفاع عن النّفس.
ـ يعتبر الإرهابيون أنّ كل الأعمال غيرِ المشروعة في الأعراف والمواثيق الدولية للفعل السياسي كالقتل والاختطاف وزرع القنابل، مباحةٌ. 
ـ تظل غايته الوصول إلى السلطة لفرض أنموذجه المجتمعي. ويراه هدفا عادلا وغالبا يجعله مقدسا، وضرورة تبيح كلّ المحظورات.

9
ترسّخ أعمال الندوة: "مكافحة الإرهاب بين إشكالية إيتيمولوجيا المفهوم وازدواجية المعايير عند التطبيق" الانطباع بأنّ الإرهاب يظلّ معضلة مستعصية لأسباب كثيرة:

ـ إفادة ظاهرة الإرهاب من انفتاح الحياة المعاصرة على وتقنيات الاتصال الحديثة ومواقع التّواصل الاجتماعي لحشد الأنصار والاتباع حتى بتنا أمام إرهاب معولم عابر للقارّات.

ـ عسر الحل الجذري للمسألة في ظلّ قيام العلاقات الدّولية على الإكراه والمغالبة وفرض الأقوياء رؤاهم وتصوراتهم على الضعفاء.

ـ دور العمل المخابراتي. فكثيرة هي الدّول التي تدعم بعض الجهات الإرهابية من وراء ستار لاستخدامها ضد خصومها وإن جاهرت بمعاداتها لها وشن حرب عليها أحيانا.

ـ كثيرا ما تتورّط أجهزة مخابرات بعض الدّول "المقاومة للإرهاب" في تصفيات أفراد مسالمين يمثّلون خطرا على مصالحها بأوامر من السلطات العليا. وهذا يمثّل وفق المعايير المعتمدة ضربا من إرهاب الدّولة.  ويكفي أن نذكر أنّ الرئيس الفرنسي هولاند قد جاهر بأنه أعطى الأوامر في فترة حكمه بتنفيذ أربعة اغتيالات على الأقل.

10
تبدو الباحثة الغنجة هشام داود واعية بذلك تماما. فتقول: "إنّ الإرهاب أحد أساليب الصّراع السياسي الذي يمكن أن تلجأ إليه كل القوى السياسية. فقد استخدمته الثورة الفرنسية بمعنى العدالة. واستخدمه الثّوار الشيوعيون الرّوسيون أثناء الحرب الوطنية، وكذلك عناصر الثورة المضادة لها." ولعلّنا أن نلمس هذا التوظيف اليوم في التدخّل الروسي في أوكرانيا. فتعلن روسيا أنها تخوض حربها هناك ضد الإرهابيين والنازيين، فيما يعلن الأوكرانيون أنهم ضحية لعمل إرهابي روسي.

والتخلّص من هذا الخلط يستوجب أمرين:

ـ تحييد السّياسيين عن تعريف الإرهاب والتخلّص من ألاعيبهم ونفاقهم. فيكون التّحديد فلسفيا بالأساس ضمن ميثاق فكري عالمي.

ـ تضامن المجتمع المدني الدولي لفضح النّفاق السياسي للفاعلين السّياسيين الذين يناصرون الإرهاب أو يوظّفونه لصالحهم ويحرّكونه بخيوط سريّة من وراء حجاب.