كتب

ماذا يجب أن يتعلم العرب من ثورات الشعوب الأخرى؟

الصعوبات الاقتصادية هي الأكثر قدرة على تحريك الشعوب للتغيير
الكتاب: "دراسة تحليلية للثورات"
الكاتب: كرين برنتون
ترجمة: عبد العزيز فهمي 
مراجعة: د. محمد أنيس
الناشر: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2011

يأتي يناير من كل عام ليذكرنا بأحداث الربيع العربي، الذي لا تزال جذوته متقدة في مختلف أنحاء العالم العربي وإن بصور مختلفة.. عندما هبت رياح التغيير في تونس أواخر العام 2010 وتمكنت الجماهير المنتفضة ضد الفقر والفساد والاستبداد من إسقاط الدكتاتورية، لم يكن يدور بخلد أحد من العرب ولا حتى من أصدقائهم، أن تمتد روح التحرر إلى باقي الأقطار العربية وتسقط أنظمة قوية وراسخة محليا وإقليميا ودوليا.. وهكذا تساقطت تلك الأنظمة شيئا فشيئا فاتحة الباب لصفحات جديدة من العمل السياسي الذي لم يصل بعد إلى بر الأمان لجهة الترسيخ لانتقال ديمقراطي راسخ الأركان.

ومع أن قراءات كثيرة ترى في سوء الأوضاع العربية في الأعوام الأخيرة التي تلت اندلاع الاحتجاجات العربية دليلا على سوء تقدير وربما شهادة واقعية على فشل الثورات، إلا أن قراءة متأنية لتاريخ التغيير في مختلف أنحاء العالم يثبت أن الثورات في مجملها تعيش في مراحلها الأولى كبوات بسبب تمسك السلطة العميقة بالدفاع عن مصالحها إلى آخر رمق.. لكن التغيير في النهاية يتأسس على هذا التدافع وعلى صلابة المؤمنين بالحرية والكرامة والعدالة والمساواة.

من هنا تأتي أهمية عرض كتاب "دراسات تحليلية للثورات" للكاتب كرين برنتون، الذي يقدم رؤية تحليلية للثورات التي غيرت واقع المنطقة العربية بشكل كامل، متناولا أسباب هذه الثورات وعوامل نجاحها وما تحدثه في المجتمعات من تغيرات جوهرية، وهو الكتاب الذي قام بترجمته عبد العزيز فهمي وراجعه د.محمد انيس.

النقطة الأهم في هذا الكتاب، هو ربطه قيام الثورات بالعوامل الاقتصادية المتردية في النماذج التي تناولها في دراسته، وهو معطى أساسي في فهم الثورات واتجاهاتها ليس فقط في الولايات المتحدة الأمريكية وباقي دول العالم الغربي، وإنما أيضا في ثوراتنا العربية المترنحة في أكثر من بلاد عربية.. والتي أضافت لها تداعيات جائحة كورونا ثم الحرب الروسية ـ الأوكرانية مزيدا من الصعوبات، هذا فضلا عن سوء الإدارة كما هو الحال في مصر وتونس ولبنان كنماذج بارزة في هذا السياق، حيث تشهد مجتمعات هذه البلاد حالة من الغليان بسبب تردى اقتصادها وهناك نبوءات بانفجار مجتمعي بها وهو ما عالجه الكتاب وكأن كاتبه يعيش معنا.

الثورات الأربع

يتناول الكتاب من خلال تسعة فصول الثورة ومعناها وأسبابها ومراحلها المختلفة، متخذا من الثورات الأربع نموذجا: الإنجليزية والأمريكية والفرنسية الكبرى والروسية .

وفي المقدمة يلقي الباحث، وهو أستاذ جامعي ومؤرخ أمريكي، الضوء على المعاني المختلفة لـ "لفظ الثورة"، سواء ما تعلق منها بالتغيير المباشر للأوضاع الاجتماعية من حال إلى حال، أو بما يحمله اللفظ من دلالات عاطفية فضفاضة وفق تعبيره.

يقول الباحث: "إن هدفنا المتواضع في الدراسة التالية.. مثلما قد يفعل العالم محاولة إيجاد بعض الشبه بين أربع من الثورات الناجحة في دولة حديثة ـ الثورة الإنجليزية سنة ١٦٤٠، الثورة الأمريكية، الثورة الفرسية الكبرى، والثورة الحديثة في روسيا .

وفي بقية المقدمة يتناول الكتاب عدة نقاط أخرى تتعلق بالعناصر المجردة للمناهج العلمية التي اتبعها في دراسته هذه.

الأزمات الاقتصادية تفجر الثورات

أما الفصل الثاني الذي يتناول فيه الأنظمة القديمة من خلال عنوان فرعي "تشخيص العلامات الأولية"، مؤكدا أنه حين يتم تطبيق هذه العبارة على فرنسا كمثال، فإنها تشير إلى طريقة الحياة في الأجيال الثلاثة أو الأربعة التي سبقت ثورة ١٧٨، وبخاصة اخر هذه الأجيال.

ثم يتناول الكاتب في هذا الفصل الأوضاع الاقتصادية والسياسية في البلاد التي شهدت هذه الثورات بقوله  "إن المجتمعات الأربعة التى ندرسها شهدت السنوات التي سبقت اندلاع الثورة فيها مشكلات اقتصادية أو على الأقل مالية من نوع  خطير إلى حد غير عادي، متناولا في هذا الإطار الوضع في أمريكا قبل الثورة كان شعار.. لا ضرائب دون تمثيل.. سببا رئيسيا في هذه الثورة حيث كانت الضرائب سببا مباشرا، بل هي الرصاصة التي انطلقت وتحدت كل القوانين .

أما في فرنسا فقد كانت الحال المالية السيئة هي التى أدت إلى دعوة مجلس طبقات الأمة بفرنسا وعجلت بقيام الثورة هناك، وفي روسيا فكانت المجاعات والأوبئة والمحاصيل السيئة والتي كانت قومية في انتشارها وكانت مصحوبة باضطرابات، وفي بريطانيا كانت الأمور تقترب من هذه الأوضاع، حيث النقاط السوداء في سياسة الحكومة البريطانية غير المستقيمة والمترددة بحسب وصف الكاتب، حيث قانون التمغة  وما تنقله من اضطرابات، وكذلك إعلان العزم  على تنفيذ قانون الملاحة مما كان له آثاره السلبية وتسبب في خروج الناس من أعمالهم وغضبهم الشديد.

ويسوق الكاتب أسبابا أخرى للثورة من بينها عدم نيل جماعات أصحاب المشروعات على ما يريدونه من حفاظ على مكاسبهم وأكثر، كذلك ضغط جماعات المصالح وغيرها من العوامل الأخرى التي تحرض على الثورة .

ومن عوامل وعلامات الثورة أيضا، هروب المثقفين، مشيرا إلى العلاقات المتوترة بين المثقفين ونظم الحكم التي قامت عليها الثورات الأربع، معللا ذلك بأنه عادة في المجتمع غير المستقر يوجد عدد أكبر من المثقفين يهاجمون الأنظمة القائمة ويتحرقون شوقا إلى حدوث تغيير كبير في المجتمع والأعمال والحكومة.

وفي سياق ملامح ومقدمات الثورة يشير الكاتب هنا إلى الطبقات وما يمكن أن يحصل بينها من العدوات، حيث الصراع بين طبقتين هما الإقطاع والبرجوازية في هذه المجتمعات، أو بين البرجوازية والبروليتاريا، وهو صراع مستوطن في المجتمعات الغربية مثل العنف وغيره من أنواع الصراع.

شهر العسل

وفي الفصل الثالث يناقش  الكاتب المراحل الأولى للثورة وهو عنوان هذا الفصل، مؤكدا على أن السنوات التي تسبق اندلاع الثورات تشهد سيلا من الاحتجاجات ضد طغيان الحكومة وتفجرا في نشاط الجماعات الضاغطة صاحبة المصلحة، وأن الحكومة لا تستطيع أن ترتفع إلى المستوى الذي يطالب به خصومها، وأن محاولاتها الطاغية لكبح المعارضة الثائرة تفشل، لأن المعارضة مزودة بقدر من المعلومات ولها أشخاص في صفوف السلطة .

ثم يعرج الكاتب على باقي المراحل في هذا الفصل منها مرحلة العفوية، التخطيط ثم مرحلة القوة ودورها في الحسم سواء لصالح السلطة وقمع الثورة، أو لصالح الثورة لسيطرتها على القوة أو انحياز القوة لها متمثلة في الجيش أو أي قوات أخرى. ثم ينهي الفصل بمرحلة أخيرة اسماها شهر العسل حيث انتصار الثوار وهزيمة العهد القديم .

 ويأتي الفضل الرابع شاملا عدة عنوانين فرعية مثل العبارات المبتذلة ووصف الثوريين بأنهم حاملين لجراثيم الثورة، وعنوان فرعي آخر عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي ودوره في تفجير الثورات كما يتناول ما أسماه بالجانب الخلفي والاستعداد ويختم الفصل بعنوان اخير يلخص فيه ما سبق بقوله: "يتعين أن يكون واضحا الآن أن الأمر يكاد يستلزم أنواعا عديدة من الرجال والنساء لصنع ثورة مثلما يستلزم صنع هذا العالم"، ص126.

حكم المعتدلين والمتطرفين

وتحت عنوان: "حكم  المعتدلين" يتناول الكاتب خلال هذا الفصل دور المعتدلين وحكمهم وأسباب فشلهم تحت عدة عنوان فرعية، من قبيل حكم المعتدلين في الثورات الأربع التي تناولها الكتاب وتسلمهم السلطة من الحكومات السابقة وهذا هو مضمون الفصل الخامس .

وخلال هذا الفصل تناول عدة عنوان أخرى تتعلق بالمعتدلين من قبيل الأحداث خلال حكم المعتدلين، والسيادة الثنائية طارحا نماذج بالثورات المشار إليها وينهي الكاتب هذا الفصل بالإشارة إلى مواطن ضعف حكم المعتدلين وفشلهم  الذين كان سببه الظروف المحيطة بهم التى شوهتم ،بالإضافة إلى الخصوم غير الشرفاء بحسب الكاتب ص 154.

من الحقائق المشاهدة أنه كان في كل مجتمعاتنا ازدهار، وإنجازات ثقافية رائعة ومتنوعة بعد الثورات، وليس لنا بالتأكيد أن ننظر كثيرا من وجهة النظر الأخلاقية إلى مظاهر الغباء والقسوة للثورات ولا أن نلطخ أيدينا بفظائعها
وفي المقابل يتناول الكاتب حكم المتطرفين بالفصل السادس، مشيرا إلى عدة نقاط في هذا السياق منها انقلاب المتطرفين على المعتدلين، وهو ما يحدث عندما يتم التخلص من العهد القديم أي ما قبل الثورة، ويشير هنا إلى تنظيم المتطرفين فرغم قلة عددهم إلا أنهم يكونوا منظمين وهذا يساعدهم على تحقيق هدفهم وهو ما حدث بالثورات الأربع محل الدراسة.

ويستمر الفصل في تناول حكم المتطرفين واستغلالهم كل الخلافات الهامة بين الجماعات وتدعيم موقفهم لإقامة نظام مركزي للسلطة، وهنا يقول الكاتب: "يستطيع المتطرفون أن يسيروا في تطرفهم كما يشاءون، فلا أحد يجرؤ على تحديهم"، ص 188.

وفي الفصل السابع والثامن  يتناول الكاتب ما أسماه عهود الإرهاب والفضيلة من خلال عدة محاور منها انحراف الإرهاب والإرهاب المراقب من الخارج والإرهاب المراقب من الداخل والأشياء التي تصنع الإرهاب.

ملخص أعمال الثورات

وفي الفصل الثامن تحديدا يثير فكرة أخرى اسماها "الثرميدور ونهاية عهد الإرهاب" ويقصد بكلمة "ثرميدور" هنا فترة النقاهة من حمى الثورة بحسب الكاتب، الذي يشرح هذه الفكرة من خلال عدة محاور منها رد الفعل الثرميدوري، العفو والفضيلة، عودة الكنيسة .

وينهي هذه الفكرة بالقول "عهد الثرميدور إذن ليس له بأي حال من الأحوال شيئا فريدا، قاصرا على الثورة الفرنسية التي منها يستمد اسمه، فقد وحدنا في مجتمعاتنا الثلاثة كلها التي خضعت للدولة الثورية كاملة أن خلقيا مشابها من حيث تركيز السلطة في يد طاغية أو ديكتاتور، وتسللا متشابها للنفعيين، وانقلابا متشابها في الشعور تجاه أولئك الذين صنعوا الارهاب وعودة مشابهة إلى العادات القديمة في الحياة اليومية ص 259.

وينهي الكاتب كتابه بملخص لأعمال الثورات وهو عنوان الفصل التاسع والأخير يلخصها الكاتب بقوله "يوجد تعميم كبير متردد يربط هذه الثورات الأربع بعضها ببعض يمكن القول به هنا استنادا إلى ما سبق أن ذكرناه في هذا الكتاب، فهذه الثورات الأربع تعد الإنسان العادي بأشياء كثيرة ووعود غامضة مثل "السعادة" الكاملة، ومحسوسة مثل الإشباع الكامل لكل الرغبات المادية، وليست الشيوعية إلا الحد الراهن لهذه الوعود الكثيرة".

ولكنه في المقابل يقول الكاتب: "فمن الحقائق المشاهدة أنه كان في كل مجتمعاتنا ازدهار، وإنجازات ثقافية رائعة ومتنوعة بعد الثورات، وليس لنا بالتأكيد أن ننظر كثيرا من وجهة النظر الأخلاقية إلى مظاهر الغباء والقسوة للثورات ولا أن نلطخ أيدينا بفظائعها".