كتب

الصلابي: مقّري قدّم رؤية مستنيرة لملامح المشروع الإسلامي في فقه الدولة

الصلابي: مقري كان مُنصفا لجهود المصلحين وعلماء الأمة وقادة الحركات التحريرية ضد الاستعمار والقوى الامبريالية والغطرسة الغربية.
حين انتهيت من مراجعة كتاب "الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور" للدكتور عبد الرزاق مقري، عقدت العزم على مراجعته وقراءته مرة ثانية (بإذن الله) لما فيه من جاذبية في فكرته، وروعة في موضوعاته، ومتعة في سرديته، وفائدة في طروحاته، وجدية في إحاطته ومقترحاته، وواقعية في مباحثه وغاياته، إنه دون شك، إضافة نوعية في دراسات الفكر السياسي الإسلامي وأبعاده الحضارية، وطريق منهجي للانتقال بالفكرة من الإعداد إلى التنفيذ، ومن الصحوة إلى النهضة، ومن المجتمع إلى الدولة.

لقد وفق الله بفضله وكرمه وإحسانه، مؤلفه المفكر والسياسي الجزائري الدكتور عبد الرزاق مقري، ليُقدم لأبناء الأمة ولحركاتها السياسية النشطة ولأبناء الإنسانية، هذا المنهل السياسي الصافي، والفكر الاستراتيجي الهادف، بقلمه السيال والمحايد في تناول أزمة الأمة وواقعها، وتطورات العصر وتحدياته.

في الفصل الأول " تحدي العبور"؛ قدم فيه حلولا مهمة لاستخدام العقل والذكاء والفكر في الانتقال من الصحوة إلى النهضة، وبالفكرة الإسلامية من المجتمع إلى الدولة، وعالج تحديات العبور.

وركز في الفصل الثاني "مسارات العبور" على بعض المفاهيم المتعلقة بفقه الدولة، وحسم الأمر بأن القيادة السياسية التي وصلت عن طريق الانتخابات هي صاحبة الأحقية، فالقيادة للحزب السياسي الذي نجح في الانتخابات ووصل إلى الحكم وليس للتنظيم، وضرب أمثلة قديمة وحديثة، وأصل في هذا الفهم، وحذر من خطورة أن القيادة تكون سرية.

ونَظَّر الدكتور لمسألة الرسالة والرؤية في فقه الدولة، وما معنى أن يكون الحزب حزبا إسلاميا، ونبه إلى أهمية السلوك والقدوة، والمرجعية الإسلامية والخلفية الإسلامية للمشروع الاقتصادي والدفاع عن الهوية وقضايا الأمة، وتحدث عن طرائق العبور، كالانتخابات والتحالفات والتوافقات والثورات الشعبية.

كما فصَّل في أنواع المؤسسات ومجالاتها الاستراتيجية، ووسع في هذا المجال وبيَّن أهميتها في النهضة، والمساهمة الحضارية للأمة، كالمؤسسات التربوية والدعوية والاجتماعية والإغاثية والشبابية والنسوية والنقابية والحقوقية، ومؤسسات الترف والفنون والرياضة والبحث العلمي، والمؤسسات الخادمة للقضية الفلسطينية، وتكلم عن المواصفات القيادية المعيارية.

وطرح في الفصل الثالث "مواضيع العبور"، مسائل وموضوعات حساسة، وذلك من خلال رؤية جمعت بين الأصالة والمعاصرة والتأصيل والانفتاح، كالعلاقة بين الدين والسياسية، ومفهوم الحضارة الإسلامية، ومدنية الدولة، والحكم الراشد، وقضايا الشورى والعدل، والديموقراطية، والربا والاقتصاد، ومشاركة المرأة والشباب، وقيمة العلاقات الدولية.

بيَّن الدكتور عبد الرزاق جهود الحركات الإصلاحية، وهو ما يدل على دراسة واعية وفهم عميق لمدرسة جمال الدين الأفغاني وسعيد النورسي وحسن البنا وابن باديس ومحمد رشيد رضا وأبو الأعلى المودودي (رحمهم الله).
وعلى الرغم من أن الأدبيات والدراسات الإسلامية التي بحثت في النظرية السياسية والفكر الإسلامي السياسي المعاصر وعوامل النهوض الحضاري قد فاضت لكثرتها، ولكن ما يجعل هذه الدراسة متميزة وذات أهمية بالغة، هو أن الدكتور عبد الرزاق مقري استطاع، وبما أعطاه الله من تجربة عملية (سياسية وبرلمانية وحزبية وفكرية) غنية وفريدة، واطلاع واسع على الأنماط والتجارب الإنسانية والإسلامية، التي وصلت بأفكارها إلى مرحلة بناء الدساتير الوطنية وتأسيس الدول الوطنية، بأن يُلخّص لنا أهم الدروس والعبر والفوائد في القرن العشرين الميلادي، وكان مُنصفا لجهود المصلحين وعلماء الأمة وقادة الحركات التحريرية ضد الاستعمار والقوى الامبريالية والغطرسة الغربية.

فضلا عن ذلك، فقد بيَّن الدكتور عبد الرزاق جهود الحركات الإصلاحية، وهو ما يدل على دراسة واعية وفهم عميق لمدرسة جمال الدين الأفغاني وسعيد النورسي، وحسن البنا وابن باديس، ومحمد رشيد رضا وأبو الأعلى المودودي (رحمهم الله).

ويرى الدكتور مقري، في كتابه، أهمية الاستفادة من أعمالهم الجليلة في التدين والوعي والثقافة والطرح الإصلاحي، وذلك من خلال العبور إلى منطق فقه الدولة الذي له مسارات وطرق ووسائل تحتاج للتطوير والتجديد. فالانتقال يكون وفق حسابات دقيقة واجتهادات رصينة وطروحات فاعلة، على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.

تحدث الدكتور مقري عن نضال الشعوب العربية والإسلامية، التي كانت تكافح وتدافع للحفاظ على هويتها وانتمائها الحضاري وقيمها الإنسانية والأخلاقية والدينية الرفيعة، حتى تجاوزت مرحلة الخطر، وفشلت المشاريع الغازية التي حاولت استلاب هويتها وانتمائها، وطمس معالم تاريخها وقيمها النابعة من الدين الإسلامي، وهو ما وضع الحركات والأحزاب الإسلامية، والتيارات الفكرية ذات المرجعية الإسلامية أمام تحديات ومخاطر حقيقية عند الوصول إلى الدولة، والعمل على ترسيخ النموذج المدني الديموقراطي، فهنا حذّر الدكتور المقري العاملين من مخاطر الفشل إذا لم يستخدموا فقه إدارة الدولة ومؤسساتها، وتوضيح برامجها الخدمية، والاستعداد الحقيقي القائم على الدراسة والتفحص، واستخدام العقل وقياس ظروف الواقع وتطوراته، والاستفادة من تجارب الشعوب والأمم والحضارات الإنسانية بمجملها.

تناول الدكتور مقري في كتابه سنن الفقه الحضاري، وتمكين الفكرة الإسلامية في الدولة بكل المجالات، وبيَّن أن النجاح في إدارة الحكم، ومن ثم تحدث عن النهضة الشاملة للدولة وشعبها، وفق سنن الله في التدافع الحضاري التي لا تجامل ولا تحابي، والتي يقطف ثمارها من أحسن التعامل معها.

إن فكرة الدكتور مقري في جوهرها هي الدعوة إلى بناء وتطوير الأنماط القيادية والتنظيمية، وتدعيم مؤسسات الدولة وإعداد المناهج، لتخريج كوادر جريئة ومخلقة وصادقة، يكون لديها القدرة على التخطيط والتنظيم والنهوض بالدولة وتطوير بنيتها الداخلية وعلاقاتها الخارجية، وكذلك الالتزام بقوانين صارمة في الأداء السياسي ونظام الحكم، ووسائل العمل السياسي وأسسه، حتى إنه رأى أهمية قراءة الفكرة الخلدونية حول العصبية وعلاقتها بالسلطة السياسية، ووسع مفهومها، فربطها بالثوابت الشرعية وتحديات الواقع الراهن؛ نظرا لقيمة الفكرة الإسلامية في استراتيجيات عمل الدولة، وأهمية اِلتفاف النخب حول القيادة السياسية، والعلاقة بين النخب والجماهير، وفئات المجتمع في ما بينها.

جال الدكتور مقري في كتابه القيّم بعوالم السياسية، وتحولات الفكر السياسي في التاريخ الإنساني الحديث وعلاقته بالانقلابات العسكرية والتدخلات الأجنبية والثورات الشعبية، وقد قام بتقديم خلاصات مهمة للمهتمين في ما يتعلق بالتحولات الديموقراطية والنماذج السياسية المعاصرة في العالم، وبيّن أنواعها وأنماطها، وشمل في حديثه عدة نماذج؛ مثل إسبانيا والصين وتركيا وماليزيا وغيرها.

الدكتور عبد الرزاق في كتابه "الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور"، قدَّم لنا رؤية مستنيرة ناضجة لملامح المشروع الإسلامي في فقه الدولة، ونهضة الشعوب الإسلامية، والاستشراف إلى دورها الحضاري.
ورأى الدكتور مقري بأنه لا يوجد تنظيم يغلب الدولة، ولا دولة تغلب الفكرة، وذلك في تنظير متماسك خاطب به العقل، واعتمد في آرائه على السياق التاريخي وحركة الدورات الحضارية، فإنه عرَّج على أهمية المجتمع المدني ودوره في النهضة، وحرص على التركيز على قيمة الهوية والقيم الأخلاقية والإنسانية، ودور الفضاءات الأربعة في ترسيخها، الأسرة والمدرسة والمسجد والمجتمع.

إن هذا الكتاب يدل على أن صاحبه ملّم إلماما شاملا بفكر الحركة الإسلامية، فهو أشار إلى ملامح وأصول النظرية السياسية في الحكم، ودعا المفكرين والنخب والعلماء للبحث والمطالعة والدراسة للوصول إلى مرتكزاتها، فقد دعا إلى تقديم نظرية إسلامية كاملة للدولة والحكم، والاستفادة من التجارب الناجحة والفاشلة إلى حد كبير.

والخلاصة؛ إن الدكتور عبد الرزاق في كتابه "الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور"، قدَّم لنا رؤية مستنيرة ناضجة لملامح المشروع الإسلامي في فقه الدولة، ونهضة الشعوب الإسلامية والاستشراف إلى دورها الحضاري، فقد نجح في تقديم كتاب متميز وذي قيمة علمية وفكرية في أفكاره وقراءته وتحليلاته واستشرافه المستقبلي، على صعيد بناء الدولة المدنية الحديثة ذات المرجعية الإسلامية، التي يمكنها أن تقوى وتثبت ذاتها، وتواكب التطورات العصرية، وهذا يجعله جديرا بأن يُدرَس ويدرَّس لأبناء جيلنا والأجيال القادمة في مشارق الأرض ومغاربها، وتُعقد حوله الندوات والحوارات للاستفادة منه، وإنضاج الأفكار التي طرحت فيه، فأنصح بنشره وطبعه وترجمته.

*من مقدمة الدكتور علي محمد الصلابي لكتاب "الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور".