كتب

صفحات من سيرة مولانا جلال الدين الرومي وفكره

جلال الدين الرومي ولد في عائلة أرستقراطية علمية يرجع نسبها إلى الخليفة أبي بكر الصدّيق
الكتاب: جلال الدين الرومي بين الصوفية وعلماء الكلام
الكاتب: عناية الله إبلاغ الأفغاني
الناشر: الدار المصرية اللبنانية ط8 القاهرة 2018.
عدد الصفحات: 445 صفحة.

1 ـ بين يدي الكتاب

يعد أثر "جلال الدين الرومي بين الصوفية وعلماء الكلام" للباحث عناية الله إبلاغ الأفغاني (1930 ـ 2019) من أهم ما كتب حول تصوف "العلامة جلال الدين" عرضا لسيرته وبسطا لآرائه الصّوفية. ومنه نقدّم هذه الورقة. ونركز خاصة على الشّطر الأول منه الذي يعرض تجربته الصوفيّة.

 هو محمد جلال الدين محمد بن محمد البلخي ثم القوني، المعروف بالرومي (604 ـ 1207/ 672 ـ 1273) اشتهر بمولانا بعد وفاته. عاصر الشيخ نجم الدين الرازي والشيرازي وابن عربي. وتتلمذ على محمد بهاء الدين ولد، الملقب بسلطان العلماء وبرهان الدين محقق الترمذي وشمس تبريز.

2 ـ نشأة جلال الدين الرومي

نشأ الرّجل في بيئة تشجع على العلم والمعرفة. فبلخ التي تصل بين ما وراء النهر والفرس والقارة الهندية كانت ضالعة في الحضارة والثقافة منذ العصور المبكرة. وبعد أن وصلها الإسلام اختلطت فيها العلوم بالفلسفة الفارسية. وتخرّج من مدارسها علماء اشتهروا بالعمق الفكري. وأدخلت الفلسفة إلى مدارسها وفيها اشتهرت آراء ابن سينا والفارابي وألم بها العلماء. ونشأت اتجاهات فلسفية وصوفية وكلامية متكاملة حينا متباينة متصارعة حينا آخر.

ولمعارف جلال الدين الرومي معين آخر بكل تأكيد، هو التصوّف الذي يعرّفه الباحث بكونه طريق العلم والمعرفة والسلوك الذي يقرّب الإنسان إلى الله. ويختلف فهمه باختلاف الثقافات. فهو من منظور هندي أو فارسي أو مسيحي [الالتزام بالصفات الحميدة التي أوردتها الأديان في رسالتها] أو [الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق] أو [دوام العمل للوصول إلى الحق على حال لا يعلمها إلاّ الحق]. أما تعريفات المسلمين فيمكن اختزالها في كونه [أن لا يملك المرء شيئا ولا يملكه شيء] أو [ترك حظّ النفس] أو [أن يختصّ الله المرء بالصّفاء] أو [استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريده] أو [ضبط المرء حواسه ومراعاة أنفاسه والجلوس مع الله بلا همّ] أو [التبرؤ عمن دونه والتّخلي عمن سواه]. ويعرفه الباحث في مواطن أخرى من أثره بكونه عملا مبنيا على العلم وقطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة والتحلّي بالفضائل والعبادات والتخلي عن الرّذائل التي ورد ذكرها في القرآن.

وفي تدقيقه هذا حرص الباحث على تمييز التصوف الإسلامي الصافي من التصوف الذي "تأثر بديات أو أفكار أو ممارسات ليست من جوهر الدين الإسلامي".

3 ـ جلال الدين الرومي بين التأثّر والتأثير

ولد جلال الدين الرومي في عائلة أرستقراطية علمية يرجع نسبها إلى الخليفة أبي بكر الصدّيق. وكان لوالده بهاء الدين الملقب بسلطان العلماء أثر كبير في تكوين شخصيته. وبعد النهل من علوم العصر وتبحره في علم العربية وعلوم الدين حصل على إجازة التدريس. فأقبل عليه الناس ليتلقوا منه المعارف وأخذ يشرح لتلاميذه حقائق التصوف. فعُرف مفتيا، مرشدا صاحب حلقة علمية يختلف إليها كبار المثقفين عصرئذ. ثم يختلف هو ليلا إلى صومعته يذكر الله ويشتغل بالأوراد.

تعمق جلال الدين الرومي في موضوعات صوفية وكلامية مختلفة وخاض في دقائق من علوم التفسير والحديث والفقه. ولكن مدار مباحثه الأبرز تناولت العشقَ باعتباره محرّكا للإنسان ومحفّزا له والمعرفةَ باعتبارها سبيلا للتوحيد الحقيقي والفناء الصوفي والبقاء بعد الفناء
ومن مظاهر زهده وتواضعه عدم حماسته لظهور مصنفه "المعارف". فلم ينتشر إلا بعد وفاته بعد أن جمعه تلاميذه ممن كانوا يواكبون مجالسه التصوفيّة ويشاركون في مناقشات معارفه التي أغناها من اطلاعه على آثار الشاعرين الصّوفيين حكيم السنائي الغزنوي والشيخ فريد العطار.

وفي وقت لاحق تعرّف جلال الدين الرومي إلى شمس الدين التبريزي، ذلك المتصوّف القائل بأهمية القلب في إدراك الحقائق والمؤمن بأن الإسلام ثورة مستمرة في داخل المؤمن تفتر حينا وتشتدّ حينا آخر والباحث عن "الفناء والانخلاع عن الوجود الذّاتي". فأخذ منه بعلم الحال والأذكار والخلوة. وتأثرًا به بدأ ميله إلى العلوم الباطنية يبرز.

وفي الأخبار أنّ شمس الدين قد سأله عن الغرض من الرياضيات والعلوم؟ ولمّا ردّ جلال الدين بأنه الاطلاع على آداب الشرع. [قال شمس الدين: لا بل الوصول إلى المعلوم، وذكر قول الصوفي المعروف حكيم السنائي: "إن العلم لم يجرّدك من نفسك، فالجهل خير منه" وبذلك تغيّر جلال الدين وكأنه صار هدفا لشمس الدين برميته]. فجعل من المدرّس صوفيّا منزويا عن النّاس مردّدا "إنّ الشمس هو الذي أراني طريق الحقيقة، وهو الذي أدين له في إيماني ويقيني". وسخّر جلال الدين الرومي ابنه بهاء الدين (المعروف ببهاء الدين ولد) لخدمة مرشده وليأخذ منه. حتى قال شمس: "أعطيت رأسي لمولانا (يريد جلال الدين) وأعطيت سري لابنه بهاء الدين". ولكن شمسا سيُقتل لاحقا من قبل مريديه وفق رواية أولى أو من قبل ابنه في رواية ثانية بتهمة الإساءة إلى جلال الدين الرومي.

وهربا من القائد المغولي جنكيز وأعوانه هاجر من أرض البلخ مع أسرته وجمهرة من تلاميذه وأصدقائه إلى بغداد ثم إلى تركيا. وهناك سيبدأ مرحلة جديدة من حياته الرّوحية وسياحته الصوفية.

4 ـ مؤلفات جلال الدين الرومي

تعمق جلال الدين الرومي في موضوعات صوفية وكلامية مختلفة وخاض في دقائق من علوم التفسير والحديث والفقه. ولكن مدار مباحثه الأبرز تناولت العشقَ باعتباره محرّكا للإنسان ومحفّزا له والمعرفةَ باعتبارها سبيلا للتوحيد الحقيقي والفناء الصوفي والبقاء بعد الفناء أي التجرد عن الصفات الخاصة والفناء في الصفات الإلهية والبقاء عليها. وفضلا عن رباعياته وأثره "المجالس السبعة" ومجموعة من الرسائل صنّف مولانا جلال الدين أثرين مميّزين هما "المثنوي" و"فيه ما فيه".

أ ـ المثنوي

يتكون "المثنوي" من ستة مجلدات ويحوم شكّ حول مدى صدقية انتساب المجلد السابع له. و"المثنوي" مصطلح شعري يشير إلى طريقة مخصوصة في النّظم كما تدلّ اللزوميات على اتباع المعري لزوم ما لا يلزم في شعره. فيكشف الأثر الذي يتناول الأخلاق والتصوّف عن شاعر عبقري متأمل.

مما جاء في خطبة الكتاب قوله "هذا كتاب المثنوي وهو أصول أصول أصول الدين في كشف أسرار الوصول واليقين، وهو فقه الله الأكبر وشرع الله الأزهر وبرهان الله الأظهر.." والمراد بأصول الدين حسب الباحث ما يرتبط بالعقيدة والمراد بأصول الأصول الكتابُ والسنة. أما أصول أصول أصول الدين فيتعلّق بعلم الحقيقة. وحقيقة الشريعة من هذه الزاوية هي المعرفة الصوفية المؤدية إلى اليقين وإلى التجليات الإلهية والجذب الصّوفي. يقول جلال الدين الرومي في متن الكتاب شارحا أصول أصول أصول الدين "القرآن له ظاهر وباطن. ونحن نستمسك بالباطن لا الظاهر، فنأخذ الأصل الأصيل ونترك القشر للآخرين".

العشق في الاصطلاح هو الحب المفرط وعند جلال الدين الرومي "الحب الذي يجلب الصوفي إلى مشاهدة الأنوار والفناء عن الذات" ويعرفه إلى ذلك، بكونه محرّكا أول لكل حركة ويجعله سببا للوصول إلى مدارج الكمال. ويروي قصصا عذبة ومغامرات مستلذة بين العشّاق، تهدف جميعها إلى بيان فهمه للعشق ومداره على أنّه ممكن التّعلق بالواحد الحي
ويشرح الباحث عناية الله إبلاغ الأفغاني وصف جلال الدين الرومي أثره بكونه "فقه الله الأكبر". فمادته تتعلّق بتصفية القلوب واستخلاص النّفس ومن هنا مأتى نبله. أما فقه البيع والشراء والطلاق وغيره فهو الفقه الأصغر. وأما وصفه لأثره بـ"برهان الله الأكبر" فذلك لأن الكتاب يورث النور الذي به يعرف الإنسان ربه. وإجمالا تكشف الخطبة عقيدة العلامة جلال الدين الراسخة بالقضايا الصوفية ضمن علم يسمى بعلم الحقيقة والحال.

بـ ـ  "فيه ما فيه"

جاء كتاب "فيه ما فيه" في خمسة فصول أربعة منها باللغة العربية واستعمل خامسها العربية والفارسية في آن. يشتمل هذا الأثر على الأمثال والمواعظ والقصص بطريقة بسيطة، مقارنة بكتاب المثنوي، فلا يحتاج إلى الشروح والتفريعات. ويقدّر عناية الله أنّ جلال الدين الرومي قد كتب المثنوي لخاصة الناس وألّف "فيه ما فيه" لعامتهم. ومن وجوه التبسيط في الأثر قوله في التمييز بين الخير والشر [إرادة الشر إنما تكون قبيحة إذا أراده [الإنسان] لعينه أما إذا أراده لخير لا يكون قبيحا. قال تعالى: "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ" [سورة البقرة 179] لا شك بأن القصاص شرّ وهدم بنيان الله تعالى، ولكن هذا شرّ جزئي"]. ومن الأشعار التي تضمنها الأثر [إني لأشكو خطوبا لا أعيِّنها °° ليجهل الناس عن عذري وعن عذلي] ـ كالشمع يبكي ولا يدري أعبرته °° من صحبة النار أم من فرقة العسل] ومن الأمثلة التي اشتمل عليها قوله "إذا تخرّق ثوب الفقير انفتح قلبه" أو "استوى عند العارف الدانق والدينار والأسد والهرة".

5 ـ جلال الدين الرومي والعشق الصوفي والحب الإلهي

يتبنى "مولانا" العشق الصوفي مذهبا. والعشق في الاصطلاح هو الحب المفرط وعند جلال الدين الرومي "الحب الذي يجلب الصوفي إلى مشاهدة الأنوار والفناء عن الذات" ويعرفه إلى ذلك، بكونه محرّكا أول لكل حركة ويجعله سببا للوصول إلى مدارج الكمال. ويروي قصصا عذبة ومغامرات مستلذة بين العشّاق، تهدف جميعها إلى بيان فهمه للعشق ومداره على أنّه ممكن التّعلق بالواحد الحي، فيخالف القائلين بعدم صحة إطلاق العاشق على العبد إذا كان محبوبه هو الله. فالعشق الحقّ هو عشق العبد لمولاه، فينبع عن العرفان والوجد الصوفي واستنارة أنوار الحق.

وإجمالا جعل جلال الدين الرومي من التصوّف منبعا لفنه الشعري. ولم يكن تصوّفه سلبيا، ينصرف عن الحياة وينعزل عنها فقد كان حكيما أخلاقيا وصوفيا. ولكنّ عشقه الصوفي دفعه إلى ترك التدريس وعلم الظاهر لعلم الباطن. يقول في رباعياته: "عندما اشتعلت نيران الحبّ في صدري أحرق لهيبها كل ما كان في قلبي فازدريت العقل الدّقيق والمدرسة والكتاب، وعملت على اكتساب صناعة الشّعر وتعلمت النّظم".

6 ـ مقتل شمس الدين التبريزي وأثره في جلال الدين الرومي

مثل لقاء بين جلال الدين الرومي بشمس الدين التبريزي منعطفا في حياته. فقد كان سببا في تركه لحلقة التدريس وصيّره درويشا منزويا. وهذا ما أثار حقد تلاميذه عليه وجعله يترك قونية إلى الشام. ولكنّ مولانا اكتأب لفراق صديقه وهذا ما دفع ابنه سلطان للبحث عنه في دمشق ليعيده إلى قونية. ولكن مقام التبريزي لم يدم طويلا، ليعاود الرحيل من جديد. ولمّا أتاه خبر مقتله في الظروف التي أتينا على ذكرها سابقا ردّ قائلا: "من ذا الذي قال إنّ شمس الروح قد ماتت؟ ومن الذي تجرأ على القول بأنّ شمس الأمل قد تولّت؟ إن هذا ليس إلا عدوّا للشمس". ثم نظم ديوانا كاملا باسمه وأشار إليه في غزلياته بالاسم (شمس الدين أو شمس) "وبذلك"، يقول عناية الله إبلاغ الأفغاني، "يظهر شيء من منهج جلال الدين في التّصوّف، إذ يميل إلى الحبّ والوجد ويجعل من وجده وسيلة للوصول إلى مدارك الكمال، بطريق يركّز وجده في شخص صوفي يعدّ نموذجا للجذبات الصّوفية".