شكل الثلاثون من كانون الثاني (يناير) عام 2018، نقطة تحول في مسار الأزمة السورية، ففي هذا التاريخ أقر البيان الختامي لمؤتمر سوتشي بتشكيل لجنة دستورية مهمتها تعديل الدستور أو وضع دستور جديد بالكامل.
لكن مع إبعاد قضايا الحكم عن المفاوضات والاقتصار على الدستور فقط، فقد أطلق البيان الختامي مسارا تفاوضيا لا يخضع لسقوف زمنية ولا لسقوف سياسية، مسارا سيكون محكوما بقواعد ومنطوق العلاقات الدولية أكثر منه بقواعد الحل الديمقراطي.
منذ ذلك التاريخ أدرك النظام السوري جيدا أن مسار التفاوض الدستوري قد وضع كتعويض عن عجز المجتمع الدولي في فرض شروط الحل عليه، ولذلك فقد قبل بالمشاركة في اللجنة الدستورية ومباحثاتها التي تتطلب سنوات طويلة كي تتوصل إلى تفاهم ما.
وهكذا، أصبحت مفاوضات الدستورية مجرد اجتماعات شكلية يحرص المجتمع الدولي على استمرارها بغض النظر عن نتائجها، ذلك لأن غياب المسار السياسي يعطي إشارات دولية بعدم الاهتمام بالحل السوري، الأمر الذي قد يدفع أطرافا دولية وإقليمية (روسيا، إيران) إلى فتح مسارات سياسية للحل ذات طبيعة أحادية.
إن استمرار مفاوضات جنيف برعاية أممية هو الذي منع إلى الآن نشوء مسارات فرعية فاعلة تكون بديلا عن المسار الأممي.
لكن، مع غياب استراتيجية أممية للحل في سوريا، ومع كثرة الفاعلين الأقوياء في الشأن السوري، فقد أصبح الصراع بين الأطراف يُختزل في مقولة الصبر الاستراتيجي: الولايات المتحدة وحلفاؤها يعولون على العقوبات الاقتصادية كأداة ضغط على النظام السوري من أجل تقديم تنازلات سياسية، وروسيا وحلفاؤها يعولون في امتصاصهم تداعيات العقوبات الاقتصادية على حصول متغيرات في المقاربة الأمريكية، إما حيال الملف السوري بشكل خاص، أو حيال الملف الإيراني الذي سينعكس إيجابا على النظام السوري بطريقة أو بأخرى.
وهذا هو التحول الذي ينتظره النظام السوري وروسيا وإيران، وقد بدأت بوادر هذا التحول في الظهور، ولعل ما جرى في اليمن ما يقوي عزيمتهم وصبرهم على العقوبات الاقتصادية، حين قررت إدارة بايدن وقف دعمها للحملة العسكرية التي تقودها السعودية والتفكير في إبعاد الحوثيين عن قائمة المنظمات الإرهابية.
سيبقى الملف السوري في طور الستاتيكو الاستراتيجي لفترة من الزمن تمتد لسنوات، فلا روسيا قادرة على ثني الدول الغربية لتغيير مواقفها، ولا الولايات المتحدة بصدد فعل ذلك تجاه روسيا، وستستمر إدارة بايدن في تتبع المسارات التي وضعتها إدارة ترامب، والتغيير الذي سحصل سيكون على صعيد التكتيكات الصغيرة
ما جرى في اليمن من جهة، وما يجري من عمليات أخذ وجذب بين الولايات المتحدة وإيران حيال الاتفاق النووي من جهة ثانية، يجعل النظام السوري وحلفاءه يتعنتون في مواقفهم السياسية أكثر، فما حدث في اليمن قد يحدث في الملف السوري.
المقاربة الروسية تقوم على النحو الآتي: طالما أنه لا يوجد عمل عسكري غربي ضد النظام السوري، وطالما أنه ليس بإمكان روسيا وإيران تغيير معادلة شرق الفرات، فإن الحل يكمن في تفادي انهيار النظام السوري اقتصاديا بما يؤدي إلى ثورة داخلية تنبع من الفئة الرمادية التي تقف في الوسط بين النظام والمعارضة، في الوقت الذي تقوم فيه روسيا باللعب على الهوامش المتبقية، مثل دفع الأكراد إلى الاقتراب نحو النظام أو دفع النظام للاقتراب من الرؤية الكردية حيال مسألة اللامركزية، ثم العمل على إجراء تحالفات جانبية في صفوف المعارضة، مثل بعض المستقلين وبعض المنصات، بما يدفع فئات من المعارضة إلى الضغط على الائتلاف من أجل تقديم تنازلات سياسية.
لكن المقاربة الروسية هذه ليست مبنية على معطيات استراتيجية، بقدر ما هي مبنية على انعدام الخيارات المتاحة، فمسألة حصول انفراط في عقد المعارضة وتقديمها تنازلات مسألة تندرج ضمن التمنيات السياسية لا ضمن المعطيات الواقعية، فبنية المعارضة من جهة، والموقف التركي من جهة ثانية، والمواقف الغربية من جهة ثالثة لا تسمح بحصول ذلك.
وفقا لهذه المعطيات، سيبقى الملف السوري في طور الستاتيكو الاستراتيجي لفترة من الزمن تمتد لسنوات، فلا روسيا قادرة على ثني الدول الغربية لتغيير مواقفها، ولا الولايات المتحدة بصدد فعل ذلك تجاه روسيا، وستستمر إدارة بايدن في تتبع المسارات التي وضعتها إدارة ترامب، والتغيير الذي سيحصل سيكون على صعيد التكتيكات الصغيرة، مثل رجحان كفة الموقف الأمريكي الجديد لصالح الأكراد على حساب تركيا في شرق الفرات بخلاف الموقف الأمريكي السابق الذي مال إلى تركيا على حساب الأكراد.
والمتغيرات التكتيكية في موقف الإدارة الأمريكية الجديدة تعكس غياب الاستراتيجية الواضحة خارج دائرة العقوبات الاقتصادية، وقد جاء تصريح المبعوث الأممي غير بيدرسون ليؤكد ذلك، حين قال إنه لا يمتلك خطة عمل للمستقبل.
*كاتب وإعلامي سوري
هل ينزل عباس والفصائل العتيدة عن الشجرة؟
أَلا إنَّه لا يَبني البِلادَ إلَّا أَهْلُها