الشعب المصري معروف بين كل الشعوب بأنه شعب: ابن نكتة، الفكاهة في دمه، في أفضل الأوقات، وفي أحلكها؛ لا تنفك عن شخصيته، يتغلب بها على آلامه، ويزيد بها أفراحه، وقد درس النكتة عند المصريين كتاب كثر، ولا تزال تحتاج لدراسات أكثر.
ولم يخل عهد من الزمن من استخدام المصريين للنكتة، سواء سجل ذلك أم لم يسجل، ومما وصلنا من العهد الأيوبي كتاب: الفاشوش في حكم قراقوش لابن مماتي، على ما في الكتاب من أكاذيب ضد قراقوش، ولكنه يبين كيف تؤثر النكتة السياسية في تناول الشخصيات ولو بالكذب.
ولأن معظم النكت السياسية شفاهة، فقل من يدونها، ولعل ذلك مخافة بطش السلطات بقائلها، أو ناقلها، فقد تسببت نكتة قالها الشيخ الشعراوي عن الرئيس عبد الناصر في عقاب الشعراوي بقرصة أذن وقد كان وقتها في المملكة العربية السعودية معارا من مصر إليها، والنكتة تقول: إن مصريا رأى امرأة تلبس سوادا من رأسها إلى أخمص قدميها، ومشى وراءها يغازلها، ويريدها رفع غطاء وجهها، ويقول دون أن يرى: يا جمال الطبيعة، يا جمال النبي، فلما رفعت غطاء وجهها ولم تكن جميلة، فقال: يا جمال عبد الناصر!!
وأطلق الشعب المصري النكات عن السادات، ومنها: أنه كان خارجا ذات مرة فقال لجيهان السادات زوجه: ناوليني السبحة والزبيبة يا جيهان، وفي ذلك سخرية من توظيف السادات السياسي للدين، وأن يصطنع ذلك، بما فيها السبحة، والزبيبة (زبيبة الصلاة هي موضع سجود الإنسان).
أما مبارك فقد كان أخصب عهد قال فيه الشعب المصري نكتا سياسية عن حاكم، بل عن نظامه نفسه، فلم يخل مشايخ مبارك من النكتة السياسية، بدءا بالشيخ سيد طنطاوي عندما كان مفتيا، ومرورا بمشايخ السلطة جميعا. وكان من أواخر النكت السياسية التي قيلت عن مبارك: أن البابا شنودة سأله: هل يمكن أن يكون في مصر وزير مسيحي؟ فقال مبارك: نعم، فسأله شنودة: وهل يمكن أن يكون في مصر رئيس وزراء مسيحي؟ فأجاب: نعم، فسأله آخر سؤال: وهل يمكن أن يكون في مصر رئيس جمهورية مسيحي؟ فأجاب مبارك: ولا مسلم وحياة أمك!!
النكتة السياسية بطبيعتها تعبير عن حالة لا يستطيع أن يجهر بها أصحابها، فهي متنفس، ومساحة لا يمكن للحاكم أن يحجبها، ولذا في ظل الدولة البوليسية في عهد السيسي وغيره، جاء الإعلام البديل، والمتوفر في منصات التواصل الاجتماعي وغيره، بديلا للتعبير عن النكتة السياسية،
حتى عهد الرئيس محمد مرسي، وفترة حكم الإخوان على قلة وقتها، صدرت فيها قليل جدا من النكت السياسية، ومنها: أن شابا يتبع البرادعي تزوج بفتاة تتبع الإخوان، وفي لحظة صفاء بينهما، سأل كل منهما الآخر عن مكانته ومقدار حبه للآخر، فقال الزوج: أنا أحبك بقدر تغريدات البرادعي على تويتر. فقالت زوجته: وأنا أحبك بقدر الوعود السياسية التي وعدناها ووفينا بها!
لكن الملاحظ أن عهد السيسي لا نكاد نجد النكتة القولية اللفظية موجودة فيه، فهل غابت النكتة السياسية؟
في تقديري أن النكتة السياسية لم تغب في وقت السيسي، بل تطورت وتحولت لوسائل أخرى، غير الوسائل التقليدية للنكتة، صحيح غابت النكتة السياسية بالمفهوم التقليدي، أن يتم توظيف موقف معين للحاكم، ويتخيل قائل النكتة فعلا للحاكم ربما لم يحدث، لكنه أقرب لعقلية الحاكم، فقد بدأت النكتة السياسية في التطور بعد ثورة يناير، وتطور أدوات التعبير عن الفكاهة السياسية.
كما أن هناك عاملا مهما في طبيعة السيسي، يجعل خيال أي مبدع في النكتة يتوقف، وهو أن الواقع الذي يقوم به السيسي فاق الخيال الذي يمكن أن يبدع به مطلق النكتة السياسية، فالآن ليس مطلوبا سوى أن تأتي ببعض لقطات فيديو للسيسي، أو لأي إعلامي أو شيخ يؤيده، وتقارن بين التصريحات، وتوضع الفقرات جنبا إلى جنب، لا يتوقف المشاهد عن الضحك، وهو ما يقوم به برامج متعددة الآن، سواء مخصصة لذلك، أو أصحاب قنوات على اليتوتيوب.
النكتة السياسية بطبيعتها تعبير عن حالة لا يستطيع أن يجهر بها أصحابها، فهي متنفس، ومساحة لا يمكن للحاكم أن يحجبها، ولذا في ظل الدولة البوليسية في عهد السيسي وغيره، جاء الإعلام البديل، والمتوفر في منصات التواصل الاجتماعي وغيره، بديلا للتعبير عن النكتة السياسية، ولكن بشكل آخر، يعتمد على كشف أكاذيب الساسة، ثم وضع ما قالوه من قبل، وما قالوه الآن، فأصبح الواقع هو المادة السياسية، الواقع بما فيه دون تغيير، أو إضافة، فالكاريكاتير مثلا يضاف فيه، والنكتة يضاف فيها، لكن الآن أصبحت الفكاهة معبرة عن الواقع بكذبه وتلونه وتلاعبه.
فمثلا: تجد فيديو للسيسي يقول فيه: وسنبني ونعمر، ويأتي في الخلفية: صور تدمير بيوت المصريين في سينا، أو فيديو قسمه أنهم لا مطمع للعسكر في حكم مصر، ثم يأتي بعده فيديو تقدمه بالترشح للرئاسة، أو التندر على رجال نظامه من الإعلام في موقفهم من دولة قطر قبل المصالحة الخليجية، ثم بعد المصالحة، وهكذا.
الشاهد: أن الشعوب لم تتخل عن النكتة السياسية، ولم تغب يوما عن الواقع العربي، بل تطورت من حيث الشكل والمضمون، ومن حيث وسيلة التعبير عنها، وأصبحت موجعة أكثر من النكتة القديمة، فالنكتة السياسية قديما كانت شفاهة وتسير على مستوى شعبي محدود، بينما النكتة السياسية الآن أصبحت أكثر وجودا وأثرا، وهو السلاح الذي يملكه الشعوب، ولا يملك الحكام أن يصادروه أو يمنعوه.
Essamt74@hotmail.com
حتى تكون المصالحة الخليجية في الاتجاه الصحيح!
وحيد حامد بين الإبداع الفني والإقصاء السياسي!!