أعاد السجال الدائر بين قيادات حركة "النهضة" التونسية حول مستقبل التداول على المناصب القيادية في إدارة شأن الحركة استعدادا لمؤتمرهم 11، إلى الواجهة مسألة التناوب على المناصب القيادية لدى التنظيمات الإسلامية بشكل عام.
والحقيقة أن هذا السجال المثار في تونس هذه الأيام، ليس هو الأول من نوعه، لا في تونس ولا في باقي التنظيمات المحسوبة على تيار الإسلام السياسي في المنطقة العربية والإسلامية.. لكن الجديد في هذا الملف أنه يأتي بعد نحو عقد من الزمن من اندلاع ثورات الربيع العربي، وانتقال الإسلام السياسي من المعارضة إلى الحكم، ومن السرية إلى العلن..
وعلى الرغم من أن عددا من الحركات الإسلامية تعاملت بسلاسة مع مطلب التداول السلمي على المناصب القيادية كما هو الحال في مصر والمغرب وموريتانيا وفلسطين مثلا، إلا أن هذا التداول لم يسلم من خدوش سياسية وأحيانا شخصية طبعت تاريخ الإسلام السياسي الحديث..
"عربي21"، تسأل: كيف تعاطى الإسلاميون مع مطلب التداول السلمي على المناصب القيادية في تنظيماتهم؟ وتبدأ من التجربة التونسية وتاريخية سؤال الديمقراطية التنظيمية في مسيرة حركة "النهضة".
سؤال الديمقراطية الداخلية.. لماذا الآن؟
في الوقت الذي تستعد فيه تونس ودول المنطقة لإحياء "الذكرى العاشرة للثورات العربية" ولمواجهة تحديات اقتصادية اجتماعية زادها وباء كورونا تعقيدا ،فجرت الاستعدادات للمؤتمر الحادي عشر لحركة النهضة التونسية جدلا قديما جديدا حول الحوكمة وبعض القضايا الفكرية والسياسية الخلافية التي سبق أن فتحتها خلال الأعوام والعقود الماضية عدة أحزاب حاكمة ومعارضة، من بينها الأحزاب العقائدية القومية واليسارية والإسلامية .
لعل أبرز هذه القضايا وأكثرها حساسية تلك التي تهم الانتخابات الداخلية والتداول على المسؤوليات والموقف من "التمديد" في المواقع القيادية للزعماء المؤسسين والعلاقة بين أجيال المناضلين، وإن كان التداول على المسؤوليات ضرورة وشرطا لتأكيد الصبغة الديمقراطية لأي كيان سياسي أم "مغامرة غير مأمونة العواقب" و"مؤامرة خطيرة تحركها أطراف خارجية تستهدف الاستثناء الديمقراطي التونسي".
وكشف هذا الجدل خلافا حول أولويات المرحلة القادمة: هل تكون لتداول البرامج والمخططات والاستراتيجيات أم للتداول على المناصب القيادية في الأحزاب بدءا من منصبي الرئيس والأمين العام مع الانفتاح على الشباب تنفيذا لمقررات المؤتمرات السابقة للحركة؟
وهل يشمل قانون التداول المواقع الرسمية للدولة فقط أم ينسحب كذلك على رؤساء الحركات والأحزاب السياسية والتنظيمات العقائدية؟
وهل سوف يؤدي احترام قاعدة التداول على المسؤوليات فعلا إلى التجديد والإصلاح أم تكون النتيجة معاكسة فيتراجع إشعاع الحزب أو الدولة بسبب انفجار الصراعات الداخلية على المواقع وعدم توفر "شروط" معرفية وسياسية عديدة في الفريق القيادي الجديد فضلا عن نقص الخبرة والكفاءة والتواصل مع المجتمع المدني ومع كبار صناع القرار الدولي؟
على صعيد آخر: هل تكون خلافات القياديين في الأحزاب العقائدية ـ وبينها حزب النهضة التونسي ـ عابرة وظرفية أم تتسبب في تصدعهم في صورة عجزهم عن فتح حوار داخلي صريح؟
وهل ما زال الباب مفتوحا "للتفاعل بهدوء ومع احترام الثوابت الأخلاقية" مع الرسالة المفتوحة التي أصدرها مائة من جيلي التأسيس الأول والثاني إلى زعيمهم التاريخي راشد الغنوشي حول التداول على المسؤوليات وأولويات المرحلة القادمة؟
أم يتسبب الفشل في إدارة الاختلاف هذه المرة في "تفجير التناقضات المجمدة بصفة مصطنعة" بما يؤدي إلى شل أغلب مؤسسات الحزب وتفككه ثم تأسيس "بديل" أو "بدائل" عنه على غرار ما حصل سابقا في عدة أحزاب سياسية وعقائدية يسارية وقومية وإسلامية في تونس وفي المنطقة؟
هل سوف يؤدي احترام قاعدة التداول على المسؤوليات فعلا إلى التجديد والإصلاح أم تكون النتيجة معاكسة فيتراجع إشعاع الحزب أو الدولة بسبب انفجار الصراعات الداخلية على المواقع وعدم توفر "شروط" معرفية وسياسية عديدة في الفريق القيادي الجديد فضلا عن نقص الخبرة والكفاءة والتواصل مع المجتمع المدني ومع كبار صناع القرار الدولي؟
يعتقد كثير من الباحثين في تطور الفكر الإسلامي وحركات "الإسلام الاحتجاجي"، مثل المفكر الفرنسي فرانسوا بورقات والمؤرخ والمفكر التونسي هشام جعيط أن "المراجعات الفكرية والسياسية" من بين شروط نجاح أو فشل مسارات التجديد والإصلاح والتداول بين البرامج والمخططات والزعماء والقيادات داخل الأحزاب ذات المرجعيات العقائدية، مثل حركة الاتجاه الإسلامي التونسية التي تأسست آخر السبعينات من القرن العشرين وتطورت منذ 1989 إلى "حركة النهضة" ومنذ 2011 إلى حزب قانوني يشارك في الحكم.
وقد تطورت "النهضة" من "حزب تبنى خطابا ثوريا راديكاليا" قبل 40 عاما ثم بعد انفجار الثورات التونسية والعربية في 2011 إلى "حزب براغماتي" تصالح، بعد المنعرج العسكري في مصر في 2013، مع "النظام القديم" و"النظام الدولي".
كما دخلت قيادة هذا الحزب بزعامة راشد الغنوشي في سلسلة مشاريع "شراكة" مع الزعيمين الجديدين "للمنظومة القديمة" الباجي قائد السبسي ونجله حافظ قائد السبسي ورفاقهما في حزب "النداء" بزعامة رجل الأعمال والإعلام نبيل القروي. ثم تحالفت النهضة مع "المتمردين" على قائد السبسي وابنه بزعامة رئيس الحكومة ومؤسس حزب "تحيا تونس" يوسف الشاهد ثم مع مؤسس حزب "قلب تونس" نبيل القروي. وتسبب تحالف قيادة النهضة مع القروي وحزبه بعد انتخاب منافسه قيس سعيد رئيسا للدولة بنسبة 73 بالمائة في تشرين الأول (أكتوبر) 2019 في سلسلة من الأزمات داخلها وفي علاقتها بمؤسسات الدولة.
وبعيدا عن مزايدات بعض قيادات حركة النهضة وخصومها خاصة منذ خروج خلافاتها حول "التمديد والتداول على المسؤوليات" إلى وسائل الإعلام، فإن السؤال الكبير الذي يفرض نفسه على الجميع: هل شهدت الحركة تراكما عقلانيا للرؤى والاستراتيجيات ومخططات العمل لتفسير سلسلة التغييرات التي أصبحت مقبلة عليها وتلك التي سجلت في مسارها خلال الخمسين عاما الماضية؟
تطورت "النهضة" من "حزب تبنى خطابا ثوريا راديكاليا" قبل 40 عاما ثم بعد انفجار الثورات التونسية والعربية في 2011 إلى "حزب براغماتي" تصالح، بعد المنعرج العسكري في مصر في 2013، مع "النظام القديم" و"النظام الدولي".
وهل أن الاستعدادات للتغييرات القادمة على رأس الحركة تحركها رؤية واستراتيجية أم سلسلة من الخلافات الشخصية والتنظيمية التي تراكمت ولم تحسم بسبب غياب آليات ومؤسسات واضحة للحوار ولـ "تفكيك الألغام" بعيدا عن المغالبة والإقصاء والإقصاء المضاد وعن خطابات التكفير والشيطنة؟
وهل بنيت مشاريع التغيير في القيادة وفي مستوى رئاسة الحركة من جهة وفي الإستراتيجية ومخططات العمل والمواقف على رؤية أوصل إليها تراكم التجارب والخبرات والنقد الذاتي الجماعي الجريء أم فرضتها عوامل أمنية وسياسية وشخصية وموازين قوى ظرفية؟
وهل بلغت الأحزاب العقائدية وبينها النهضة نضجا تبرره مراجعات فكرية وسياسية عميقة وعقلانية؟ أم أن محاولات "التغيير" كانت ولا تزال تعاقب القرارات مرتجلة ومتناقضة فرضتها "الصبغة السرية" للحركة وهياكلها والمستجدات الأمنية الوطنية والدولية وحملات القمع والمطاردة المتعددة الأشكال؟
في كل الحالات تبين أن الكثير من المراجعات العميقة التي قام بها الجيل المؤسس الأول والثاني ثم الجيل الثالث من القياديين والمناضلين تراجع تأثيرها في مراحل المحاكمات السياسية والمنفى، وبعد أن كثرت الحاجة إلى "المواقف البراغماتية" وإلى مسايرة "ضغوطات حلفاء الحركة" العرب والأجانب، عندما تقاطعت مصالحهم مع مصلحة تأمين مصالح أبناء الحركة في المنافي والسجون، أو مع مشاريع محاولة التمكين لها ومساعدتها على المشاركة في الحياة السياسية وفي مؤسسات صنع القرار الوطني أو الإقليمي.
تداول المرجعيات وتداول الزعامات
في هذا السياق يتابع كثير من الباحثين الأكاديميين والإعلاميين داخل تونس وخارجها باهتمام الحوارات الفكرية والسياسية والتنظيمية العلنية والداخلية، تحضيرا للمؤتمر القادم لحركة النهضة، بين من وصفهم راشد الغنوشي والمقربون منه في النهضة مثل خليل البرعومي بـ "الإسلاميين الديمقراطيين التونسيين".
ويقر أغلب القياديين المناصرين للغنوشي والمعارضين له من بين من صاغوا عريضة "المائة"، أن تقييم تجارب الحركة ومختلف قياداتها بعد نصف قرن كامل عن تأسيس "الجماعة الإسلامية في تونس" في 1972 أصبح ضروريا، وقد يقدم "إضافة فكرية سياسية وطنيا ودوليا". كما قد يكون فرصة لتحقيق ما أسماه المفكر ورئيس دائرة الثقافة في حركة النهضة والزعيم الطلابي السابق العجمي الوريمي "التجاذب الجيلي" (أي التجاذب بين ممثلي أجيال مختلفة) و"تنظيم التنوع للنجاح في معالجة أعراض أزمة نمو الحركة سياسيا وثقافيا حتى لا تتطور إلى أزمة وجود".
ويعتبر القيادي العجمي الوريمي من أكثر المدافعين عن مقولة "حاجة الحركة والبلاد للإبقاء على الزعيم راشد الغنوشي في قيادة النهضة"، لكنه يقر بكون "الانتقال القيادي من جيل إلى جيل جديد ضروري جدا، مع إمكانية القفز على جيل كامل"، بما يعني الانتقال مباشرة من الجيل المؤسس الأول إلى جيل الشباب والتحرر من "معارك الجيلين السابقين".
ويستدل الوريمي بمقولات الفيسلوف الألماني هيغل التي تؤكد على كون "الاندثار" يهدد الأطراف التي لا تتطور.
لكن عبد الكريم الهاروني الوزير السابق ورئيس مجلس الشورى ورفاقه المناصرين للتمديد للغنوشي مثل خليل برعومي رئيس دائرة الإعلام في القيادة المركزية يختلفون مع معارضيهم بزعامة الوزيرين السابقين سمير ديلو وعبد اللطيف المكي والخبير الاقتصادي محمد النوري حول آليات هذا التقييم وأهدافه: هل يكون علنيا ويناقش في وسائل الإعلام أم داخل مؤسسات الحركة بعيدا عن أعين "الخصوم" و"المتربصين"؟
معركة خلافة الرئيس
وينفي محمد النوري القيادي في النهضة وأحد مهندسي "عريضة المائة" تمسكه ورفاقه "من معارضي التمديد لزعيم الحركة" بافتعالهم أزمة سياسية بسبب ما عرف بـ "معركة خلافة الغنوشي"، وأورد أنه ورفاقه اقترحوا على الغنوشي تعيينه على رأس "هيئة حكماء" أو أي موقع شرفي آخر لضمان الاستفادة من خبرته ورصيده مع احترام القانون الداخلي للحركة وخاصة الفصل 31 الذي حدد منذ المؤتمر الثامن المنعقد في لندن عام 2007 مدة رئاسة الحركة بالنسبة لأي شخصية بـ10 أعوام.
وأورد عبد الفتاح مورو نائب رئيس الحركة السابق أن الاختلافات الحالية في تقييم استراتيجيات الحركة وأداء قياداتها برزت بقوة داخل السجون وبين كوادرها في المنافي.
وأكد كوادر من حركة النهضة في أوروبا بينهم عبد الرؤوف الماجري والأزهر عبعاب وعلي قعليش ومحمد النوري، أنه سبق أن وقع توثيق تلك الخلافات حول "الانتقال القيادي" و"التداول على المسؤوليات" بوضوح في وثائق اجتماعات قيادات الحركة في المنفى أبرزها اجتماع عقد في ألمانيا في 1992 بعد المنعرج الأمني في تونس والمنعرج العسكري في الجزائر، ولجوء راشد الغنوشي وعشرات من القياديين والمناضلين إلى بلدان أوروبية أهمها فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وسويسرا.
وكانت النصوص أكثر وضوحا ودقة في لوائح المؤتمرَين السادس الذي عقد في سويسرا في 1995 والسابع الذي عقد في هولندا في 2001 ثم في المؤتمر الثامن في لندن في 2007.
وقد قدمت في كل تلك الاجتماعات والمؤتمرات مداخلات ودراسات ومشاريع لوائح حول التداول بين الأجيال والتوازن المطلوب بين الاعتراف بدور الزعماء المؤسسين والقيادات الجديدة المنتخبة.
وتكشف تلك الوثائق خلافات في المرجعيات الفكرية والأولويات بين أنصار الغنوشي ومنافسيه بزعامة صالح كركر وعبد الرؤوف بولعابي والأزهر عبعاب ثم الحبيب المكني ورضا إدريس ومحمد النوري وجمال الطاهر العوي...
لكن حصيلة تلك الاجتماعات كانت غالبا "نوعا من توافق المصلحة" وتكريس زعامة "الرئيس المؤسس" راشد الغنوشي ثم "تجميد التناقضات السابقة".
الجبهة الشعبية في تونس.. نهاية رجل شجاع (2 من 3)
باحث تونسي لـ"عربي 21": كورونا ستحدث أكبر تغيير عربيا ودوليا
"الجبهة الشعبية" في تونس.. نهاية رجل شجاع (1 من 3)