كتب

هكذا يشرح الغنوشي رأيه في العلاقة بين الدين والسياسة (1من2)

توجب السياسة في تصوّر الغنوشي أن ينوب الحاكم المسلم عن الأمة في إقامة الشريعة وإنفاذها (عربي21)

الكتاب: الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام 
الكاتب: راشد الغنوشي
دار النشر: الدار العربية للعلوم ناشرون ومركز دراسات الجزيرة 
عدد الصفحات:  311 صفحة

لا خلاف في أنّ صاحب الكتاب مثير للجدل. فله مريدون ينتصرون إليه ويرون فيه الشيخ الملهم، وله خصوم يرون فيه رائدا لمشروع مجتمعي غريب عن التونسيين. وله ذِكر كثيرا ما كان عنوانا للصدام الإيديولوجي. أما مذهبنا فمختلف. فنحن نعمل على تقديم قراءة لكتابه "الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام"، تقديما هادئا خارج الاصطفاف الإيديولوجي وداخل بحثنا في آليات العقل العربي ـ المسلم في التعاطي مع العصر وقضاياه. وأما الأثر الوارد في بابين، فيخوض في مسائل كثيرة على صلة بمفهوم الدولة وأدوارها عامة، وعلاقة الدين بالسياسية وعلاقة الإسلام بالحريات وحقوق الإنسان. وتمثل مبادئ الحكم في الإسلام خيوطها الناظمة. 

ولتعدد مسائله أثرنا أن نقدم أطروحاته ومفاهيمه الكبرى التي تحكمه وتوجه فكره. ونعرض في حلقة أولى المفاهيم ذات الصلة بمبادئ الحكم، التي يصدر عنها في فهمه للديمقراطية في الإسلام، ومثلت موضوع الباب الأول.
 
1 ـ مبادئ الحكم من منظور إسلامي:

ينطلق الكاتب من مصادرة ستظل توجه تفكيره على مدار الأثر وملخصها استحالة العيش وفق مُثل الإسلام عدلا وإحسانا وتقوى وتعاونا على الخير، دون قيام سلطة إسلامية "تذب عن دياره" و"تحمي ثغوره، و"تدافع عن حرية التدين بعيدا عن كل أساليب الإكراه". ويجد في الاعتقاد خلاف ذلك "محض خيال خادع وانحراف شنيع وسقوط في الإثم والضلال، وهو من جهة أخرى استسلام لأعداء الإسلام وتوكيلهم لمصيره". 

ومن هذا المنظور، يعرّف الشرعية التي يستند إليها كل حاكم بكونها خضوع كل تصرفات الدولة لقواعد قانونية. وحتى تكون شرعية إسلامية، فلا بدّ أن تكون مختلف السياسات:

أ ـ تطبيقات مباشرة لنصوص الشريعة أو اجتهادات مستندة إليها عبر أصل من أصول الاجتهاد. "وهو ما يجعل أي مصادمة لنصوص الشريعة ومقاصدها طعنا موجعا في شرعية تلك الدولة من حيث انتسابها للإسلام"، فـ"نصوص الشرع الآمرة جزما برد جميع الأمور إلى الشرع والاحتكام إليه متواترة وقاطعة، وهو ما يجعل مخالفة تلك الأصول خروجا عن الملة وتفويتا في الشرعية وتشريعا للتمرد على سلطان الدولة".

ب ـ الشورى: يعرفها بكونها الأصل الأعظم بعد النص. ويجعلها أساس اكتساب الحاكم للشرعية الإسلامية، وهذا الأصل "أعظم من يستدل عليه بنص أو نصين" وجوبه متضمن في دلالة الاستخلاف؛ أي في تفويض الإله إصلاح الأرض للأمة المسلمة تفويضَ تشريف وتكريم. ويجد قيمة الشورى التي تجعلها المصدر الثاني في التشريع من كون الإسلام دينا لكل العصور، مكتفيا بتأسيس القواعد العامة للشورى. فقد أمر بها ودعا إلى العدل واحترام رأي الجماعة. ترك كيفية تحقيقها وفي كيفية استنباط الآليات الكفيلة بترجمتها لاجتهاد المسلمين حتى يفيدوا من تجارب الزمن وخبرات الإنسان. ويقدّر أنّ للتجربة الغربية إسهاما معتبرا في تطويره. 

ورغبة منه في التيسير على المشرع يوسع في مجال الشورى، فيحدد الأصل فيها بأنه كل ما من شأنه المساعدة على تحقيق مقاصد الإسلام في العدل والشورى وغيرها، وإن لم يرد بها نص أو سنة هو من الشريعة، ويوسع في الشريعة بالنتيجة توسيعا ملفتا عاملا بجلاء على جعل مفهوم النص الشرعي يستوعب الوضعي.
 
ت ـ السياسة: يدرس مفهوم السياسة في الإسلام، فيؤكد أن خلو القرآن من لفظتها لا يعني خلوه من مفهومها، كما أن خلوه من مفهوم العقيدة لا ينفي كونها عموده الفقري. فقد وردت في سياق الحديث عن الملك والحكم والاستخلاف والحكمة والتمكين. أما اللفظة من الجذر س ـ و ـ س ـ فوردت في حديث الرسول لما قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء؛ كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون عليكم خلفاء".

 

يعمل الغنوشي باستمرار على تغذية تعريفاته لمبادئ الحكم بالتصورات الغربية سواء تعلق الأمر بفهمه للشرعية أو الديمقراطية أو المواطنة أو السياسة.

 



ثم يبحث في تطور المفهوم عبر الزمن والتجارب في المدونة الفقهية؛ فيعرض نموذجا يعكس رغبته في توسيع الرأي وتقديم المصلحة وتجاوز الحرفية: "قال الشافعي لا سياسة إلا ما وافق الشرع، فردّ عليه ابن عقيل معرفا السياسة التعريف الذي ارتضاه ابن القيم: ما كان فعلا يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلـم ولا نزل به وحي، فإن أردت بقولك (إلا ما وافق الشرع) أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة". فيحاول أن يقف موقفا وسطيا بين تصورات مغالية تضيق مجالها وتقصر دور العقل فيما نطقت به النصوص والمواقف التي تسير في الاتجاه المعاكس، فيجعل الاجتهاد بلا ضوابط طالما يحقق هذا الاجتهاد مصالح المسلمين،"وإن اصطدم بثابت من ثوابت النصوص الشرعية تأثرا بدلالة السياسة في التصور الغربي الذي يقصرها في تحقيق المصلحة". 

وتوجب السياسة في تصوّره أن ينوب الحاكم المسلم عن الأمة في إقامة الشريعة وإنفاذها؛ بناءً على ما بينهما من تعاقد وفق شرطين: ألا يخرج في كل تصرفاته عن الشريعة وألا يستبد بالأمر دونها. فهذا الحاكم ـ النائب: "هو مجرد وكيل عنها في أداء ما هي مخاطبة ومكلفة بأدائه [كذا] من إنفاذ عدل الله وفق شريعته". ولأن علاقة المسلمين بالدولة لم تكن سوية على مرّ التاريخ، ولأن الحكام سريعا ما حولوها من خدمة الدين إلى التسلط على الأمة، جعل تحرير الدين من تسلط الدولة المطلب الأساسي الإصلاحي ونادى بمنح هذا الإشراف لهيئات منتخبة من المجتمع المدني. و"ما ينضج في قاع المجتمع ينفذ إلى سياسات الدولة عبر الانتخاب والتدافع الحر" وفق عبارته.

2 ـ مرجعيات غربية لتعميق تصوره لمبادئ الحكم

يعمل الغنوشي باستمرار على تغذية تعريفاته لمبادئ الحكم بالتصورات الغربية سواء تعلق الأمر بفهمه للشرعية أو الديمقراطية أو المواطنة أو السياسة.

أ ـ في مفهوم الشرعية:

يعرف الشرعية في الديمقراطيات الحديثة بكونها خضوع كل تصرفات الدولة لقواعد قانونية، فتمتنع عن أي فعل لا ينسجم مع نظامها القانوني وتلتزم باحترام القيم الأساسية والأهداف العليا للمجتمع، وتحاسب عن كل إخلال أمام قضاء مستقل. ولا بد من سلامة هذه القوانين من الناحية الشكلية تحقيقا لعدالتها وملاءمة مؤسساتها لحاجات المجتمع وقيمه. ومن أدوار هذه الشرعية أن تبرر سلطة الحاكم وتمنحه حقه في الحكم وتلزم المحكوم بطاعته وتفرض عليه في الآن نفسه واجب الالتزام السياسي، فيفيد إفادة بينة من تصورات العلوم الاجتماعية والسياسية ومما شاع من تنظيرات ماكس فيبر وسيميور ليبست وتالكوت بارسنز، وموريس ديفرجيه غيرهم .

ب ـ في مفهوم الديمقراطية 

يذكّر بالمفهوم في العرف الغربي وهو حكم الشعب لنفسه؛ بحيث يكون جميع المواطنين مؤهلين لتطوير القوانين واستحداثها ممارسين لتقرير المصير ممارسة حرة ومتساوية ضمن أفق يكفل التداول السلمي على السلطة. وانطلاقا منه يعرفها تعريفه الخاص بكونها "جملة التسويات والترتيبات الحسنة، التي تتوافق عليها النخب المختلفة من أجل إدارة الشأن العام بشكل توافقي، بعيدا عن القهر، وعلى أساس المساواة في المواطنة حقوقا وواجبات، على اعتبار أن الوطن مملوك لكل سكانه بالتساوي، مع التسليم بسلطة الرأي العام مصدرا للشرعية، وذلك بصرف النظر عن نوع العقائد السائدة." 

ويطرح سؤالا مهما: "ما الضامن حتى لا تتحول الدولة إلى جهاز للقمع وحكم تيوقراطي؟ مضيفا:  "أليس ذلك هو ما حدث فتأله الحكام وزعموا أنهم ظل الله في الأرض، وأن إرادتهم من إرادة الله، والانصياع لها هو ما أمر به الله، والخروج عنها تمرّد على إرادته، فساد تاريخ الإسلام الاستبداد وأحكام الجور والتلاعب بالشرائع، فسالت دماء الثائرين أنهارا فكان تاريخ الإسلام تاريخ الاستبداد الأعمى والجور المطلق"، ويعمل على صياغة تصور يأخذ بحسبان هذه الحقيقة التي وسمت التاريخ الإسلامي.

 

لا بد للنظام السياسي في تصوره، من أن يقوم على أساس مبدأ المواطنة. وهو اشتراك أهل البلاد جميعا في امتلاك الوطن وفي تمتعهم بحقوق متساوية فيه. ويتحقق هذا المبدأ على أساس تعاقد صريح تكون فيه الدولة خادمة لهم؛ فيملكونها ولا تملكهم، ويسيرون دواليبها من خلال انتخابات نزيهة

 


ولم يخل بحثه من جرأة في مناقشة "ولاية المرأة" رافضا اعتماد الحديث الصحيح الذي رواه البخاري "ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، داعيا إلى العودة إلى سياقاته التي تربطه بحالات معينة على علاقة بالفرس، أو بوصف واقعة بعينها تتعلق بابنة كسرى. فيرفض أن يكون قاعدة في الفقه الدستوري تحرم نصف المجتمع من حقه ويعرض نصوصا أخرى، تقر مبدأ المساواة خاصة الآية من التوبة "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون على المنكر".  

وعلى المنوال نفسه يناقش ولاية غير المسلم، فيعتب على حركة الإخوان في مصر التي تقف هذا الموقف، ولا يرى فيها ضررا طالما توفرت فيه الكفاءة. 

ولكن، رغم ما ميزه أحيانا من الجرأة ومن الاعتراف بأن التاريخ الإسلامي كان استبداديا ينبري للدفاع عنه، مقدرا أن استبداد الماضي أقل فداحة من استبداد الأنظمة العلمانية الحاكمة في الدولة العربية ما بعد الاستقلال، ومعتبرا "أن تاريخ أمتنا لم يشهد من الاستبداد ما يشهده اليوم في بلاد الإسلام تحت مسميات خادعة؛ مثل دولة القانون وحقوق الإنسان والديمقراطية، حيث تحولت الدولة ملكا خاصا مستباحا للحاكم وأسرته، في عزلة كاملة عن الشعب وعقيدته ومصالحه وارتباط كامل بالأجنبي ثقافة ومصالح". 

ورغم انطلاقه من المفاهيم الغربية للديمقراطية ومدحه لها وإقراره بأنه يفيد "من كل ما طورت الديمقراطية الغربية من آليات لمقاومة الاستبداد، والأخذ منه بما يجسد سلطة الشورى"، يقدر أن منجز الغرب فيها محضُ وهمٍ لم يكفل تحرر الإنسان.

ت ـ في مفهوم المواطنة: 

لا بد للنظام السياسي في تصوره، من أن يقوم على أساس مبدأ المواطنة. وهو اشتراك أهل البلاد جميعا في امتلاك الوطن وفي تمتعهم بحقوق متساوية فيه. ويتحقق هذا المبدأ على أساس تعاقد صريح تكون فيه الدولة خادمة لهم؛ فيملكونها ولا تملكهم، ويسيرون دواليبها من خلال انتخابات نزيهة تمنح كل الهيئات شرعيتها؛ ما تعلق منها برأس السلطة (رئاسة الدولة أو الحكومة أو البرلمان)، أو الهيئات الفرعية ضمن مؤسسات الحكم المحلي، وتكفل التداول السلمي على السلطة. وشرط نزاهتها أن يشارك فيها الجميع على قدم المساواة. ويحتكم عند الاختلاف بين المواطنين إلى الحرية بشكل علني منظم، ويريد حرية التفكير والمعتقد وحرية الممارسات الدينية وحرية إقامة الجمعيات والانتظام السياسي وفق أحزاب، وحق التقاضي إلى قضاء مستقل.

ث ـ في مفهوم السياسة

يدعم تصوره المستمد من التراث الإسلامي بمرجعيات حديثة، فيعرّفها بكونها إدارة علاقات القوة بشكل رمزي بحيث ينتقل الصراع من شكله البدائي العنيف إلى أشكال رمزية مدنية، تتجسد في الصحافة وعمل الأحزاب وإجراء الانتخاب وتحشيد الرأي للضغط، وينتهي إلى أن أساليب الديمقراطية المعاصرة تجسد الصورة المثلى لإدارة علاقات القوة في المجتمع، وتحدّ من فرص العودة إلى العنف المباشر وتجعله من احتكار الدولة. فهي وحدها من يمتلك هذا الحق ويمتلك وسائله، فلا تستخدمه إلا لضمان السلم ولا يكون ذلك إلا استثناء.

إذن عبر الخوض في الديمقراطية ووجوه إجرائها وما يتعلق بها من المفاهيم المجاورة، عمل الغنوشي على ضبط مبادئ الحكم ضمن الرؤية الإسلامية، ولكنه كان يعمل بتصميم على استدعاء نسق مفاهيمي فلسفي وقانوني غربي خاصة؛ وهو ما يطرح السؤال حول مدى تحقيقه لتصور منسجم متكامل.