كتب

أي محاولة لحصر الإنسان في نظام مغلق وقبلي محكوم عليها بالفشل.. قراءة في كتاب

إن بنية الأيديولوجيات المختزلة، بإلغائها ملكة الروح المبدعة، لا تستطيع، ضمن سياق أدلجة شمولية ومفرطة، إلا أن تُفضي إلى أن يواجه الإنسان الساحر بصفة متفجرة الإنسان الصانع
الكتاب: ما الثورة الدينية
المؤلف: داريوش شايغان
ترجمة: د. محمد الرحموني
الناشر: دار الساقي بالتعاون مع المؤسسة العربية للتحديث الفكري، بيروت 2004

الدين أمام التحدي الغربي للحداثة


نشهد منذ وقت قصير ظاهرة جديدة تبدو وكأنها تكذب توقعات التاريخانية هي الانفجار المفاجئ للإنسان المتدين الذي اقتحم فجأة التاريخ، ساعياً إلى القضاء على كل القيم التي تراكمت عبر خمسة قرون من العلمنة. وأما أن تكون هذه الظاهرة ممكنة فذلك يعطينا مسبقاً مادة للتفكير. إن التراجع إلى المستويات العتيقة للفكر ليس ظاهرة جديدة؛ فقد عودتنا الحركات القومية الاشتراكية والفاشية، التي ظهرت ما بين الحربين في ألمانيا وإيطاليا، على مثل هذه الآلية. على أن هذه الحركات لم تكن دينية بأتم معنى الكلمة. وقد لعب هتلر، من دون شك، بوصفه شاماناً جديداً للنظام التكنولوجي، دور المترئس للقداس والوسيط والكاهن في خدمة عبادة تتطابق ضمن والإيمان بالدم والعرق.

وكان الإنسان الصانع، كما يقول كاسيرر، هذا الانفجار العتيق (توماس مان، في خدمة الإنسان الساحر. ولأن هتلر كان كاهن ديانة جديدة منافية للعقل، فقد كان عليه أن ينشر هذه الديانة بطريقة منهجية، ومن دون ترك أي شيء للصدفة. ويتقولب عالم النفس البدائية في هذه الديانات الدنيوية الجديدة في قوالب مجتمع منظم بكل العقلانية اللامعقولة Leistungsgesellschaft. لقد أصبحت الأيديولوجيا ديانة، ولكن هذه الديانة بقيت غائبة كموروث، ومن هنا هيجانها وعدوانيتها والغياب التام لكل اعتبار أخلاقي. ومن هنا أيضاً المعايرة الدقيقة بين عقل مقتصر على المكر الأكثر خداعاً ووجدان مخفوض إلى مستوى عاطفية شرسة. وخشونة النهج - كما كتب روشننغ Rauschning - محسوبة بدقة. ويكاد كل ما في السلوك من فظاظة، وما في شكل الحكم من همجية، يرمي إلى إعطاء انطباع عن قوة بدائية وهمية. هذا الإيثار للنهج العنيف، وهو نهج ثوري أصلاً، لا ينقصه التناغم مع الطريقة التي تستنفر بها القومية الاشتراكية -بتفنن ناجح- العاطفة الغريزية للبرجوازي الصغير.

إن بنية الأيديولوجيات المختزلة، بإلغائها ملكة الروح المبدعة، لا تستطيع، ضمن سياق أدلجة شمولية ومفرطة، إلا أن تُفضي إلى أن يواجه الإنسان الساحر بصفة متفجرة الإنسان الصانع. وقد حدث ذلك في ألمانيا في ظل الحكم القومي الاشتراكي. وإذا ما انخرط الدين في لعبة الأيديولوجيات، فإنه يحطم الدساتير الثقافية التي تبلور وتصون معاً أشكال الفكر الرمزية، ويقتحم على غير هدى من ناحية أخرى، مجالاً يجهله ويواجه عالماً يتجاوزه تاريخياً، نظراً إلى أنه لا يوجد فرق في الدرجة بين الدين والعلم الحديث، بل يوجد انقطاع، أي قطيعة إبستمولوجية، بين مستواه والمستوى الذي يليه والمتطور عليه تاريخياً. وقد سمح الدين، في شكل ما، بأن يغلفه نتاج خمسة قرون من العلمنة التي يزداد تأثيرها فيه على قدر بقائه مستعصياً على لغتها. وهو أي الدين يسقط في أحبولة التاريخ، ويتخذ شكله الطاغي ويتحمل مقتضياته، ويصبح في المحصلة الوجه الديني البديل لشكل جديد من الفاشية.

الدين يستطيع، بوصفه حاوي كنوز الإنسانية الروحية المساهمة في الثورة الروحية والفردية للإنسان، ويقدر حتى على إلهام حركات سياسية كما كان الشأن في أحيمسا Ahimsa غاندي، ولكنه لا يستطيع تكوين نظرة جماعية إلى العالم Weltanschauung، لأن الشكل المهيمن في عصرنا الحاضر يبقى شكلا فكرياً مؤدلجاً، ولأن كل دين باعتباره شاملاً بطبيعته لكل من القطاع العام والقطاع الخاص، فإن أي محاولة لتحقيقه كنظام سياسي ستحوله إلى نظام شمولي، ولا سيما أن الأيديولوجيات تضطلع في وقتنا الحاضر بالوظيفة التي كانت تؤديها الميثيولوجيات في العالم الديني القديم.
لقد أفل زمن الدين كنظام اجتماعي وسياسي، ولكن الإنسان الساحر، في مقابل ذلك، هو الذي يبرز من بين أنقاض الدين لكي يلغي بحنقه المدمر الإنسان الصانع. ولكن بخلاف الأنظمة الفاشية التي لا يتلاشى في صلبها الإنسان الصانع بل يبقى مهيجاً بقوة الغرائز المنفلتة من عقالها، فإن النظام الديني عاجز عن إنجاز أي تجلية تقنية أو اقتصادية. فالدين يستطيع، بوصفه حاوي كنوز الإنسانية الروحية المساهمة في الثورة الروحية والفردية للإنسان، ويقدر حتى على إلهام حركات سياسية كما كان الشأن في أحيمسا Ahimsa غاندي، ولكنه لا يستطيع تكوين نظرة جماعية إلى العالم Weltanschauung، لأن الشكل المهيمن في عصرنا الحاضر يبقى شكلا فكرياً مؤدلجاً، ولأن كل دين باعتباره شاملاً بطبيعته لكل من القطاع العام والقطاع الخاص، فإن أي محاولة لتحقيقه كنظام سياسي ستحوله إلى نظام شمولي، ولا سيما أن الأيديولوجيات تضطلع في وقتنا الحاضر بالوظيفة التي كانت تؤديها الميثيولوجيات في العالم الديني القديم. وبما أن عالمنا عالم مفتوح وشبكة من الاتصال الكوني، فإن أي محاولة لحصر الإنسان في نظام مغلق وقبلي محكوم عليها بالفشل من أول وهلة لأن حساسية إنسان اليوم لا تطيق البنيان الانفعالي الذي تنطوي عليه الأشكال العتيقة للدين.

التوليفة ما بين الدين والحداثة

ولكن لماذا يجب أن يكون الأمر كذلك؟ ولم يتحتم ألا يكون للثقافات الكونية الكبرى التي بقيت خارج إشعاع التاريخ الغربي، من مخرج سوى مواجهة قوانين لعبته؟ لقد طرحنا على أنفسنا في سعينا إلى الإجابة عن هذين السؤالين الإشكاليين عدة أسئلة أخرى تلتقي كلها عند الحدث الأكبر للقرون الخمسة الأخيرة، أي الانقلاب الكلي للعلاقات التي تربط الإنسان بالطبيعة وبالله، وهي فجوة أساسية برزت مع بداية العصر العلمي ـ التقني، فجوة ذات بعد مأساوي إلى درجة أننا نستطيع أن نعتبرها بمثابة التحول التاريخي الثاني للإنسانية.

وكي نصف موقف الحضارات التقليدية إزاء هذه الفجوة فقد استهلم المفكر الإيراني بصورة أساسية مأثورات إسلامية وهندية. ولا تشتمل هاتان السنتان على كافة ديانات العالم، ولكن تكفي هذه الأمثلة كي تبين أن الحضارات التقليدية هي ذات مصير تاريخي واحد برغم تنوعها الثقافي، وذلك بسبب القطيعة الجوهرية التي أحدثتها بداية العصور الحديثة.. ذلك أنه من دون معرفة، ولو إجمالية، بهذا العالم الذي تنطوي عليه هذه الطريقة في النظر إلى الأشياء، فإن التحولات التي خضعت لها البشرية بفعل الريضنة الغاليلية للعالم ما كانت لتبرز بما فيه الكفاية التغيير الهائل الذي مثله هذا الانقلاب الشامل للقيم مقارنة بنظرة الإنسان القديمة إلى العالم.

وللإجابة عن السؤال حول كيفية تصرّف الحضارات التقليدية التي لم تشارك في تاريخ القرون الخمسة الأخيرة، ولا تحملت نتائج هذا التحول الثاني للعصور التاريخية حتى تسد هذه الفجوة وتصبح قوة فاعلة في مسار التاريخ، سنرى أن نقطة التقارب بين هذين العالمين على الأقل في الميدان الجماعي، يجب أن تكون أرضية تستطيع إرضاء مقتضيات هذا ومتطلبات ذاك في الوقت نفسه، ويخرج فيها كلا العالمين من مداره ليكونا معاً كوكبة ثالثة قادرة على التوفيق والجمع بين الاثنين. ولكن بما أنه لا يمكن تصور توليف حقيقي بين هذين العالمين (من دون نزع الصبغة الميثية عن الطبيعة والقيام بعملية تأويلية)، فإن نتيجة هذا الالتقاء ستكون دائماً شكلاً جديداً من الفكر لن يكون فلسفياً محضاً، ولن يكون دينيا أيضاً: إنه شيء ما بين الاثنين، يأخذ من الدين طاقته الوجدانية، ومن الفلسفة مظهرها العقلاني والاستدلالي، وسوف يكون هذا الشكل الهجين هو الايديولوجيا.

ودأبت مؤلفات المفكر التونسي الراحل هشام جعيط القارئة للتاريخ الإسلامي، سواء بثلاثية "السيرة النبوية" أو "الفتنة، جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر" أو "نشأة المدينة العربية الإسلامية" بأجزائها، و"أزمة الثقافة الإسلامية" على بحث إشكالية الهوية والتراث وقضايا الحداثة والتحديث، والكشف عن ملامح ولوج المسلمين للحضارة الحديثة، من خلال ما يسميه "الطموح" في مجالات المعرفة والثقافة والفنون والعلوم، ولهذا يعيد إعادة تركيب الجدلية التي كانت قائمة ما بين "إبقاء" على القديم، أو "انتقاء" ما أمكن أخذه من الآخر، لتصبح القضية عنده، مسألة بقاء في "الوجود التاريخي" كما يقول، وعلى اعتبارٍ حاسم، وهو أن الحداثة "تيار لا يُقاوَم، فهو المجرى الحتمي للتاريخ" على ما ورد في كتابه "أزمة الثقافة الإسلامية".

ويلخّص المفكر الراحل، بنفسه، نظرته لتعب السنين الكثيرة التي قضاها في قراءة تاريخ الإسلام وتأليف المصنفات التي تركت أثرها شرقا وغرباً بأكثر من لغة، وخُلاصة قوله الذي يمكن أن يستقى منه، سبب تناقض الآراء حياله، عندما يطرح سؤال الهوية، مفصّلا عن نوع الهوية المطلوب الحفاظ عليه، فيجيب بنفسه: "الحفاظ يكون على اللغة، مع إثرائها، وعلى الانتماء الديني، كمعتقد أو ثقافة أو قيم. فنحن مجتمعات عربية إسلامية". ليصل إلى فحوى كل هذا الجهد الذهني، بأن التراث من وجهة التراث التاريخي، وليس الإسلام الديني أو الروحي، يتعارض، كما يقول، مع قيم الحداثة.

اقرأ أيضا: لماذا ترفض الثورة الدينية الحداثة؟ كتاب يقرأ علاقة المشروع الإسلامي بالغرب

اقرأ أيضا: التحول الواعي من العالم الديني إلى واقعنا الحديث يتطلب موقفا نقديا.. قراءة في كتاب