مقابلات

تونس.. رئيس "التأسيسي" يشرح مبادرته للمصالحة لـ"عربي21"

مصطفى بن جعفر: لا بديل عن المصالحة بين العائلتين الإسلامية والديمقراطية- (صفحة بن جعفر)

أعلن الدكتور مصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي الذي صاغ دستور تونس الجديد ما بين 2011 و2014 وأحد أبرز زعماء الأحزاب التونسية منذ 40 عاما عن مبادرة سياسية للمصالحة الوطنية توجه بها إلى الرئيس قيس سعيد وإلى الحكومة والبرلمان ومختلف السياسيين اليساريين والدستوريين والإسلاميين.

الإعلامي كمال بن يونس التقى بن جعفر، الرئيس المؤسس لحزب التكتل الديمقراطي الذي ينتمي إليه رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، وأجرى معه الحوار الآتي لـ موقع "عربي21":

س ـ دكتور مصطفى بن جعفر فاجأت المراقبين في تونس وخارجها بإعلانك عن مبادرة سياسية توجهت بها عبر الفيديو إلى رئيس الدولة قيس سعيد وإلى كل الفاعلين السياسيين ووصفت الوضع في البلاد بالخطير. لماذا هذه المبادرة؟ ولماذا الآن؟


 ـ في الوقت الذي نؤكد فيه على احترام الدستور ونتائج الإنتخابات والرسائل السياسية التي كشف عنها صندوق الاقتراع في تشرين أول (أكتوبر) الماضي، لا بد أن نواكب المستجدات وتطور علاقات السياسيين بمختلف مواقعهم مع المواطنين ومشاغلهم ومشاكلهم.

لقد تعمقت الاختلافات بين قطاع من السياسيين وهو ما يعني أننا وصلنا إلى وضع غير معقول بسبب التجاذبات والمزايدات.. وعلى العقلاء وكبار المسؤولين في الدولة، بدءا من السيد رئيس الجمهورية، التدخل من أجل إيقاف "الانجراف" والمنزلقات الخطيرة..

يتابع المواطن يوميا تعقد الاختلافات وارتفاع حدة الخطاب السياسي وتبادل الاتهامات واستفحال المعارك والخصومات بين بعض السياسيين..

لذلك توجهت بمبادرة علنا إلى السيد رئيس الدولة وإلى بقية السياسيين للتدخل ودعم خيار الحوار واستبعاد سيناريوهات دفع البلاد نحو العشوائية والفوضى.

فجوة عميقة

س ـ بعد أسابيع قليلة على تنصيب رئيس الجمهورية قيس سعيد والبرلمان الجديد ثم فريق حكومة إلياس الفخفاخ اندلعت صراعات سياسية علنية، داخل المؤسسات المنتخبة وفي وسائل الإعلام وفي الشارع، حول قضايا سياسية كثيرة.. ماهو المطلوب لوقف "الانجراف" والارتجال والقرارات العشوائية، حسب مبادرتكم السياسية الجديدة؟


 ـ إنقاذ البلاد من العشوائية ممكن.. ومبادرتي جاءت في وقت تعمقت فيه الفجوة الكبيرة بين اهتمامات الطبقة السياسية والملفات الحقيقية للبلاد، أي مشاكل الشعب ومشاغل الطبقات الشعبية والوسطى والمستثمرين ورجال الدولة الذين يؤمنون بإمكانية الإصلاح والتغيير ووقف النزيف والابتعاد عن إهدار الطاقات والوقت في معارك إيديولوجية وسياسيوية تعمق الأزمات في وقت تحتاج فيه البلاد إلى البناء والتنمية..

وأعتقد أن رئيس الجمهورية قيس سعيد مؤهل سياسيا ودستوريا ليشرف على حوار وطني يجمع كبار السياسيين والفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين، بما يؤدي إلى تنقية المناخ السياسي في البلاد وإلى تكريس المصالحة الوطنية بمفهومها الواسع بعيدا عن كل أشكال الإقصاء والإقصاء المضاد وكل أنواع الاصطفاف، لأن أولويات البلاد تنموية وليست أيديولوجية..

المصالحة بين الدستوريين والإسلاميين؟

س ـ بعد حوالي 10 أعوام على ثورة موفى 2010 ومطلع 2011 وفشل كثير من مبادرات المصالحة الوطنية السابقة بين اليساريين والإسلاميين والتجمعيين، أنصار حزب بن علي من جهة ثانية، هل تعتقد أن تنظيم حوار وطني يشرف عليه رئيس الجمهورية اليوم يمكن أن ينجح؟


 ـ أعتقد أن رئيس الجمهورية هو الأقدر على تنظيم مثل هذا الحوار الوطني والدفع نحو التوافق حول آليات للمصالحة الوطنية بما يكرس تنقية المناخ السياسي العام في البلاد والتوافق الحقيقي وليس المغشوش حول مجموعة من الثوابت الوطنية والثوابت المشتركة، بينها القبول بالآخر فكريا وسياسيا ومجتمعيا ورفض الإقصاء بأنواعه والتنافس من أجل خدمة البلاد وقضايا التنمية..

المصالحة الوطنية هاجس قديم.. وقد بذلت المنظمات الوطنية سابقا جهودا.. لكن لا وقت اليوم لتجميع المنظمات الوطنية والأحزاب السياسية في حوارات مطولة.. في المقابل فإن رئيس الجمهورية يمكن أن يتزعم هذه المبادرة الوطنية للحوار والمصالحة.. ورغم مشاغله الكثيرة يمكن أن يساهم بنجاعة في التقريب بين مكونات الطبقة السياسية وتشريكها في تصفية المناخ السياسي..

شروط جديدة

س ـ قد يعترض البعض على مثل هذه المبادرة ويعتبرها انقلابا جديدا على نتائج الانتخابات مثلما وقع في 2013، أو إعادة إنتاج لتجربة التوافق السابقة التي تزعمها في 2013 و2014 الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي.. وقد تبين أن الأمر تعلق بـ"توافق هش".. رغم دعم رجال الأعمال وبعض الأطراف الاجتماعية والنقابية والحقوقية والأحزاب اليسارية والتجمعية لها.. ما رأيك؟

 ـ في صورة تجاوب الطبقة السياسية مع مبادرة الحوار الجديدة ودعمها لرئيس الجمهورية والحكومة يمكن أن ننجح وأن تصاغ آليات للمصالحة الوطنية الشاملة ..

ولا بد من أن نعلن بوضوح أن المصالحة الوطنية تعني قبول الآخر ورفض الإقصاء وعدم التلويح بالتقدم بمطالب لإقصاء أحزاب اخرى أواستبعادها من المشاركة في الشأن العام.. خلافا لما نشهده حاليا في البرلمان وبعض وسائل الإعلام من دعوات إلى حرب أهلية باردة قد تتطور إلى حرب أهلية ساخنة..

ولن ننجح في تجنب هذا السيناريو إلا إذا تحققت المصالحة بين العائلة الديمقراطية، بمكوناتها اليسارية والليببرالية، والعائلة الإسلامية.. لأن التنافس الانتخابي والسياسي وحق التعبير عن رؤى مختلفة لا يتناقض مع التعايش..

وأعتقد أن التوافق يجب أن يكون فكريا وبيداغوجيا أيضا وليست مجرد عملية حسابية تفرضها نتائج الإنتخابات التي لم تسمح لأي طرف بالانفراد بالحكم ..

ما وقع ما بين 2015 و2019 كان أساسا تحالفات ظرفية داخل البرلمان بعد عمليات حسابية لضمان تمرير حكومة أو قرار عبر التصويت المشترك عليه من قبل كتلتين أو أكثر..

وكان توافقا في حالات كثيرة لربح وقت.. مع إضمار إمكانية التراجع والعودة إلى التنافر السابق والإقصاء ..

بلداننا لم تعد تحتمل اصطفافا ضد الآخر.. ولا بد أن تقطع مع التوافق السابق الذي كان شكليا لا تدعمه قناعات فكرية وسياسية مبدئية ترفض الإقصاء والعنف، ولم تتشكل مؤسسات دستورية لتحميه..

تعثر مسار التغيير 

س ـ السؤال الكبير الذي يؤرق التونسيين والعرب بعد حوالي 10 أعوام على اندلاع الثورات العربية: لماذا تعثر التغيير والإصلاح وبرز مجددا خطاب الإقصاء والإقصاء المضاد والعنف السياسي؟ هل العرب ضد الديمقراطية والتغيير والإصلاح؟


 ـ الأسباب عديدة من بينها أن بعضهم لم يهضم بعد أن بلادنا والمنطقة شهدت تغييرا وثورات في 2011 وأن على النخب أن تفتح صفحة جديدة وأن تغير سلوكياتها وأن تقبل بالثورة وبالدستور الجديد..

في نفس الوقت فإن البعض مازال أسير الحنين إلى النظام السابق أو إلى نظم سياسية تحمي مصالح وامتيازات قد تهددها الديمقراطية والشفافية..

وفي تونس فإن من بين المشاكل أن الدعوات إلى العنف والإقصاء برزت داخل العائلة الدستورية التجمعية ذاتها: بعضها قبل بالتغيير والديمقراطية الجديدة وبعضها الآخر ما زال يسعى إلى فرض أجندات العنف والقمع والإقصاء ..

وقد انتميت شخصيا في مرحلة شبابي إلى العائلة الدستورية الوطنية.. وأعرف أنه خلال الستين عاما الماضية مرت العائلة الدستوريه بتطورات.. وتداول عليها زعماء من مدارس وطنية مختلفة كان بينهم أنصار السياسات الليبيرالية والاشتراكية والديمقراطية والحكم المركزي..

ولا يمكن اليوم لأي طرف أن يحتكر صفة "الدستورية".. خاصة ممن لم يعرفوا الزعيم الحبيب بورقيبة وتطورات علاقاته خلال مرحلة الكفاح الوطني وبناء الدولة الحديثة بالتيارات الوطنية واليسارية والإسلامية والليبيرالية وبالنقابات والأطراف الاجتماعية ..

مرة أخرى أقول إن منهجية التنسيب مطلوبة لإنجاح الحوار الوطني والتوافق السياسي الجديد.. فلبندأ بفتح صفحة جديدة وطي صفحة الماضي.. وإذا اتفقنا في الأصل.. يمكن أن نتفق على الآليات دون أن نفتعل خلافات إضافية.. مثل الجدل العقيم حول بعض ملفات السياسة الخارجية التي يفترض أن توحدنا لا أن تفرقنا، مثل الملف الليبي..

حل البرلمان

س ـ لكن البعض يطالب بتغيير الحكومة وتعديل الدستور والقانون الانتخابي.. فيما يطالب آخرون بحل البرلمان وتغيير النظام السياسي؟


 ـ تعديل القوانين، وبينها القانون الانتخابي، ومراجعة الدستور خطوات ممكنة في جو هادئ، إذا كان الهدف هو البحث عن أفضل الحلول وعن التوافق والتعايش.. وأعتقد أن قوانين الأحزاب والانتخابات وقوانين عديدة ينبغي أن تراجع في سياق احترام الدستور ومؤسسات الدولة المنتخبة وبينها البرلمان..

أما الحديث عن تغيير حكومة إلياس الفخفاخ التي لم يمر على تشكيلها إلا حوالي 100 يوم  فهو في غير محله.. وهو لا يفيد البلاد.. ولا مبرر في نظم ديمقراطية للمطالبة بإلغاء نتائج الانتخابات وحل البرلمان وتغيير النظام السياسي عبر ضغط الشارع..

الأولوية اليوم ينبغي أن تكون لمعالجة ملفات ما بعد كورونا التي نجحت الدولة بكل مؤسساتها والمجتمع المدني في تحقيق انتصارات كبيرة خلال جهود الوقاية منها ومحاربتها..

تأكدت اليوم الحاجة للتركيز على الأولويات التي تبنتها حكومة الفخفاخ منذ 3 أشهر أي الأولويات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية.. ومعالجة معضلات المقدرة الشرائية والتفاوت بين الفئات والطبقات والجهات.. وعلينا العمل معا على مواجهة المعضلات التي استفحلت بعد كورونا في كل دول العالم بما في ذلك في الدول الغنية واكثرها غنى مثل امريكا.. والأولوية ينبغي أن تعطى لتحسين خدمات القطاع العام في مجالات الصحة التعليم والنقل العمومي.