كتب توماس فريدمان: على امتداد الشهر الماضي، واجه العالم ظاهرتين، عكستا بوضوح ما وصفته المحللة الإسرائيلية أوريت برلوف بنموذجَي الحكم السائدين في العالم العربي: "
داعش" والسيسي.
"داعش" هي "الدولة الإسلاميّة في العراق والشام"، الميليشيا السنّية المتعطّشة للدماء، التي فرضت بالقوّة دولة جديدة تضمّ مناطق سنّية في سوريا والعراق. أما
السيسي، فهو بالطبع عبد الفتّاح السيسي، الرجل القوي في
مصر، والرئيس الجديد للبلاد، الذي بدأ ولايته هذا الأسبوع بإصدار حكم مشين، يقضي بسجن ثلاثة مراسلين من قناة "الجزيرة"، بالاستناد إلى تهم ملفّقة بالكامل في تصرّف دنيء فعلاً بالنسبة إلى أمّة عظيمة.
وتؤكّد الباحثة في الشبكات الاجتماعية في الشرق الأوسط برلوف، من "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، أن الاثنين هما وجهان للعملة نفسها، إذ يرتقي الأوّل بمقام "الله" ليكون حَكماً على مجمل الحياة السياسيّة، في حين يرتقي الثاني بـ"الدولة القوميّة" لبلوغ الغاية ذاتها.
لقد باء الطرفان بالفشل، وسيبقى فشلهما مستمراً فيضطرّان إلى استعمال الإكراه إن أرادا البقاء في السلطة لعجزهما عن تزويد الشبّان العرب المسلمين بأكثر ما يحتاجون إليه: أي التعليم، والحرّية، والوظائف ليحققوا كامل قدراتهم، وليتمكّنوا من المشاركة في الحياة السياسيّة كمواطنين متساوين.
واعتبرت برلوف أنّنا سنضطرّ إلى انتظار جيل جديد "يجعل المجتمع محور اهتمامه"، جيل جديد من العرب/المسلمين، الذين لا يسألون "كيف يمكننا أن نخدم الله أو كيف عسانا نخدم الدولة، بل كيف يمكنهما أن يخدمانا".
وتتابع برلوف قائلة، إن هذين النموذجين السائدين أي المنحى الإسلاميّ المفرط (المتمثّل بتنظيم "داعش")، الموجّه من حرب ضد "التكفيريّين"، وهي التسمية التي يستعملها المسلمون السنّة المتطرّفون للكلام عن المسلمين الشيعة؛ والقوميّة المفرطة (المتمثّلة بالسيسي)، التي توجهها حرب ضد "الإرهابيين" الإسلاميّين، وهي التسمية التي تطلقها الدولة المصرية على "الإخوان المسلمين" يجب استنفادهما، لإفساح المجال أمام خيار ثالث، يستند إلى التعددية في المجتمع، والدين، والفكر.
وفي نهاية المطاف، من الضروري أن يقوّض العالم العربي الأسطورتين التوأمين، المتمثّلتين بالدولة العسكرية (السيسي) أو الدولة الإسلامية (داعش)، التي ستأتي بالازدهار، والاستقرار، والكرامة. وفي هذا الصدد، تؤكّد برلوف قائلة إنّ "فرصة مشاهدة انتقال هذه المنطقة إلى القرن الحادي والعشرين" لن تظهر إلا عندما "يقرّ عامّة الشعب أخيراً بأنّ النموذجين المذكورَين فاشلان وغير قابلين للتطبيق".
بيد أنّ الوضع ليس قاتماً تماماً، فأمامنا نموذجان ناشئان، وإن كانا هشّين وغير مكتملين، لدولتين شرق أوسطيتين دينهما الإسلام، نجحتا في بناء حكم رصين قائم على الديمقراطية، وهاتان الدولتان هما تونس وكردستان. ولا شكّ في أنّ العمل ماضٍ في كلتيهما لإحراز المزيد من التقدّم، ولكنّ ما يهمّ هو أنّ النموذجين المذكورَين منبثقان من المجتمعات بحد ذاتها. وكذلك، لدينا أنظمة ملكية مرنة نسبياً كما في الأردن والمغرب تعمد، ولو على نطاق ضيّق، إلى اختبار حكم يقوم أكثر على المشاركة، ويسمح ببعض المعارضة، ولا يمارس السلطة باللجوء إلى وحشية الحكّام المستبدّين العلمانيّين.
ويضيف مروان معشر، وهو وزير خارجية أردني سابق، ومؤلف كتاب بعنوان "الصحوة العربية الثانية والمعركة من أجل التعددية"، قائلاً "إنّ النموذج الاستبدادي العلماني المتمثل بالسيسي مؤخراً والنموذج الديني المتطرّف المتمثل حالياً بتنظيم "داعش" باءا بالفشل، لأنهما لم يتطرّقا للحاجات الفعلية للشعوب، التي تريد تحسين نوعية حياتها، على صعيدي الاقتصاد والتطوّر، وتريد أن تشعر أنّها مشاركة في عملية صنع القرارات. أمّا النموذجان المذكوران، فيلجآن إلى الاستبعاد، ويفرضان نفسهما على أنّهما يحملان الحقيقة المطلقة، والحلول لمشاكل المجتمع كافّة".
لكنّ معشر يضيف أنّ الشعب العربي "ليس غبياً. فمع أننا سنواصل سماع خطابات استبعاديّة في القسم الأكبر من العالم العربي في المستقبل القريب، سينتهي المطاف بأن تطغى النتائج على الإيديولوجيّة السائدة، علماً بأنّ تحقيق نتائج مثمرة لن يكون ممكناً، إلا إن استندنا إلى سياسات شموليّة، تمنح جميع القوى دوراً في النظام، فيؤدّي ذلك إلى استقرار، وتوازن في القوى، وازدهار. ومن المستحيل أن يكون الفوز حليف "داعش" والسيسي. ولكنّنا قد نضطرّ، لسوء الحظ، إلى استنفاد جميع الخيارات، قبل أن تتطوّر شعوب تستوعب هذا الواقع البديهي. ويشكّل ذلك تحدياً بنظر الجيل العربي الجديد، الذي يشمل بنسبة 70 في المائة منه أشخاصاً دون سنّ الثلاثين. على ما يبدو، لم يتعلّم الجيل القديم، أكان علمانياً أو دينياً، لا من الفشل في حقبة ما بعد الاستقلال، ليتمكّن من تحقيق نموّ مستدام، ولا من الخطر الذي تنطوي عليه السياسات الاستبعاديّة.
لقد ذهب العراق الذي تأسس في العام 1921 في مهبّ الريح، ولم تُكتَب لمصر الجديدة، التي تمّ تصوّرها في ميدان التحرير، أيّ حياة. ويبدو عدد كبير من القادة والتابعين في المجتمعين مستعدّين لمنح أفكارهم الباطلة فرصة أخرى، قبل أن نأمل بأن يختاروا الفكرة الوحيدة التي ستنجح، وتتمثّل بالتعدّدية في السياسة، والتعليم، والدين. قد يتطلّب ذلك وقتاً، أو ربّما لا. ما أدراني؟
لقد اعتدنا أن نجعل كلّ رواية تتمحور حولنا، مع أنّ صلب الموضوع ليس على صلة بنا على الإطلاق. ومن المؤكّد أنّنا قمنا بأمور كثيرة عن جهل في العراق ومصر. ولكنّنا ساعدنا أيضاً على فتح أبوابهما على مستقبل مختلف، أبواب قرّر قادة الدولتين إقفالها في الوقت الراهن. ومن الآن وصاعداً، وكلّما رأينا أشخاصاً ملتزمين فعلياً بالتعددية، علينا أن نساعد على دعمهم. وكلما رأينا ملاذات آمنة، علينا أن نساعد على حمايتها. لكنّ الأمور تتمحور حولهم قبل كلّ شيء، وحول ضرورة أن يتعلّموا العيش معاً من دون قبضة حديديّة فوق رؤوسهم، وهو أمر لن يحصل إلا إن رغبوا في حصوله.
(الوطن)