منذ سقوط بغداد في التاسع من نيسان/ أبريل عام 2003، بدأ صعود
المشروع
الإيراني في المنطقة، وبنَت طهران استراتيجيتها في التمدد على فكرة أذرع الأخطبوط،
ونجحت في أن تمتد أذرعها في المنطقة وبسطت نفوذها في عدة دول
عربية بما يحقق
مصالحها ويقوي الأوراق بيدها في التفاوض مع المشروع الأمريكي والإسرائيلي في
المنطقة.
(1) نفوذ المشروع الإيراني
منذ الثورة الإسلامية في عام 1979 وصعود حكم رجال الدين، كانت
قيادة الثورة والحكام الجدد في إيران يسعون إلى تصدير الثورة وبسط نفوذها وسيطرتها
على البلاد الإسلامية، إلا أن الاختلاف الطائفي بين الثورة والمحيط العربي
والإسلامي ذي الأغلبية السنية حال دون تحقيق المشروع.
كانت فكرة تصدير الثورة الباب الذي جلب للثورة الإيرانية العداء في
المنطقة، واندلعت بعدها الحرب العراقية الإيرانية لتستنزف الدولة الإيرانية
ويتراجع حلم هيمنتها في المنطقة مؤقتا.
بعد الحرب على العراق وسقوط نظام صدام حسين في عام 2003، بدأ المشروع الإيراني
في النشاط ومحاولة التمدد من جديد بأسلوب الأخطبوط متعدد الأذرع، عبر استغلال
الطائفية الشيعية المنتشرة كأقلية دينية في البلاد العربية. فبسطت سيطرتها على
العراق من خلال الأحزاب العراقية الدينية (الإسلام السياسي الشيعي)، تلك الأحزاب
التي نشأت وترعرعت في الحضن الإيراني وسيطرت على البرلمان العراقي بعد الغزو
الأمريكي للعراق، حتى أصبح رئيس الدولة ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان يتم اختيارهم
بموافقة طهران.
من المؤسف ألَّا يكون هناك مشروعٌ عربيٌّ يمكن أن يستفيد من تراجع المشروع الإيراني، وأن تراجع المشروع الإيراني أو انهياره سوف تستفيد منه بالدرجة الأولى إسرائيل التي تشعر بالقوة في الوقت الحالي، وتجد نفسها قد حققت نقاطَ انتصارٍ على إيران ومشروعها الذي يُزَاحِمُها في المنطقة
وجدت إيران في حزب الله اللبناني الشيعي، الذي يتمركز في الجنوب
اللبناني والذي بقي السلاح بيده بعد اتفاق الطائف كحالة استثنائية لمقاومة
الاحتلال
الإسرائيلي الذي دخل الجنوب اللبناني في عام 1982، فرصة لإيران لتمد
ذراعها إلى لبنان بحجة دعم المقاومة ومحاربة إسرائيل. استطاعت إيران في ظل
الاستقطاب الطائفي والنصر الذي حققه حزب الله في دحر الاحتلال الإسرائيلي من
الجنوب اللبناني، وتراجع الدور السوري في لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري أن تبسط
سيطرتها على الواقع السياسي اللبناني، حتى أصبحت إيران هي التي تتحكم في صناعة
القيادات والأحداث السياسية في لبنان.
جاء الربيع العربي، وكان لسقوط نظام علي عبد الله صالح والحرب
الأهلية التي اندلعت في اليمن بعد الثورة الفرصة لإيران للتمدد في اليمن، فقامت
بدعم المليشيا الحوثية ومكنت لتلك الأقلية بالسلاح والقوة من السيطرة على الشعب
اليمني والدولة اليمنية. تمددت المليشيا الحوثية بدعم إيران وفشلت كل الجهود
العربية واليمنية في تحجيم نفوذها وإيقاف سيطرتها، حتى أصبح اليمن ساحة من ساحات
العمل الإيراني وذراعها القوي والأكثر جرأة في دعم المشروع الإيراني وإلحاق الأذى
بدول المنطقة وخصوم إيران وخصوصا الخليجية منها.
وما أن امتد الربيع العربي إلى سوريا واستطاعت الثورة السيطرة على
أجزاء كبيرة من المدن السورية وتراجع النظام السوري أمامها، حتى وجدت إيران في دعم
نظام بشار الأسد فرصة لتمد نفوذها إلى دمشق، مستغلة تلك الحرب في بسط سيطرتها
ونفوذها وتقاسم المناطق السورية بينها وبين الروس الذين دخلوا سوريا في خريف 2015،
لتصبح إيران صاحبة الكلمة العليا في سوريا، حتى وصل الأمر إلى قيامها بأعمال التغيير
الديموغرافي والديني في سوريا.
اكتمل هلال الإسلام السياسي الشيعي في المنطقة بقيادة إيران، فأصبح
نفوذها يسيطر على ثلاث عواصم عربية يوجد بينها اتصال جغرافي (العراق وسوريا ولبنان)،
وبناء ذراع صلب وقوي في اليمن يسيطر ويثير الفوضى في أهم الممرات المائية في
العالم، كما استطاعت إيران أن تبني تحالفا مع المقاومة
الفلسطينية وتقريب وجهات
النظر بين المقاومة الفلسطينية ونظام الأسد؛ بعد أن أغلقت معظم العواصم العربية أبوابها
في وجه المقاومة الفلسطينية وانطلاق تيار التطبيع العربي الإسرائيلي وما عُرف
بالاتفاقيات الإبراهيمية. نفوذ إيران سمح لها بتضخيم قوتها وتمدد مشروعها وزيادة
أوراق قوتها في المنطقة، لتصبح بعدها إيران أكثر وضوحا في التعبير عن طموحها كقوة
في المنطقة. وفي ذات الوقت كانت عينها على العبث في الشمال الأردني من خلال تهريب
السلاح والمخدرات إليه من سوريا، ومحاولة العبث أيضا بالمكون الديني والطائفي في
شرق السعودية.
(2) منعطف السابع من أكتوبر
قبل
انطلاق أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، كان الحديث الإعلامي كبيرا عن فكرة
"وحدة الساحات"، والتي تمثل فكرة اتفاقيات الدفاع المشترك بين حلفاء
إيران وأذرعها في المنطقة. بدأت عملية "طوفان الأقصى"، وبدأت الحرب على
غزة، لكن أذرع إيران لم تدخل على خط المواجهة إلا من خلال الجبهة اللبنانية (حزب
الله)، الذي كان يصعد بشكل حذر ومتدرج ومحدود.
كان لاستهداف إسرائيل
القنصلية الإيرانية في سوريا ربيع العام الماضي، ومقتل أكثر من 16 شخصا، بداية لاندلاع
المواجهة بين إسرائيل وإيران وأذرعها بشكل مباشر، هذا الهجوم الذي ردت عليه إيران
في ذات الشهر بدفعة صواريخ طويلة المدى لترد إيران بضربة أخرى بعد اغتيال رئيس
المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في إيران، مما دفع إسرائيل لشن هجوم كبير
وقاسٍ على حزب الله؛ فقدَ خلاله كثيرا من قوته العسكرية وقياداته السياسية
والعسكرية وحدث اجتياح محدود لأجزاء من الجنوب اللبناني، كما تم توجيه ضربة للدفاعات
الجوية الإيرانية ومراكز صنع الصواريخ الباليستية في إيران، ليعقب ذلك توجيه ضربات
عسكرية كبيرة إسرائيلية وغربية إلى الحوثيين في اليمن وضرب المليشيات التابعة
لإيران في العراق.
كانت للضربات الإسرائيلية
على إيران وأذرعها في المنطقة، والتي شاركت في بعضها الدول الغربية، الدور الكبير
في تبدل المناخ السياسي في المنطقة، لتتحرك قوات المعارضة السورية المتمركزة في
إدلب بعد قراءة المشهد السياسي الإقليمي وتبدل مراكز القوة وضعف حلفاء النظام
السوري المخلوع، فأصبح نظام الأسد مكشوف الظهر، ليشكل سقوطه السريع صدمة كبيرة
لإيران التي استعانت بالقوات الروسية من أجل إجلاء أكثر من 4000 عسكري إيراني أثناء
تراجع جيش الأسد وتقدم المعارضة السورية، ليشكل نجاح المعارضة وسقوط الأسد بداية
انقلاب الحالة الإيرانية وتقهقر مشروعها بأسرع مما كانت تتوقع، فكانت خسارتها
الاستراتيجية كبيرة في سوريا التي بذلت من أجل السيطرة عليها الكثير من الأموال
والسلاح والدم، بعدها فقدت إيران كثيرا من قوتها التي عملت على بنائها خلال
العشرين عاما الماضية.
وما أن سقط نظام الأسد،
ووجدت قيادة الثورة السورية الحضن الدافئ في معظم العواصم العربية وتعاملت القيادة
السورية الجديدة بعدائية تجاه إيران، حتى بدأت المشاكل السياسية المستعصية في بعض
العواصم العربية التي تسيطر عليها إيران تُحل الواحدة تلو الأخرى، فتم انتخاب رئيس
للبنان بعد أن بقي المنصب شاغرا لأكثر من سنتين، وتم تكليف نواف سلام رئيسا جديدا
للحكومة، ليخرج لبنان من حالة الاستعصاء السياسي الذي كانت تصنعه وتديره إيران في
لبنان، فيما بدأ الصوت الإسرائيلي أعلى في الحديث عن ضرب المواقع النووية
الإيرانية، وبدأ حلم نتنياهو بمحاولة التحقق، رغم بقاء وجود الخطوط الحمر الأمريكية قائمة بمنع القيام بمثل هذا العمل العسكري.
المشروع الإيراني المحمول على ظهر الكراهية الطائفية في المنطقة أحدث ضررا كبيرا قد يوازي الضرر الذي أحدثته إسرائيل في المشروع العربي، إلا أن بقاء هذا المشروع ضعيفا منزوع المخالب يُشَاغِلُ الكيان الصهيوني ضرورة مرحلية، حتى لا يصب تراجع المشروع الإيراني السمنَ والعسلَ في الصحن الإسرائيلي في ظل غياب مشروعٍ عربيٍّ كبيرٍ يملأ هذه المساحة. فالطبيعة لا تقبل الفراغ
في ذات الوقت، فإن إيران
مقبلة على مرحلة صعبة مع قدوم ترامب، الذي يهدد بفرض مزيد من العقوبات الأمريكية
القاسية عليها، قد تصل إلى الحد الذي يشبه العقوبات التي فُرضت على نظام صدام حسين
وبشار الأسد، عقوبات تزيد الضغط على النظام الحاكم في طهران، مما قد يعرضه إلى
حالة انتفاضة شعبية وعدم استقرار داخل الدولة قد يؤدي في النهاية إلى سقوط النظام
الديني الحاكم منذ نصف قرن تقريبا.
(3) أيُّ نوعٍ من التراجع الإيراني يَخْدُم المنطقة؟
من المؤسف ألَّا يكون هناك مشروعٌ عربيٌّ يمكن أن يستفيد من تراجع
المشروع الإيراني، وأن تراجع المشروع الإيراني أو انهياره سوف تستفيد منه بالدرجة
الأولى إسرائيل التي تشعر بالقوة في الوقت الحالي، وتجد نفسها قد حققت نقاطَ
انتصارٍ على إيران ومشروعها الذي يُزَاحِمُها في المنطقة.
قد يكون بقاء إيران قوة محدودة في المنطقة تُشَاغِبُ على المشروع
الإسرائيلي، مع تفكيك نفوذها في العواصم العربية، هو الحالة المثالية التي يمكن أن
تخدم الدول العربية حتى قيام مشروعٍ عربيٍّ يستعيد صدارته في المنطقة.
انهيار المشروع الإيراني بالكامل يعني خدمة خالصة للمشروع الإسرائيلي،
فمن المصلحة تراجع الدور الإيراني في اليمن ولبنان والعراق، لكن من المهم في نفس
الوقت بقاء المشروع الإيراني المعادي للكيان الصهيوني المتزاحم معه في فلسطين، لا
في العواصم العربية. من مصلحة الدول العربية أن تبقى ثنائية الصراع قائمة بين
إيران وإسرائيل حتى قيام مشروعٍ عربيٍّ يملأ الفراغ، وإن أحادية المشروع أو أحادية
القطب الإسرائيلي الغربي في المنطقة تعني الضرر الخالص لأي مشروعٍ عربيٍّ يولد في
المستقبل.
بلا شك أن المشروع الإيراني المحمول على ظهر الكراهية الطائفية في
المنطقة أحدث ضررا كبيرا قد يوازي الضرر الذي أحدثته إسرائيل في المشروع العربي، إلا
أن بقاء هذا المشروع ضعيفا منزوع المخالب يُشَاغِلُ الكيان الصهيوني ضرورة مرحلية،
حتى لا يصب تراجع المشروع الإيراني السمنَ والعسلَ في الصحن الإسرائيلي في ظل غياب
مشروعٍ عربيٍّ كبيرٍ يملأ هذه المساحة. فالطبيعة لا تقبل الفراغ، وبقاء الساحة
العربية خالية من أي قوةٍ ستكون الكلمة العليا في المنطقة لإسرائيل.