إذا كان
ترامب يريد
تهجير أهل قطاع
غزة من ديارهم، فلمن
يريد أن يقدم "أوهام" الرفاه الاقتصادي الموعود في القطاع؟!
تظهر السماجة والوقاحة في تصريحات ترامب وهو يريد أن
يعاقب أهل غزة مرتين: الأولى بالشراكة الأمريكية مع
الاحتلال الإسرائيلي في الحرب
الوحشية المدمرة على غزة والمجازر المرتكبة، والثانية في طرد أبناء غزة وتهجيرهم
بعد أن صمدوا وقبضوا على الجمر، وانتصرت مقاومتهم، وأفشلوا مشروع التهجير
الإسرائيلي في أثناء الحرب، ثم تغليف ذلك وكأنه مشروع رفاه اقتصادي، ولكن ليس
لأهل غزة!! ترامب يريد أن يحقق بالابتزاز والسياسة ما عجز عنه مع حلفائه
الصهاينة بالحرب.
تناقضات وأحلام يقظة:
ترامب يقدم نفسه للمنطقة وللعالم كتاجر مقامر بلطجي،
ويتعامل مع العالم كسوق أو كغابة أو كحارة "للزعرنة". يتحدث عن
الشيء ونقيضه، فيتحدث عن الفلسطينيين ومعاناتهم، ويُقدّم حلّا بالمزيد من
إذلالهم وسلبهم حقوقهم! يتعامل مع فلسطين المحتلة كأرض مقدسة وأرض سلام، ولكنه
مستعد لإغراقها في بحر من الدماء إذا تعلق الأمر بأهلها وشعبها الفلسطيني؛
فالقدسية والسلام مرتبطة عنده كمسيحي إنجيلي متعصب بتحقيق نبوءات توراتية إنجيلية؛
ولا يدرك، ولا يريد أن يدرك، قيمتها لأبناء فلسطين المتجذرين في أرضهم منذ آلاف
السنين، ولا قيمتها عند كل مسلم كأرض مقدسة مباركة وكأرض أنبياء وأرض الإسراء وأرض
المسجد الأقصى، وكأرض امتزج بترابها رُفاتُ ودماء الأنبياء والصحابة والتابعين
وعشرات الآلاف من الشهداء؛ وكأرض كانت وما زالت مركزا للصراع بين الحق والباطل،
ومقرا للطائفة المنصورة، ومقبرة للغزاة على مرّ التاريخ.
ترامب يقدم نفسه للمنطقة وللعالم كتاجر مقامر بلطجي، ويتعامل مع العالم كسوق أو كغابة أو كحارة "للزعرنة". يتحدث عن الشيء ونقيضه، فيتحدث عن الفلسطينيين ومعاناتهم، ويُقدّم حلّا بالمزيد من إذلالهم وسلبهم حقوقهم! يتعامل مع فلسطين المحتلة كأرض مقدسة وأرض سلام، ولكنه مستعد لإغراقها في بحر من الدماء إذا تعلق الأمر بأهلها وشعبها الفلسطيني.
يتحدث ترامب في غياب كامل عن المعايير الأخلاقية
والإنسانية، فمعاناة الفلسطينيين ناشئة عن الاحتلال الإسرائيلي الذي تدعمه أمريكا
وعن وحشيته التي تمولها وترعاها، وعن الغطاء السياسي والدولي و"الشرعية"
المصطنعة التي توفرها له. والحل يكون بإنهاء الاحتلال واستعادة الفلسطينيين لحقوقهم كافة؛ وليس بتكريس الاحتلال وتوسيعه، ومعاقبة الشعب الفلسطيني المظلوم الواقع تحت
الاحتلال. وتطهير الأرض يكون بتطهيرها من الاحتلال والظلم، وليس بالتطهير العرقي
والإبادة الجماعية لأصحاب الأرض وأهلها.
يتحدث ترامب عن استيعاب مصر والأردن لتهجير جماعي جديد
للفلسطينيين من قطاع غزة، باعتبارها أماكن متَّسعة لذلك؛ ويتعامى عن أن معظم هؤلاء
الفلسطينيين مهجّرون من أرضهم التي يحتلها الكيان الصهيوني منذ سنة 1948، وأن الحل
الطبيعي لهم هو عودتهم لأرضهم وممتلكاتهم، وأن هناك أكثر من 150 قرارا
عالميا من الأمم المتحدة بحق العودة، تكرر صدورها طوال الـ76 سنة
الماضية، وأن العائق الرئيس أمام تطبيق هذه القرارات كان رفض وتعنُّت وتجاهل
أمريكا وحلفائها الغربيين. فإذا كان ترامب تُحزنه الحالة المأساوية للفلسطينيين، فليتركهم ليعودوا إلى ديارهم.
أمريكا التي تتفاخر بشعار "الحرية"، لا تستطيع
قيادتها أن تراها حقا للإنسان الفلسطيني، ولا تريد أن تدرك أي إدراك، ينبني عليه
موقف عملي، أنها معنى إنساني عظيم للبشر كافة. وأن جوهر مشكلة الفلسطيني هي في
نيل حريته وكرامته وتحقيق إرادته وتقرير مصيره على أرضه. في المقابل، يقبل ترامب
وفريقه "حرية" الاحتلال الإسرائيلي في الاحتلال، و"حريته" في
ارتكاب المجازر والإبادة الجماعية، و"حريته" في التدمير، وحريته في
"التهجير"، و"حريته" في الحصار والتجويع.
إن جوهر مشكلة
الفلسطيني في الاحتلال نفسه، الذي يدمر البنى التحتية والاقتصاد ويمنع التنمية
ويحرق المزروعات والمصانع وأشكال الحياة كافة؛ ومن ثم فمشكلة معيشة الفلسطينيين
وتلبية احتياجاتهم مرتبطة بإنهاء الاحتلال نفسه، الذي اصطنع أشكال المعاناة كافة؛
ولا حاجة للفلسطينيين بعد ذلك لأمريكا ولا لحلفائها، ولا لأحلام الرخاء والازدهار
تحت بيئات الاستعباد والمنافي واللجوء.
تظهر القراءة الواقعية لسلوك ترامب أنه لا يرغب في الحرب، ولا يريد دفع أثمانها، ولكنه يدير عملية ابتزاز، ليس في غزة فقط، وإنما في جرينلاد وكندا والمكسيك وبنما، وحتى مع حلفائه الأوروبيين والعرب، حيث يعمد من خلالها إلى رفع السقف إلى أعلى بكثير مما يمكن أن يحصل عليه، ليستخدمه في المساومة للحصول على ما يريد.
ترامب الذي أعلن عن سعي أمريكا للسيطرة على قطاع غزة وامتلاكه،
يتحدث عنه وكأنه "مزرعة أبيه"، وكأن المكان مفتوح له للقدوم والسيطرة
والتملُّك. يجب أن يتذكر ترامب أن هذه الأرض (كجزء من أرض فلسطين) بالرغم من كل
معاناتها، إلا أنها منذ أكثر من مائة عام تموج بالثورات والانتفاضات، وأنها أفشلت
طوال تلك الفترة مشاريع التهجير كافة، وأنها خاضت في الـ17 سنة الماضية
خمسة حروب، كان آخرها وأعظمها طوفان الأقصى، وأنها في النهاية أخضعت العدو
الصهيوني لشروطها، وفرضت عليه الخروج من أرضها، وأن قدوم الأمريكان لاستعمار غزة
لن يكون نزهة، وأن مصيره السقوط والفشل. وليتذكر ترامب كيف انسحب الأمريكان من
لبنان بعد الضربة التي تلقاها المارينز، وكيف انسحبوا من الصومال، وما حدث لهم في
العراق، وكيف انسحبوا من أفغانستان، وقبل ذلك من فيتنام.
القراءة الواقعية لسلوك ترامب:
من ناحية أخرى، تظهر القراءة الواقعية لسلوك ترامب أنه
لا يرغب في الحرب، ولا يريد دفع أثمانها، ولكنه يدير عملية ابتزاز، ليس في غزة
فقط، وإنما في جرينلاد وكندا والمكسيك وبنما، وحتى مع حلفائه الأوروبيين والعرب،
حيث يعمد من خلالها إلى رفع السقف إلى أعلى بكثير مما يمكن أن يحصل عليه، ليستخدمه
في المساومة للحصول على ما يريد. وهي عملية مناورة يستخدم فيها أشكال النفوذ كافة،
ووسائل الحرب الدعائية والضغوط السياسية، لإيجاد "واقع وهمي"، يحاول من
خلاله إعادة تشكيل الوعي، وجعل النقاش في المستحيلات أمرا مقبولا، وإشغال البيئة
السياسية بفرقعاته السياسية والإعلامية، وصرف النظر عن انتصارات المقاومة، وعدم تلبية
الاحتياجات الحقيقية لقطاع غزة، وتوفير التعويض السياسي والنفسي للاحتلال
الإسرائيلي، وتغطية عجزه وفشله.
ومن ثم، يجعل التراجع عن ذلك السقف المرتفع
"تضحية" وتنازلا؛ ويحاول جعل التدخل الإسرائيلي الأمريكي في مستقبل غزة
أمرا عاديا، وجعل تلبية الشروط الإسرائيلية أمرا متاحا، بحيث يصبح تهميش حماس
والمقاومة وعزلها ونزع أسلحتها، وفرض إدارة متعاونة مع الاحتلال (عميلة) على
القطاع أمرا "معقولا" قياسا بتهجير الفلسطينيين من القطاع.
* * *
وأخيرا، فهذا صراع إرادات، وهذه معركة وعي، وهي معركة
خطيرة يجب إدارتها بحزم وثقة وحكمة، مع إبقاء اليد على الزناد، وحسن التوكل على
الله سبحانه. وهي معركة ستنجح المقاومة وشعب فلسطين والأمة في النهاية في التعامل
معها، وستُسقط أحلام ترامب ومشاريعه، كما أسقطت من قبل "خطة القرن"،
وستلقيها في مزبلة التاريخ.
x.com/mohsenmsaleh1