دخل دونالد
ترامب كالإعصار على مشهد عالمي مضطرب فزاده اضطرابا. نصره
المؤزر على خصومه في الداخل أعطاه روحا عدوانية إضافية، فانطلق يهدد العالم كأن
ليس هناك قوة في العالم يمكن أن تقف في طريقه، شملت تهديداته
العرب منطلقا من
فلسطين. لست معنيا كعربي بما يوجهه من تهديدات إلى أوروبا وكندا لكني انتبهت رغما
عني إلى حالة الخوف التي استشرت في المنطقة العربية من الإعصار الترامبي، فالقوم
عندنا وأعني الأنظمة وأجهزتها الإعلامية بالتحديد؛ سقطت قبل الضربة وانتقل الحديث إلى
كيفية تخفيف أضرار الإعصار لا تحديه فهو قدر مقدور. هذا الخوف كاشف لأمور مهمة
سنحاول مقاربتها.
عرب لم يقرأوا الطوفان
قول ترامب بالتهجير لم يتجاوز حتى الآن التصريح العابث لشخص غير مسؤول (في
باب طائرته)، فإدارته لم تصدر قراراتها التنفيذية بالتهجير. وهي ولو أصدرتها لا
تعتبر ملزمة لأحد فهي ليست أقدارا إلهية، لكن الخوف غلب نفوسا مرعوبة جبلّة؛ سأقول
أنفسا مستعدة للخيانة.
قول ترامب بالتهجير لم يتجاوز حتى الآن التصريح العابث لشخص غير مسؤول (في باب طائرته)، فإدارته لم تصدر قراراتها التنفيذية بالتهجير. وهي ولو أصدرتها لا تعتبر ملزمة لأحد فهي ليست أقدارا إلهية، لكن الخوف غلب نفوسا مرعوبة
نضع صورة الخوف الرسمي العربي من قول ترامب العابث في مقابل طوفان عودة
الفلسطينيين إلى شمال
غزة وإلى حماسهم العجيب في إعادة ترميم حياتهم المدمرة.
الاستنتاج الأول من الصورتين أن الأنظمة العربية لم تقرأ انتصار حرب الطوفان، بل
هي تستهين بنتائجه وفي العمق تبني على الرواية الصهيونية عن انتصار مطلق، وأن ما
يجري في غزة الآن هو شأن صغير لا يكشف تغييرا على الأرض.
إن عودة ترامب إلى مشروع
التهجير هو استجابة للطلب الصهيوني الذي دخلت به
الحرب بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ولم تفلح في تحقيق أي خطوة منه. يفترض أن يتحول هذا النصر الفلسطيني إلى ورقة بيد الأنظمة (لن نحاسبها هنا عن خذلان المعركة
في حينها)، لكن النصر حاصل فعلا ويمكنه أن يتحول إلى ورقة تفاوض بيد الأنظمة
المرعوبة، وهناك أوراق قوية يمكن تجميعها لرفض التهجير:
- الرفض الفلسطيني للتهجير الظاهر في طوفان العودة إلى الشمال والشروع
بالأيدي العزلاء في الترميم والتعمير.
- الرفض الشعبي العربي للتهجير خاصة في الأردن ومصر.
- العجز الصهيوني غير الخفي عن مواصلة الحرب بنفس الطريقة التي خاضتها لمدة
15 شهرا.
- العجز الأمريكي عن تمويل الحرب بعد ما أنفقته في حرب الطوفان ولم يحقق
نصرا ولا تهجيرا.
ماذا بقي بيد الأنظمة إذن؟ بقي لها أن تواصل تجارتها ببيع الفلسطيني كما
دأبت دوما، ولا نراها تتوجس فعلا من نقل صعوبات إضافية لشعوبها بنقل سكان جدد
مفقرين وعاطلين عن العمل ويحتاجون تعليما وسكنا وحياة كاملة، ويحملون فوق ذلك جروح
الخذلان في أعماق نفوسهم.
الأنظمة العربية (دول الطوق بالتحديد) ما تنفك رغم حرب الطوفان تستجدي
بقاءها في الحكم بترضية الكيان وحماته الغربيين. لقد كان التطبيع وسيلتها، لكن حرب
الطوفان أفسدت كل خطط التطبيع رغم أن ملف التطبيع لم يغلق نهائيا، إلا أن هذه
الأنظمة تغير تكتيكاتها الآن لمواصلة نفس المهمة. هنا نقول بيقين: لم تفهم الأنظمة
حرب الطوفان ولم تستوعب نتائجها على الأرض، ولا نراها تستوعب الثبات الفلسطيني.
لقد تغيرت الوقائع على الأرض
الفلسطيني لم يمت، إنه هنا والآن ويصر على البقاء وقد زاد في أرصدته بمائة ألف
شهيد، لا بل أثبت للعالم أن العدو انهزم ووصل إلى مرحلة العجز عن مواصلة الحرب
مهما تسلح (لقد بقي له فقط أن يستعمل سلاحا نوويا في غزة).
هذه حقيقة تفقأ عين العالم فكيف لا تراها الأنظمة العربية؟ إنها لا تريد أن
تراها لأنها مرابطة في موقعها قبل الطوفان، أي تقديم خدمة للكيان وحماته الغربيين
بكسر إرادة الفلسطيني ومنعه من التحرر وصولا إلى منعه من الحياة ليبقى الكيان
الحامي للأنظمة.
الوضع بعد حرب الطوفان ليس كما كان قبله، هذا قول نسمعه في التحليلات
الغربية المتألمة لهزيمة الكيان والتي نظن يقينا أنها تناقش الآن في مراكزها
الاستراتيجية السؤال المصيري: ما فائدة الكيان بعد حرب الطوفان فوظيفته استنفدت،
وصارت كلفته عالية ومن المستحيل إعادته إلى دوره قبل الطوفان؟
لقد استشرف عبد الوهاب المسيري رحمه الله هذا الاحتمال منذ زمن فقال إن رفع
كلفة الكيان على مموليه تنهي دوره، وقد ارتفعت الأكلاف إلى حد العجز عن التمويل
بالذخيرة، فضلا على أن أداته العسكرية (التي لا تهزم) انهزمت وأثبتت عجزها إلا
بتعويضها بجندي غربي غير معني بحرب ليست له.
فإذا أضفنا إلى ذلك عناصر أخرى منها اتساع الرفض الشعبي العربي لكل محاولات
التطبيع أكثر مما كان عليه الأمر قبل الطوفان، ومنها ارتفاع معنويات الفلسطيني
نفسه وقد قبِل البقاء في خرابته على الهجرة و"تسليك أموره الفردية" دون
أن نغفل التغيير العميق الذي حدث في سوريا وفقدان العدو لنظام "سفيه كان
يحميه حماية مطلقة"، وإليها نضيف تحولا عميقا في أوساط الرأي العام الغربي
الذي بدأ يتحرر من السردية الصهيونية ويرى الحقيقة.
لماذا تخاف الأنظمة من ترامب؟ لا نراها خائفة من ترامب فعلا بل إنها تخاف
أولا من شعوبها، وهي إذ تراود ترامب وتتمسكن أمامه تقوم بآخر محاولة للبقاء على
عروشها. إنها تقول كما قال عباس "احمونا، احسبونا كلابكم واحمونا" من
الفلسطيني المنتصر ومن شعوبنا المتوثبة. فعدوى النصر تسري في عروق هذه الشعوب التي
رفضت التطبيع منذ أول اتفاقية.
نعم لم تفلح الشعوب العربية في العبور إلى غزة زمن الحرب (لأن جيوش الأنظمة
حمت المعابر من تدفق الشعوب)، لكن النصر عبر إليها ورفع معنوياتها فزادت يقينا بأن
التحرير الشامل ممكن. هنا تتسع الفجوة بين الشعوب وأنظمتها، والفجوة التي وسعها
الربيع العربي مزقها الطوفان.
هنا لا يمكننا أن نتوقع تراجعات شجاعة من الأنظمة نحو شعوبها لتقر بأن
شرعية البقاء لا يمكن أن تكون بغير الديمقراطية في الداخل العربي، ولكن استحقاق
النصر الذي تحتاجه غزة من العرب هو أن تتحول المشاعر الإيجابية للنصر إلى فعل شعبي
تقوده قوى حية مؤمنة بالتحرير، وهي الإمكانية الوحيدة لتصل رسالة واضحة لترامب في
عليائه. انسَ التهجير وفكّر أن تتحدث حديث الديمقراطية مع الشعوب، فالطوفان انتصر
في غزة والثمن دُفع في غزة والصدى وصل إلى آخر الأرض. هل تلتقط إدارة ترامب
الرسالة؟ إن ترامب تجسيد مطلق للقوة الغبية، وستنتظر حتى تبدأ إدارته حسابات
خساراتها في الأقطار؟ العام 2025 هو عام التحولات الكبرى في الشرق العربي. هذا
يقين لا نفلح في وضع خريطة له.