كتب

هل شارفت النيوليبرالية على نهايتها؟ قراءة في كتاب

لقد فرضت النيوليبرالية نفسها كعقل جديد للعالم بطرق متعددة..
لقد فرضت النيوليبرالية نفسها كعقل جديد للعالم بطرق متعددة..
الكتاب:  La nouvelle raison du monde
Essai sur la société néolibérale
المؤلفان: Pierre Dardot, Christian Laval
 الناشر:  ,Paris,2009. Découverte La


عند نهاية الحرب الباردة، كتب العالم السياسي فرانسيس فوكوياما مقالا شهيرا بعنوان "نهاية التاريخ؟" زعم فوكوياما أن انهيار الشيوعية من شأنه أن يزيل العقبة الأخيرة التي تفصل العالم بأسره عن مصير الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق. وقد وافقه كثيرون.

اليوم، ونحن نواجه تراجعا عن النظام الرأسمالي العالمي الليبرالي القائم على القواعد، حيث يقود حكام مستبدون وزعماء الدهماء دولا تضم ما يزيد على نصف سكان العالم، تبدو فِكرة فوكوياما غريبة وساذجة، لكنها عززت العقيدة الاقتصادية النيوليبرالية التي سادت على مدار السنوات الأربعين الأخيرة.
فقد تعرضت الرأسمالية لاختبارات وأزمات وشهدت نقاشات وجلسات عصف فكري بين خبراء وأساتذة الاقتصاد، وطرحت تساؤلات عميقة حول علاقة الدولة بالاقتصاد أو دورها في (الحياة الاقتصادية) وظل الخلاف محتدما بين من يطالب بتولي الدولة توجيه الاقتصاد والتدخل للحد من تأثيرات الكساد ورقابة الاسواق وتحفيزها وتنظيمها والإشراف عليها، ومن يرى ضرورة إطلاق الحرية لها لتنظيم واصلاح نفسها وقيادة وتطوير نظمها بعيدا عن رقابة الدولة، وهو الفكر الذي تبنته معظم الاقتصاديات الغربية أخيرا، والكثير من المحللين والخبراء في الغرب يلقون عليه تبعات الأزمات المالية والاقتصادية التي ضربت العالم، منطلقين من حقيقة أنها سوق منفلتة من قبضة الدولة، بل إن السوق هو الذي يهيمن على الدولة.

السلطة السياسية في زمن العولمة، أو التوتاليتارية الليبرالية الجديدة تحولت إلى مجرد خادم أو مجرد نادل في مقهى الأسواق المالية التي آلت إليها السيادة الفعلية على العالم، لأن الحاكم الفعلي في عالم اليوم، هو الرأسمال المالي، وتوتاليتارية الأسواق، وتوتاليتارية تقنيات الاعلام الجماهيري.
ففي أزمة 2007م رفضت الخزانة الأمريكية في المرحلة الأولى التدخل لإنقاذ المصارف والشركات الكبرى على ضوء مبادئ حرية السوق، لكن الانعكاسات الخطيرة وتوالي الهزات والانهيارات فرضت حتمية تدخل الحكومة لإنقاذ الموقف، وعلى الرغم من انقضاء سنوات على تعافي الاقتصاد العالمي، إلا أن الفكر الرأسمالي لم يقم بتصحيح أوضاعه وتحديث أنظمته وتعزيز الضوابط وآليات المراقبة والاشراف، وهو ما سوف ينعكس على المستقبل في أزمات مالية أخرى قادمة ستكون أشد وأسوأ من السابقة، وفقا لتصورات العديد من الخبراء.

مع انتصار إيديولوجيا النيوليبرالية، أو الليبرالية الجديدة في زمن العولمة، التي تزعزع أسس الحياة الاجتماعية في مختلف أنحاء المعمورة شمالا وجنوبا، والتي تقوم على المرتكزات التالية: الدعوة المتطرفة إلى الحرِّية الاقتصادية، وإنكار دور الدولة في ضبط آليات وحركة النظام الرأسمالي والتخفيف من شروره الإجتماعية (تحديدا في مجال التوزيع والعدالة الإجتماعية)، هيمنتها على المنظمات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، وتعاملها مع البلدان النامية من منطلق التكيف وضرورته مع السوق الرأسمالي العالمي، وابعاد الدولة واضعافها، وترك آليات السوق لكي تعمل طليقة، برزت في العالم الغربي إيديولوجيا نقدية هي الأكثر شيوعا اليوم، إيديولوجيا مضادة للعولمة الرأسمالية المتوحشة، تصف الليبرالية الجديدة أو الليبرالية المتوحشة، بإيديولوجيا كاملة لإدارة الأزمة في النظام الرأسمالي العالمي.

فالليبرالية الجديدة التي جاءت مع صعود رونالد ريغان إلى السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، ومارغريت تاتشر في بريطانيا، في بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، كانت نتيجتها تعميق الفوارق الطبقية الحادة داخل البلدان الغربية عينها. فالسلطة السياسية في زمن العولمة، أو التوتاليتارية الليبرالية الجديدة تحولت إلى مجرد خادم أو مجرد نادل في مقهى الأسواق المالية التي آلت إليها السيادة الفعلية على العالم، لأن الحاكم الفعلي في عالم اليوم، هو الرأسمال المالي، وتوتاليتارية الأسواق، وتوتاليتارية تقنيات الاعلام الجماهيري.

وعلى هذا النحو يؤكد عالم الاجتماع الفرنسي الراحل بيار بورديو في معرض نقده للعولمة، بقوله، إن التوتاليتارية لم تعد صفة للدولة بل صفة للإقتصاد، وأن التوتاليتارية الاقتصادية، بعكس التوتاليتارية السياسية، توتاليتارية مغلفة ولا منظورة، وتبسط هيمنتها " السرية " على العالم بأسره.

العالم بحاجة اليوم إلى وقفة هادئة ومتأنية بعد انفجار الأزمة المالية العالمية في مركزها: الولايات المتحدة الأميركية، والتي أصبحت تداعياتها شاملة أصقاع الأرض كلها. حاول المؤلفان في هذه الدراسة أن يقدما بحثًا نقديًا وعلميًا حول طبيعة الأزمة المالية هذه، وتداعياتها الكونية والإقليمية المتعلقة بالصراع العربي ـ الصهيوني.فهذه الأزمة تعبر في جوهرها عن أزمة الرأسمالية العالمية في طورها الراهن بوصفها نظاماً مهيمناً، ويشكل قاسما مشتركا بين البشر جميعا، ويمتد في كل مكان، ويخص الجميع على كل مساحة الكرة الأرضية. وهذه الأزمة المالية العالمية الخانقة التي اندلعت شرارتها في الولايات المتحدة الأمريكية في صيف 2007، وامتدت إلى معظم دول العالم، ليست بجديدة، لكنها تعد الأقوى والأصعب من بين الأزمات التي عرفها مجتمع المال والأعمال منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

فالولايات المتحدة الأمريكية وبعد الخراب الذي أحدثته أزمة العقارات في الممتلكات وفي أسواق المال لم تعد قبلة الرأسمالية المنتظمة كما عهدها العالم. فقد أصبحت مصدرا للفوضى المالية بحكم القنوات الاستثمارية التي تربطها بمعظم الاقتصادات الأوروبية ـ الآسيوية والشرق ـ أوسطية وغيرها.

الليبرالية الجديدة ومن خلال استكشاف مكوناتها الأيديولوجية، والظروف السياسية والاقتصادية لانتشارها، يزيل المؤلفان العديد من الالتباسات التي تحيط بها: فالليبرالية الجديدة ليست لا عودة إلى الليبرالية الكلاسيكية المعروفة، ولا هي إعادة لرأسمالية "صافية" التي تغلق المرحلة الطويلة للكينزية.

إن ارتكاب مثل هذا التفسير الخاطئ، يعكس لنا عدم فهم بدقة ماهو جديد في النيوليبرالية هذه، حسب تعبير المؤلفين.إذ إن أصالتها تكمن بالأحرى في إحداثها انقلابا حقيقيا في الأوضاع أكثر منه عودة: "بعيدا كل البعد عن رؤية أن السوق بوصفها معطى طبيعيا التي ستحدد عمل الدولة، فإنها قررت هدف إعادة بناء السوق وجعل من الشركة نموذجا لحكومة الأشخاص".

الولايات المتحدة الأمريكية وبعد الخراب الذي أحدثته أزمة العقارات في الممتلكات وفي أسواق المال لم تعد قبلة الرأسمالية المنتظمة كما عهدها العالم. فقد أصبحت مصدرا للفوضى المالية بحكم القنوات الاستثمارية التي تربطها بمعظم الاقتصادات الأوروبية ـ الآسيوية والشرق ـ أوسطية وغيرها.
لقد أحدثت الشركات متعددة الجنسيات تبدلاً حقيقيًا في الرأسمالية لجهة تدويل الإنتاج، والأسواق، ورأس المال، وإندماج مجالات الإنتاج الرأسمالي في المرحلة التنافسية، التي كانت تجد تجسيدها في رؤوس الأموال الخاصة بكل مجال. وتعبر الشركات متعددة الجنسيات عن إندماج الرأسمال المصرفي والصناعي في الرأسمال المالي، حين تقضي على إستقلال المجالات الثلاثة، عبردمجها جميعها في مركز قراراتها، من أجل إلغاء احتفاظ الرأسمال التجاري بجزء من فائض القيمة، واستبدال العمل القاصر للتنظيم الذاتي للسوق، بالنسبة للإنتاج، بالآليات المخططة.

منذ بداية عقد السبعينات من القرن الماضي، دخلت الرأسمالية في أزمة بنيوية، وشهد العالم الرأسمالي سلسلة من الأزمات المالية والنقدية، إضافة إلى الإتجاه نحو التضخم والركود. وفي يوم 15 آب 1971، قرَّر رئيس الولايات المتحدة الأميركية آنذاك ريتشارد نيكسون إلغاء قابلية تحويل الدولار إلى ذهب. وانهار بذلك كل نظام بريتون وودس (1944) الذي تمخض عنه ولادة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهو النظام الذي أقامته الولايات المتحدة الأمريكية التي خرجت منتصرة من الحرب العالمية الثانية، وكانت تهدف إلى تحقيق تكامل في الاقتصاد العالمي تحت قيادتها، لكي يخدم إقتصادها الأقوى والأغنى.

ومنذ ذلك التاريخ شهد العالم ولادة ما يمكن أن نطلق عليه إسم " الرأسمالية الجديدة"، لأنَذها أعادت حرِّية المناورة النقدية لواشنطن، وفتحت الطريق للإجراءات الأكثر راديكالية على صعيد الإضطراب المالي، وسمحت لإزدهار العولمة الليبرالية. وتعرضت الثورة الكينزية في السنوات اللاحقة (التي شكل تدخل الدولة في النشاط الإقتصادي والإجتماعي جوهرها) لثورة مضادة، سواء على صعيد الفكر الاقتصادي أو صعيد السياسات الاقتصادية. وتوصل منظرو المدرسة النقدية الذين تكونوا في جامعة شيكاغو- وتجمعوا حول الأستاذ ميلتون فريدمان (جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1976 وأحد المناهضين الكبار لجون مايناردكينز) ـ إلى السلطة، أولا داخل الفرق التي تحيط بالجنرال بينوشيه في التشيلي، ثم ثانيا مع مارغريت تاتشر في المملكة المتحدة، وأخيرا مع رونالد ريغان في واشنطن.

ومن العام 1975 حتى العام 1980 كانت النيوليبيرالية تحل شيئاً فشيئاً مكان النموذج الكينزي، وقد أنجزت عملية الإنعطاف هذه في العام 1979 عندما قررت وزارة الخزانة الأمريكية أن ترفع فجأة معدلات الفوائد. ومنذ قمة البندقية في العام 1980، احتلت عملية مكافحة التضخم الأولوية، وأصبح الإتكال على مجالات التوظيف أمراً طوباوياً وانفتحت أزمة الدين في العالم الثالث. كانت هذه بداية الطور النيوليبرالي في نظام العولمة.

فعلى الصعيد الفكري تعرضت الكينزية لحصار نظري طاحن من خلال هجمات المدرسة النيوكلاسيكية التي قاد لوائها ميلتون فريدمان، وأنصار مدرسة إقتصاديات العرض. فقد نسبت هاتان المدرستان للتدخل الحكومي كافة الأزمات والمشكلات التي تعاني منها الرأسمالية (البطالة، الركود، إنخفاض الإنتاجية، التضخم، عجز الموازنة...الخ) والحق أن أنصار الكينزية عجزوا عن الرد، أو إقتراح سياسات براغماتية جديدة للخروج من الأزمة، خاصة أزمة الركود التضخمي، وإن كانت مساهماتهم النظرية في هذا المجال أو غيره، أمرا لا يمكن التقليل من شأنه. وعموما، فإنه لما كانت الرأسمالية، عبر شتى مراحل تطورها، قد أفرزت من تيارات الفكر الاقتصادي ما يناسب مصالحها ويعبر عن وعيها الطبقي، فإن الأزمة الهيكلية التي دخلت منذ مشارف عقد السبعينات قد أفرزت أشد تيارات الليبرالية تطرفا. وهذا التيار الليبرالي الجديد المتطرف، قد انقسم في الحقيقة إلى فرعين رئيسيين، يصبان معا في منبع واحد، هو المناداة بإطلاق الحرية الاقتصادية (بمعناها الهمجي) إلى أقصى حد ممكن.

الثورة المحافظة

لقد فرضت النيوليبرالية نفسها كعقل جديد للعالم بطرق متعددة. فبإسم " الثورة المحافظة"، بدأ هؤلاء الليبراليون المتطرفون ينشرون نيوليبرالية عدوانية ومضاعفة بنوع من الأنتي ـ كينزية المناضلة للقضاء على ذلك التقليد القديم ألا وهو ضرورة تحجيم دور الدولة وتدخلاتها في النشاط الاقتصادي والإجتماعي، منادين في الوقت عينه بأن الحرية الاقتصادية هي أساس حياة الفرد والمجتمع. وركزوا في هجومهم على السياسات الإجتماعية التي تطبقها الدولة في مجال السوق، مثل دعم صندوق التضامن الإجتماعي وإعانات البطالة، والرقابة على الأسعار، ودعم الخدمات التي توجه للطبقات الفقيرة، ومحدودي الدخل(كالدعم السلعي والعلاج المجاني أو الرخيص، فضلا عن الإسكان والتعليم إلخ).

الثورة النيو ليبرالية هي الجواب التاريخي الذي تقدمه البرجوازية الإحتكارية لأزمة الرأسمالية العالمية من أجل تحجيم دور الدولة في النشاط الاقتصادي والإجتماعي، وخفض معدلات الضرائب على الدخول والثروات المرتفعة، وإطلاق العنان لقوى السوق العمياء في بيئة يغلب عليها طابع الإحتكار.
فهذه السياسات في رأي أنصار النيوليبرالية هي التي أدت إلى زيادة العجز بالموازنة العامة للدولة. وهذا العجز قد مول من خلال الإئتمان المصرفي وطبع البنكنوت، مما كان له علاقة وثيقة بزيادة عرض النقود وإنفجار التضخم. كما أن جانبا من هذا العجز قد تم تمويله من خلال سياسة الدين العام الداخلي (الإقتراض من القطاع الخاص) فترتب على ذلك سحب جانب من المدخرات الحقيقية لتمويل الإنفاق الحكومي، وهي مدخرات كان من الممكن أن تتوجه للإستثمار المنتج وتزيد من معدلات النمو.وأولت االنيوليبرالية أهمية خاصة لتصفية نفوذ النقابات العمالية في البلدان الرأسمالية، وكذلك معظم المكاسب الإجتماعية التي حققها العمال في نضالهم الطويل ضد الإستغلال الرأسمالي.

الثورة النيو ليبرالية هي الجواب التاريخي الذي تقدمه البرجوازية الإحتكارية لأزمة الرأسمالية العالمية من أجل تحجيم دور الدولة في النشاط الاقتصادي والإجتماعي، وخفض معدلات الضرائب على الدخول والثروات المرتفعة، وإطلاق العنان لقوى السوق العمياء في بيئة يغلب عليها طابع الإحتكار.

قطيعة

بعد الأزمة المالية التي عصفت بالعالم 2007 ـ 2008، والتي يبدو أنها جسدت قطيعة أيديولوجية: على اليمين كما على اليسار، أصبح لزاما علينا توجيه النقد إلى لامعقولية السوق كلي العلم، والمنظم ذاتيا.إذ شارفت دورة تاريخية على النهاية، إنها دورة انتصار النيوليبرالية. ومن الواضح أن فضاء الإمكانيات مفتوح. ولكن السؤال الذي يطرحه المؤلفان بيار داردو وكريستيان لافال، من أجل الذهاب إلى أين؟

يوضح هذا الكتاب، أنه بعيدا عن اكتشاف هذا "الجنون المطبق"، فقد نجم عن هذا الانهيار عقلانية، كانت حركتها خفية، ومنتشرة، وشاملة.هذه العقلانية، التي هي سبب الرأسمالية، هي النيوليبرالية أو الليبرالية الجديدة عينها.

الانكماش الذي يعاني منه العالم في الوقت الحاضر، هو في حد ذاته تعبيرعن الأزمة العميقة التي تعاني منها الليبرالية. لقد فرضت النيوليبرالية نفسها كعقل جديد للعالم بطرق متعددة .

لقد فرضت النيوليبرالية نفسها كعقل جديد للعالم بطرق متعددة.
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم

خبر عاجل