قضايا وآراء

مقالةٌ في الصراع العبثي ضد هيئة الانتخابات التونسية

عادل بن عبد الله
"غاب منطق الانتخاب وحضر منطق التعيين"- عربي21
"غاب منطق الانتخاب وحضر منطق التعيين"- عربي21
كان تأسيس الهيئة العليا للانتخابات في 18 نيسان/ أبريل 2011 من قبل "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي"؛ حدثا مهما في تاريخ الانتقال الديمقراطي ومحاولات تفكيك منظومة الفساد والاستبداد. فلأول مرة منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا أصبحت الانتخابات تحت إشراف هيئة مستقلة منتخبة من نواب الشعب، بعد أن كانت تتم تحت إشراف وزارة الداخلية منذ سنة 1956.

وقد عرفت هيئة الانتخابات قبل "تصحيح المسار" عدة أزمات كان أشهرها أزمة 2017، كما كانت مظهرا من مظاهر التوافقات البرلمانية والتسويات/الصفقات السياسية التي غلبت على المشهد السياسي قبل 2021. ولكن الهيئة حافظت على مصداقية كبيرة سواء في علاقتها بمختلف الأجسام الوسيطة أو في علاقتها بالرأي العام، بحكم تمثيليتها لطيف واسع من الفاعلين الجماعيين.

كان إنشاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات جزءا من توجه مجتمعي عام قصد إرساء هيئات دستورية "تعمل على دعم الديمقراطية"، و"تتمتع هذه الهيئات بالشخصية القانونية والاستقلالية الإدارية والمالية وتُنتخب من قبل مجلس نواب الشعب بأغلبية معزّزة"، كما أكد المشرّع أنّ "على الدولة تيسير علمها" كما جاء في الفصل 125 من دستور 2014. وهذه الهيئات المدسترة (أي غير المؤقتة) هي هيئة الانتخابات (المعروفة اختصارا بـ"الإيزي")، وهيئة الإعلام (المعروفة اختصارا بـ"الهايكا")، وهيئة حقوق الإنسان، وهيئة التنمية المستدامة وحماية حقوق الأجيال القادمة، وهيئة الحَوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد.

لا نعتبر "تصحيح المسار" انقلابا أصليا، بل نعتبره حلقة في سلسة انقلابية بدأت منذ هروب المخلوع. وقد أكد تصحيح المسار أن "نجاح" الانتقال الديمقراطي سياسيا لم يكن إلا وهما، كما أكد أن منطق "الإصلاح الذاتي" للقطاعات وللمنظمات لم يكن هو الآخر إلا كذبة كبيرة لا محصول تحتها

وبعد الإعلان عن "تصحيح المسار"، قام الرئيس التونسي بتجميد عمل هذه الهيئات، ثم قام بإلغاء أربعة منها من دستور 2022 واستبقى هيئة الانتخابات، مع النص على تعيين أعضائها بدل انتخابهم من البرلمان.


لا شك في أن القارئ قد لاحظ مركزية الدور البرلماني في إنشاء الهيئات الدستورية وضبط صلاحياتها. وهو أمر منطقي في ظل النظام البرلماني المعدل وتحت سقف الديمقراطية التمثيلية بالمعنى الليبرالي لكلمة الديمقراطية. ولا شك أيضا في أن الفلسفة السياسية لتصحيح المسار لم تكن لتسمح ببقاء السلطة المرجعية للبرلمان حتى من داخل منظومتها السياسية ذاتها. فالديمقراطية المباشرة أو المجالسية تتحرك مفهوميا وواقعيا ضد الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة، ولا تعترف بأي وسيط بين الإرادة الشعبية والسلطة غير سلطة "الزعيم/المنقذ" باعتباره رأس "الوظيفة التنفيذية" والمستأمن الأوحد على تجسيد مطالب الشعب بمساعدة الوزراء وغيرهم.

وقد تجسدت هذه الفلسفة السياسية منذ الأيام الأولى لـ"تصحيح المسار" (عندما كان النظام يتحرك بمنطق "حالة الاستثناء المؤقتة") بتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه، ثم تجسدت في حل البرلمان والإعلان عن خارطة طريق لبناء جمهورية جديدة بدستورها وبنظامها الرئاسوي (عندما أظهر النظام أنه يعتبر حالة الاستثناء مرحلة انتقالية بين جمهوريتين أو زمنين سياسيين مختلفين جذريا).

للوقوف على أهم أسباب نجاح الرئيس والنواة الصلبة للمنظومة القديمة في الانقلاب على الهيئات الدستورية، ولفهم علة نجاح المنظومة الحاكمة في حمل جزء معتبر من الرأي العام على القبول بتوصيف مرحلة الانتقال الديمقراطي بـ"العشرية السوداء"، فإننا نحتاج إلى نحت مفهوم "قابلية الانقلاب"، أي نحتاج إلى فهم الأسباب العميقة لتلك القابلية البنيوية داخل مسار الانتقال الديمقراطي للانقلاب على ذاته والتفريط في مكتسباته بحكم فقدانه لأي قدرة حقيقية على المقاومة. ونحن نذهب إلى أن الجواب عن هذه الإشكالية لا يستقيم إلا إذا ما اعتبرنا فلسفة الانتقال الديمقراطي نفسه ليست إلا "انقلابا مشتقا" من انقلاب أصلي أو توليدي؛ بدأ منذ اعتماد منطق "استمرارية الدولة" وتكرس بسياسة التوافق وما صاحبها من صراعات هوياتية قاتلة وفقدان تدريجي لمشروعية الإنجاز في المستويين الاقتصادي والاجتماعي.

انطلاقا مما تقدم فإننا لا نعتبر "تصحيح المسار" انقلابا أصليا، بل نعتبره حلقة في سلسة انقلابية بدأت منذ هروب المخلوع. وقد أكد تصحيح المسار أن "نجاح" الانتقال الديمقراطي سياسيا لم يكن إلا وهما، كما أكد أن منطق "الإصلاح الذاتي" للقطاعات وللمنظمات لم يكن هو الآخر إلا كذبة كبيرة لا محصول تحتها.

ولعلّ أخطر ما أثبته تصحيح المسار فيما يتعلق بالهيئات الدستورية هو أنها كانت بلا سند نخبوي أو شعبي حقيقي. ولا شك عندنا في أن تلك الهيئات لم تكن مطلبا نخبويا مبدئيا، بل كانت جزءا من الصراعات السياسية الهادفة إلى إضعاف حركة النهضة وبناء سلطات موازية؛ بدعوى الحد من تغوّل الحركة ومشروع "أخونة الدولة". كما أن أداء أغلب تلك الهيئات لم يكن في مستوى انتظارات عموم المواطنين والعديد من النخب (خاصة أداء هيئة مكافحة الفساد وهيئة الإعلام)، أو على الأقل كان عملها خارج التغطية الإعلامية التي يُهيمن عليها ورثة المنظومة القديمة. ولذلك لم يجد النظام مقاومة حقيقية عند إلغائها، كما لم يجد مقاومة تذكر عند تغيير القانون المنظم لعمل هيئة الانتخابات باعتبارها الهيئة الوحيدة الناجية من استراتيجية نزع الصفة الدستورية من كل الهيئات الرقابية والتعديلية

التعامل مع هيئة الانتخابات باعتبارها جهة "تحكيمية" في المسألة الانتخابية هو ضرب من المثالية، كما أن مصارعتها بمنطق "القانون" هو ضرب من العبث

إن فهم دور هيئة الانتخابات في "الجمهورية الجديدة" لا يمكن أن يتم -كما ذكرنا أعلاه- دون استحضار الفلسفة السياسية لتصحيح المسار باعتبارها الواجهة السياسية الجديدة للنواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي. ففي إطار "التعامد الوظيفي" يمنح تصحيح المسار لتلك النواة الصلبة "شرعية" جديدة تستعيض بها عن شرعية الديمقراطية التمثيلية وتحيّد بها الأجسام الوسيطة، أما هي فإنها تمنح للمشروع الرئاسي "الشّوكة" اللازمة للحكم في ظل غياب أي مصدر مستقل للقوة (حزب، تاريخ نضالي، لوبي جهوي.. الخ).

ولا يمكن في هذا الواقع السياسي الجديد بوجود سلطة موازية لسلطة "الوظيفة التنفيذية" أو مستقلة عنها، ولذلك غاب منطق الانتخاب وحضر منطق التعيين، وهو أمر لا ينحصر في هيئة الانتخابات بل يتعداها ليشمل المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية. فمنطق "تصحيح المسار" لا يقبل بوجود أي سلطة تعديلية أو رقابية مستقلة عن رئاسة الجمهورية، والرئيس هو الممثل الأوحد للإرادة الشعبية وهو لا يقبل المساءلة دستوريا.

في ظل هذا الواقع، فإن التعامل مع هيئة الانتخابات باعتبارها جهة "تحكيمية" في المسألة الانتخابية هو ضرب من المثالية، كما أن مصارعتها بمنطق "القانون" هو ضرب من العبث، أو هو تحديدا ضرب من التصعيد المعبر عن فشل المعارضة في تغيير موازين القوى بالوسائل القانونية الأخرى (كالضغط الشعبي وتحريك الشارع للاحتجاج، وكالتوحد في جبهة معارضة سياسية جامعة تتجاوز منطق الانقسام التقليدي القائم على مركزية الأيديولوجي).

تصحيح المسار عندنا ليس إلا محاولة لتجاوز الأزمات الدورية للحقل السياسي التونسي بعد الثورة من خلال شيطنة الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة، ولكنها محاولة فاشلة بحكم انقلابها واقعيا إلى جزء من تلك الأزمات الدورية التي لا يمكن مواجهتها دون مراجعة أسس الدولة الوطنية ذاتها

إن هيئة الانتخابات الحالية هي ابنة "تصحيح المسار" وهي جزء بنيوي فيه. وقد ذكرنا في أكثر من مقال أن تصحيح المسار يتحرك بمنطق البديل الجذري لا بمنطق الشريك، كما ذكرنا أن فلسفته السياسية القائمة على التفويض الشعبي وعلى "البناء الثوري الجديد" لا تقبل بمنطق التداول على السلطة حتى بين "الصادقين" في ظل وجود الزعيم-المؤسس، فكيف تقبل بمنطق التداول على السلطة مع "أعداء الشعب" من "المتآمرين" و"الخونة" و"الفاسدين"؟

إن تيسير منطق التداول على منصب الرئاسة -أي التزام الحيادية والنزاهة والشفافية وعدم تطويع القانون ضد خصوم رئيس الجمهورية- هو ضرب من الخيانة للأمانة، وهو أيضا انقلاب على التفويض الشعبي الأصلي غير القابل للمراجعة أو الاستئناف. ولا شك في أن هيئة الانتخابات المعيّنة بمرسوم رئاسي-أي التي تتعامل مع وظيفتها باعتبارها "تكليفا" في إطار المشروع الرئاسي- لا يمكن أن تضع نفسها في موضع الخائنين، كما لا ينبغي لها أن تسهل عودتهم إلى مركز صنع القرار.

ختاما، فإننا نعتقد أنه لا يمكن فهم المشهد الانتخابي دون استحضار هذه المضمرات التي لا تحضر في سطح خطاب الهيئة، ولكنها تتحكم في بنيته العميقة. كما نذهب -على الضد من أطروحات الراغبين في عودة الديمقراطية التمثيلية- إلى أن تصحيح المسار ذاته ليس إلا "زينة" في بناء متداع من جهة الأسس التي قامت عليها الدولة الوطنية (مثله في ذلك كمثل الانتقال الديمقراطي ذاته).

فتصحيح المسار عندنا ليس إلا محاولة لتجاوز الأزمات الدورية للحقل السياسي التونسي بعد الثورة من خلال شيطنة الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة، ولكنها محاولة فاشلة بحكم انقلابها واقعيا إلى جزء من تلك الأزمات الدورية التي لا يمكن مواجهتها دون مراجعة أسس الدولة الوطنية ذاتها. ولا شك عندنا في أن رفض الأغلب الأعم من الفاعلين الجماعيين (في السلطة والمعارضة) الاعتراف بهذه الأزمة البنيوية والتفكير في آليات تجاوزها "معا"؛ سيجعل بقاء تصحيح المسار أو سقوطه أمرين متطابقين من جهة العلاقة بمنظومة الاستعمار الداخلي، ومن جهة إعادة إنتاج الأزمات الدورية مهما كان شكل النظام الحاكم وهوية المشاركين في واجهته السياسية بعد الانتخابات الرئاسية.

x.com/adel_arabi21
التعليقات (0)