أفكَار

ثورة نوفمبر الجزائرية وطوفان الأقصى.. انطباعات وتحليلات (1 من 2)

لشعوري بحاجة ربط العلاقة بين الثورة التحريرية النوفمبرية الجزائرية والمقاومة الفلسطينية شرعت في تأليف كتاب آخر تحت عنوان "دروب المقاومة: نضال الشعب الجزائري من الاحتلال إلى الاستقلال"..
لشعوري بحاجة ربط العلاقة بين الثورة التحريرية النوفمبرية الجزائرية والمقاومة الفلسطينية شرعت في تأليف كتاب آخر تحت عنوان "دروب المقاومة: نضال الشعب الجزائري من الاحتلال إلى الاستقلال"..
إنه من المفيد أن تُكثف الكتابة والإنتاج السمعي البصري في تاريخ الثورة النوفمبرية بأشكال متجددة جذابة، وذلك لسببين على الأقل، بسبب صعود أجيال جديدة مقطوعة عن السردية الشفوية للثورة التحريرية خلافا لجيل الاستقلال الذي نشأ أفراده على قصص الجهاد والاستشهاد التي استمعوا إليها مباشرة من جيل المجاهدين مباشرة، وبسبب تصاعد ثورة التحرير في فلسطين بعد معركة طوفان الأقصى لكي تستفيد المقاومة الفلسطينية من تجربتنا الثورية الخالدة.

لقد نشأ جيلنا فعلا في سنوات الاستقلال الأولى على التعلق العقلي والعاطفي الشديد بثورة نوفمبر المجيدة، لا من خلال قراءة التاريخ من الكتب ولكن بالاستماع لأحداث كانت قريبة الوقوع من صانعيها مباشرة. أذكر جيدا أيام الطفولة الجميلة التي عشناها في وسط العائلات الثورية في حي "العرقوب" العتيق بالمسيلة، وهو من معاقل الفداء والمنظمة الثورية المدنية في المنطقة، ومسقط رأس رئيس مجموعة الستة ومنسق الثورة عند اندلاعها سي محمد بوضياف، تلك الجلسات التي كنا نسمع فيها قصص بطولات المجاهدين وأخبار الظلم ومداهمات البيوت التي كان يقوم بها عسكر الاحتلال، والتعذيب البربري في مقر “لاصاص” الذي أقاموه في مفترق طرق شارعين أساسيين من الحي.

وقد أدينا في الحركة الإسلامية دورا مهما بعد ذلك في نهاية السبعينيات وسنوات الثمانينيات في نقل قيم الثورة للأجيال التي لحقتنا أثناء شبابنا من خلال جعل قيم نوفمبر وبيانه ركيزة أساسية في بنائنا الفكري، في خطابنا ومختلف أنشطتنا، وأذكر في هذا الإطار معرض الكتاب الإسلامي السنوي نسخة عام 1987 في جامعة سطيف الذي خصصناه لتاريخ المقاومة الجزائرية من الاحتلال إلى الاستقلال، مع التركيز على تشكل الحركة الوطنية والثورة التحريرية، وقد كان لذلك المعرض ومحاضراته التي شارك فيها مجاهدون ومثقفون إقبالا كبيرا بسبب جرأته في عرض جوانب تاريخية عن الثوار والثورة كانت مغيبة في المناهج المدرسية في عهد الحزب الواحد.

كان وعي الشباب يتشكل بعد الاستقلال على نهج قويم بخصوص القضية الفلسطينية حيث كان الموقف الرسمي متقدما جدا في مناصرة الفلسطينيين، ليس بالشعارات والتحركات السياسية فقط، بل بالدعم العسكري المباشر والمواقف الدبلوماسية القوية، وجميعنا يذكر الأصوات المنبعثة من الأثير في البرنامج الإذاعي في الإذاعة الجزائرية "صوت فلسطين، صوت الثورة الفلسطينية" والعبارة الشهيرة "حتى تحرير فلسطين، كل فلسطين"، وأخبار نقل الأسلحة لحركة فتح في مراحل كفاحها الثوري، وعن مساهمة الجيش الجزائري في حرب 1967، والمشاركة والموقف البطولي لهواري بومدين بإمضاء شيك على بياض لشراء الأسلحة من الاتحاد السوفييتي، ثم إعلان الدولة الجزائرية في الجزائر في 15 نوفمبر عام 1988، وغير ذلك. فلم يكن أحد من الشباب يشكك أو يجادل في عدالة القضية وواجب مشاركة الجزائريين في تحرير كل فلسطين، بل كانت عبارة القادة والفاعلين السياسيين والاجتماعيين، "أن استقلال الجزائر غير مكتمل ما لم تستقل فلسطين".

ولكن، للأسف الشديد، بدأت السموم تتسرب إلى بعض العقول، حين تراجع حضور الجزائر في الملف الفلسطيني أثناء فتنة التسعينيات، وخصوصا حين تحركت رياح التطبيع مع مجيء الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، عبر ثلاث عمليات متتالية في عام واحد بين 1999 و2000، من المصافحة المشؤومة في الرباط، إلى دعوة المغني الصهيوني انريكو ماسياس، إلى المهمة الدنيئة بإرسال وفد من الصحفيين الجزائريين لزيارة الكيان الصهيوني. وقد مثل ذلك التراجع البيّن، المخطط له، صدمة كبيرة لدى الأوفياء لقيم الثورة التحريرية والقضية الفلسطينية، من داخل النظام السياسي وفي المجتمع.

وقد كنا بحمد الله من هؤلاء، حيث سارعنا إلى تأسيس "التنسيقية الوطنية لمناهضة التطبيع" للتصدي لذلك التوجه الرسمي، وقد انخرط في التنسيقية التي أسسناها مع عدد من الأحزاب والمنظمات، العديد من الشخصيات الوطنية والثورية، منهم الشيخ شيبان والأستاذ عبد العزيز بلخادم وغيرهما، وكنا نعقد اجتماعاتنا في مقر “الحركة الديمقراطية الجزائرية” التي أسسها الرئيس السابق أحمد بن بله، وكان منسق الحزب آنذاك الأستاذ خالد بن إسماعيل. استطاعت هذه التنسيقية التي امتدت لعدد من الولايات الكبرى أن تحقق أهدافها وقد ساعدها في ذلك انفجار انتفاضة الأقصى في آخر عام 2000 التي كسرت موجة التطبيع التي تسارعت قبلها.

بدأت السموم تتسرب إلى بعض العقول، حين تراجع حضور الجزائر في الملف الفلسطيني أثناء فتنة التسعينيات، وخصوصا حين تحركت رياح التطبيع مع مجيء الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، عبر ثلاث عمليات متتالية في عام واحد بين 1999 و2000، من المصافحة المشؤومة في الرباط، إلى دعوة المغني الصهيوني انريكو ماسياس، إلى المهمة الدنيئة بإرسال وفد من الصحفيين الجزائريين لزيارة الكيان الصهيوني.
لقد كانت تنسيقية مناهضة التطبيع بداية موجة كبيرة من الأعمال التي قمنا بها لصالح فلسطين، ومنها فتح فرع مؤسسة القدس بالجزائر الذي كنت بحمد الله أمينه العام وكان رئيس الفرع الشيخ شيبان ونائبه الأستاذ عبد الحميد مهري رحمهما الله، ونائب آخر السيد بوزغوب أحد الطيارين الذين شاركوا في الحرب ضد الكيان، وكان الأستاذ محمد دويبي المدير التنفيذي. وقد كان فرعنا الجزائري أنشط فروع مؤسسة القدس دوليا ومن إنجازاته مشروع "وقف القدس" الذي أشرف عليه الأستاذ جعفر شلي ولايزال هذا المَعلم شامخا إلى الآن يدر بمداخيل معتبرة لصالح فلسطين، بالإضافة إلى الحركية الشعبية الفئوية التي بعثها الفرع ومنها منظمة “شباب من أجل القدس”، و ما رسخه من بعد تنسيقي للعمل الجزائري الفلسطيني الذي كان من إنجازاته الكبرى المساهمة الجزائرية التاريخية في "أسطول الحرية" وما تبعها من حملات كسر الحصار ونقل أعداد هائلة من المتضامنين الجزائريين والجزائريات ضد الحصار إلى غزة، التي بذل فيها الشيخ أحمد الإبراهيمي، رئيس جمعية البركة،  بلاء حسنا حولته مع مرور الزمن إلى رمز عالمي للعمل الفلسطين، وكان من ثمرة ذلك التنسيق كذلك اللجنة الشعبية لدعم المقاومة ونصرة فلسطين التي احتضنتنا فيها جريدة الشروق مشكورة، ثم لاحقا تأسيس منظمة البركة من قبل عدد من نشطاء القضية على رأسهم الشيخ أحمد براهيمي وهي اليوم المنظمة الشعبية الأكثر حضورا في دعم أهلنا في غزة ومختلف الملفات الفلسطينية الأخرى.

وبالنظر لأهمية نشر الوعي الشعبي خصوصا في أوساط الشباب أصدرت كتاب "الجزائر والقضية الفلسطينية"، رصدت فيها المساهمات الجزائرية في القضية الفلسطينية منذ عهد صلاح الدين الأيوبي، وذكّرت بما بذله الجزائريون وهم تحت الاحتلال، سواء على مستوى الشخصيات، كعمر راسم، والشيخ السعيد الزاهري، والشيخ إبراهيم أبو اليقظان، والشيخ الفضيل الورتلاني، ومساهمات الجزائريين في مختلف الثورات الفلسطينية إلى إعلان دولة الاحتلال، أو كمنظمات وعلى رأسها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عبر العديد من المبادرات، ومنها "الهئية العليا لإعانة فلسطين" التي حدثني عن دورها صاحب الفكرة ذاته الشيخ عبد الرحمن شيبان والتي شارك فيها المنظمات والشخصيات من مختلف التيارات الوطنية، وقد ترأس الهيئة الشيخ البشير الإبراهيمي، وكان فرحات عباس كاتبا عاما لها، والشيخ الطيب العقبي أمينا للمال وينوبه الشيخ بيوض، وتكفلت الهيئة بتجهيز وإرسال المجاهدين للقتال في فلسطين وجمع المال وتنظيم حملات التعبئة لصالح القضية الفلسطينية، بالإضافة إلى المساهمات الأخرى لكل منظمات الحركة الوطنية الأساسية، حزب الشعب الجزائري وأحباب البيان والحرية.

ثم تطرقت في الكتاب إلى مساهمات الجزائريين بعد الاستقلال، سواء الشخصيات المعارضة كمحمد خيضر الذي دعم حركة فتح ماليا وفق ما هو مدون في أرشيف الأستاذ منير شفيق، أو المجاهد محمد بودة الذي انخرط في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الفلسطينية وكان منسق العلميات الخاصة للجبهة الشعبية في أوربا ومنها حادثة ميونخ الشهيرة، وقد ارتقيى شهيدا رحمه الله على يد الموصاد في فرنسا بأمر من غولدا مايير نفسها. أو السلطات الرسمية منذ عهد بن بلة وقد أشرنا إلى بعض المساهمات الحكومية أعلاه، وختمت الكتاب بمساهمات حركة مجتمع السلم منذ عهد الشيخ محفوظ نحناح والعمليات الكبيرة التي أشرفت عليها بنفسي وأشرت إليها أعلاه.

ولشعوري بحاجة ربط العلاقة بين الثورة التحريرية النوفمبرية الجزائرية والمقاومة الفلسطينية شرعت في تأليف كتاب آخر تحت عنوان "دروب المقاومة: نضال الشعب الجزائري من الاحتلال إلى الاستقلال" وحرصت أن أسجل المقارنات مع كفاح الشعب الفلسطيني، وتشابه الاحتلالين الاستيطانيين الإحلاليين الفرنسي والإسرائيلي، وتشابه جرائم الإبادة وتدبير البنية الإنسانية للشعبين، والتشابه والفروق في أدوات النضال المسلح. وهو كتاب بدأته قبل سنوات، تتمة لبحث قدمته عن التجربة الثورية الجزائرية في مؤتمر نظمه مركز الإعلام العربي بالقاهرة في سبتمبر 2006 عن التجارب الثورية في تاريخ الدول وكيفية استفادة المقاومة الفلسطينية، ثم شُغلت عنه باهتمامات وكتابات أخرى ضاغطة فتركته بعد أن أنهيت أكثر من نصفه تقريبا.

غير أن نقاشي الطويل والمتكرر مع قيادة المقاومة الفلسطينية في ظل الأزمات التي تعرفها الأمة والصعوبات التي تمر بالملف الفلسطيني جعلني أقرر العودة لإنهاء الكتاب مع التركيز أكثر على استخلاص الدروس من تجربة الثورة التحريرية بما ينفع الكفاح الفلسطيني، وقد شجعني على ذلك بعض القادة الفلسطينيين الذين شعروا بأنهم رغم دراستهم الثورة التحريرية الجزائرية لم يكونوا على علم بكثير من تفاصيل الكفاح الجزائري ضد المستعمر الفرنسي التي ذكرتها لهم، ورأوا في تدوينها وإسقاطها على الحالة الفلسطينية فائدة كبيرة، وأسأل الله تعالى أن يعينني على إنجاز ذلك.

وفي حقيقة الأمر حينما نرى ما يحدث من تضحيات جسيمة وبطولات مدهشة في طوفان الأقصى أننا لم نقدم أي شيء ذي بال، وإنما أملنا أن يعذرنا الله ويسامحنا إذ لم نستطع القيام بما يجب القيام به لضعفنا وقلة حيلتنا وأن يتقبل الله منا جهد المقل ولا حول ولا قوة إلا بالله.
التعليقات (2)