الأحداث التي عرفتها باريس وعدد من المدن
الفرنسية على خلفية قتل الشرطة الفرنسية الشاب الجزائري الأصل نائل بحجة عدم
استجابته لأوامر رجال الأمن بالتوقف، باتت تتعدى الاحتجاج على مجرد جريمة قتل تورط
فيها رجل أمن أعطت له السلطات الفرنسية الصلاحيات الواسعة لاستعمال السلاح عند
مزاولته لمهمته في مراقبة الطرقات وتنظيم الجولان، بل أضحت تتعدى خلفية استمرار
نفس الاحتجاج على خلفية الاحتقان الاجتماعي، وأضحت أقرب إلى أن تكون تعبيرا عن
حالة احتجاج شامل على نموذج في الحكم فقد مقومات الاستيعاب المجتمعي، وأصبح يمثل
فقط الرجل الأبيض الفرنسي الأصل.
والحال ثمة أسئلة عديدة تطرح بصدد دلالات
هذه الاحتجاجات، ودلالات الأجيال التي تقودها، ولماذا بالتحديد اختارت
فرنسا موطئا
أولا لها، وهل من الممكن أن تعرف موجة ممتدة تشمل كل دول أوروبا؟ وهل طبيعة هذه
الاحتجاجات تختصر في الجواب على العنصرية والكراهية التي تخترق أجهزة الأمن
الفرنسية؟ أم تعكس جوابا عن الاحتقان الاجتماعي المستمر؟ أم هي في الجوهر إعلان
الأجيال القادمة عن رفض نموذج الحكم وفلسفته ونخبه؟
الموجة الاحتجاجية الشبابية.. لماذا فرنسا
بالتحديد؟
عرفت فرنسا في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون
ثلاث موجات من الاحتجاج، موجة أصحاب السترات الصفراء، وموجة الاحتجاج على خلفية
تمرير قانون التقاعد خارج المؤسسة البرلمانية، والموجة الشبابية الأخيرة التي
اتخذت من مواجهة العنصرية التي تخترق أجهزة الأمن عنوانا لها.
الحركة الأولى برزت في أيار / مايو 2018
تندد في البداية بارتفاع أسعار المحروقات، ثم ما لبثت أن تحولت إلى حركة اجتماعية
احتجاجية على ارتفاع كلفة المعيشة، وتطالب بإصلاحات ضريبية ترفع المعاناة عن
الطبقات الفقيرة. الحركة الثانية، امتزجت فيها الحركات الاجتماعية بالحراك
السياسي، لكن دائما على خلفية اجتماعية بعد تمرير مشروع قانون التقاعد بمقتضى
صلاحيات الرئيس الدستورية خارج المؤسسة البرلمانية.
أما الحركة الثالثة، فكانت طبيعتها شبابية
بامتياز، وتحركت على خلفية مناهضة العنصرية التي تخترق المؤسسة الأمنية وتحمي رجال
الأمن من المحاسبة.
هذه الحركات الثلاث، تشترك في ثلاث سمات،
وتختلف في ثلاث أخرى. أما المشترك الأول، فكونها كانت شاملة، عمت العديد من المدن،
ولم تقتصر فقط على العاصمة باريس. ويتمثل المشترك الثاني، في كونها أخذت حيزا
ممتدا في الزمن، امتد بعضها لشهور، وبعضها الآخر لأسابيع، وليست هناك مؤشرات واضحة
عن إمكان توقف الموجة الشبابية الأخيرة. وأما المشترك الثالث، فكونها شكلت تحديا
حقيقيا لشرعية السلطة، وتطلب الأمر منها زمنا وجهدا سياسيا مقدرا للتهدئة على
الأقل في الموجتين الأوليين.
خلافا لبعض الدول الأوروبية، التي أعطت عناية كبيرة للجبهة الداخلية، واشتغلت على تخفيف المعاناة على الموطنين، بدت فرنسا، وحيدة في استجابتها للسياسة الأمريكية في مواجهة روسيا، دون أن تبذل الجهد نفسه في مواجهة تداعيات هذه الحرب على المواطن الفرنسي
تفيد هذه السمات المشتركة (العموم، الامتداد
الزمني، التحدي للسلطة) بأن مبررات الاحتجاج قائمة وعميقة في المجتمع الفرنسي، وأن
أزمة عميقة يعاني منها الحكم، هي التي تبرر أن تكون الحركات الاحتجاجية بهذه
السمات، وأن تأخذ طابع الاطراد والتكرار.
في مقابل هذه السمات المشتركة، يمكن تسجيل
سمات أخرى مختلفة، منها، الاختلاف في التركيبة السوسيولوجية بين الموجتين الأوليين
وبين الموجة الثالثة (تمثيلها لكل الفئات العمرية في الموجتين الأوليين واقتصارها
على الفئة الشبابية في الموجة الثالثة)، والاختلاف في مغذيات الاحتجاج (كلفة
المعاش، التقاعد، العنصرية)، والاختلاف في أدوات الاحتجاج وشكل الحراك (مظاهرات
أشبه ما تكون بعصيان مدني في الموجة الأولى، مظاهرات سلمية في الموجة الثانية،
حركة احتجاجية منفلتة في الموجة الثالثة).
قد يلتمس البعض في مواصفات الأجيال الشابة
الثورية مقتربا في تفسير تباين الموجة الأخيرة عن سابقاتها، لكن في الجوهر، ما
يفسر الاختلاف، أن
سياسة ماكرون لم تتغير في تعنتها ورفض تقديم أي جواب سياسي
متفاعل مع الأنواع الثلاث من الموجات الاحتجاجية، وأن مغذيات الاحتجاج في الحالة
الثالثة تعددت، وكانت العنصرية مجرد فتيل غذى المبررات الكامنة التي تراكمت منذ
موجة السترات الصفراء.
لماذا فرنسا بالتحديد؟
لثلاث أسباب أساسية، الأولى، أنها كانت
الأكثر مواكبة للسياسة الأمريكية في مواجهة روسيا، والأقل تقديما للجواب السياسي
الداخلي. والثاني، لأن صورة فرنسا عرفت هزة عنيفة في الداخل والخارج في عهد الرئيس
إيمانويل ماكرون. والثالث، لأن المقاربة الأمنية أضحت هي الجواب الجاهز الذي يقدمه
ماكرون في التجاوب مع المعضلات الاجتماعية.
فخلافا لبعض الدول الأوروبية، التي أعطت
عناية كبيرة للجبهة الداخلية، واشتغلت على تخفيف المعاناة على الموطنين، بدت
فرنسا، وحيدة في استجابتها للسياسة الأمريكية في مواجهة روسيا، دون أن تبذل الجهد
نفسه في مواجهة تداعيات هذه الحرب على المواطن الفرنسي، بل على العكس من ذلك
تماما، فقد مضت في تمرير قانون التقاعد، الذي تم النظر إليه اجتماعيا على أنه
إجهاز جواب معاكس لتطلعات الشعب الذي يريد من الدولة أن تخفف عنه بدل أن تزيد في
إرهاقه اجتماعيا.
لماذا تأخذ هذه الموجة الاحتجاجية طابعا شبابيا
فوضويا؟
بعض التحليلات المتسرعة التي تميل عادة
لاعتماد البداهة في المؤشرات، لم تطرح أصلا سؤال الطابع الشبابي المميز لهذه
الموجة، على اعتبار أن المستهدف كان شابا، وأن رد الفعل أتى تبعا لذلك شبابيا،
والحال أن كل مبررات الاحتقان قائمة وعميقة، ومن الطبيعي أن يتم الاستجابة الفورية
من كافة الشرائح، لاسيما تلك التي لم يهدأ احتجاجها بعد ضد قانون التقاعد.
التفسير الذي أميل إليه في هذا الباب، أن
مبررات الاحتجاج وصلت إلى حد صار فيه الجواب يتطلب مواجهة بنية الحكم، والواجهة
الأكثر شراسة له، أي الأجهزة الأمنية، وهو ما لا تقوى في العادة الشرائح الأخرى
على مواجهتها بحكم طابع الالتزام الذي يربطها بالدولة ومؤسساتها، بخلاف الشباب،
فإنهم في حل من هذا الالتزام، لأنهم غير مرتبطين بعلاقات العمل أو بعلاقات الزواج.
البعد الثاني في التفسير، يرتبط بالمدى الذي
بلغه الاحتقان، فالأمر لا يتعلق فقط باحتقان اجتماعي على خلفية ارتفاع المعيشة أو
ارتفاع أسعار المحروقات أو تمرير قوانين مجحفة بحق الشغيلة، ولكن يتعلق بخطر
العنصرية والكراهية التي أضحت لا تعترف بالوجود بالنسبة لشرائح واسعة من الشباب
الفرنسي من أصول إفريقية أو شمال إفريقية، مما يفسر بشكل كبير الطابع الشبابي،
والطابع العنفي الذي اتخذته الحركة الاحتجاجية.
النموذج العلماني الفرنسي في المحك
لم يحدث أن وضعت تجربة سياسية فرنسية في
الوضع المحرج الذي وضعت فيه تجربة إيمانويل ماكرون، وذلك لأنها تواجه اليوم بثلاث
معارضات قوية، معارضة من الحراك المجتمعي الذي يقوده الشباب اليوم، ومعارضة من قبل
اليسار الفرنسي الذي أضحى يعلق أسباب الأزمة على سياسة ماكرون الاجتماعية وعلى
عجزه عن التدخل لتصحيح أخطائه، وأيضا من قبل اليمين المتطرف، الذي يؤاخذ الرئيس
الفرنسي إيمانويل ماكرون في تباطؤه في اتخاذ قرارات جريئة بخصوص الهجرة والإسلام
لحماية الهوية الفرنسية.
هذا الحصار المجتمعي والسياسي، لم يتشكل فقط
على خلفية الاحتقان الاجتماعي، بل تشكل أساسا، من حماية الحكم لنموذج من القيم
يتعارض مطلقا مع النموذج الحداثي الاستيعابي، فماكرون الذي كان يصيح بأن فرنسا هي
أرض للفرنسيين من أصول إيفوارية وجزائرية وسينغالية ومغربية وجزائرية، صار يمانع
وزير داخليته وبشكل جد متعنت في تعديل قانون استعمال الشرطة للسلاح ضد هؤلاء، ولا يريد أن يرتب الجزاء على ممارسة
عنصرية صدرت من أجهزة الأمن، وتتداعى المؤسسة الأمنية والنيابة العامة لإيجاد المبررات
لفعل الشرطي، وتقدم رواية محرفة بالمطلق عن الرواية الحقيقية لقتل نائل فقط لحماية
الشرطة من العقاب، وتبرير استمرار اختراق العنصرية والكراهية للمؤسسة الأمنية.
النموذج العلماني الفرنسي أثبت على مدى العقود
الثلاثة الأخيرة حاجته إلى التعديل والإصلاح، والإفادة من النماذج
العلمانية الأوروبية
الأخرى، التي استطاعت بفضل انفتاح نسقها تجنب الكثير من الاحتقانات الناتجة عن ضعف
الاستيعاب، فقد كان بإمكان النموذج الفرنسي أن يحل مشكلة الزي الديني وتعارضه مع
قيم الجمهورية، بالإحالة على حمولته الثقافية كما هو الشأن في النموذج البريطاني،
وكان بالإمكان أن ينأى بنفسه عن المقاربات التي تخلط بين مواجهة التطرف الديني
واستهداف الإسلام، وكان بالإمكان أن يجعل من الإسلام ليس فقط مكونا أساسيا للنسيج
الثقافي الفرنسي، بل عاملا أساسيا من عوامل تثبيت السلم وتحصين الوطن.
لم يحدث أن وضعت تجربة سياسية فرنسية في الوضع المحرج الذي وضعت فيه تجربة إيمانويل ماكرون، وذلك لأنها تواجه اليوم بثلاث معارضات قوية، معارضة من الحراك المجتمعي الذي يقوده الشباب اليوم، ومعارضة من قبل اليسار الفرنسي الذي أضحى يعلق أسباب الأزمة على سياسة ماكرون الاجتماعية وعلى عجزه عن التدخل لتصحيح أخطائه، وأيضا من قبل اليمين المتطرف،
ما يؤكد ذلك أن السلطات الفرنسية، في عز
صراعها مع الموجة الاحتجاجية الشبابية الأخيرة، اضطرت إلى الاستعانة بالمساجد
والجمعيات الإسلامية، وطلب منابرها الدينية في المساعدة في جهود التهدئة واستتباب
الأمن، هذا بعد أن مارست عليها شتى أنواع التضييق في الأنشطة ومصادر التمويل، بدعوى
أنها تشكل روافد التطرف الديني.
ثمة من يزعم أن نهاية النموذج العلماني
الفرنسي، ستكون عن طريق تسيد تيار اليمين المتطرف للمشهد السياسي، وأن هذه الحلقة
ستكون أعلى حلقات ممارسة الكراهية والإقصاء والعنصرية، وأنها ستخلق فرزا حادا داخل
المجتمع الفرنسي، بين المنتصرين لوطن يجمع كل مواطنيه بمختلف ثقافاتهم وخلفياتهم
الدينية، وبين وطن يسعى إلى الاحتماء بهوية خاصة يحاول تيار اليمين المتطرف
صناعتها بالارتكاز على تصورات حول الهجرة والتخويف من الإسلام، لكن في الجوهر،
قليل من يطرح سؤال سبب التقدم المحتمل لتيار اليمين المتطرف في فرنسا أو في أوربا
عموما، وكيف كان فراغ السياسة عاملا أساسيا في حفز التيار اليميني المتطرف على ملأ
المكان، فلم يكن لهذا التيار من وزن يذكر لما كان في فرنسا يمين، ويمين وسط ويسار
وأقصى يسار، لكن في اللحظة التي انهارت فيها هذه المكونات.
وجاء تيار المال ونخب الأعمال ليملأ الساحة،
لم يجد من إيديولوجية تسعفه في الحكم سوى الاستعانة بجزء من أطروحة اليمين المتطرف
العنصرية، والاتكاء على أطروحة مواجهة التطرف الديني، وغيرها من العناوين التي قصد
بها أصلا تبرير واقع الإقصاء ونشر ثقافة الكراهية وتعميق العنصرية في المجتمع
الفرنسي لاسيما داخل الأجهزة الأمنية، حتى أضحى الفرز المجتمعي أكثر حدة بين مجتمع
فرنسي أصلي، ومجتمع فرنسي من أصول أخرى، يعيش حالة من الإقصاء والتهميش وتمارس
عليه شتى أنواع العنصرية، ويسكن في أقاصي المدن، (الضواحي)، وتعلق عليه كل مشاكل فرنسا، فتنسب الجرائم إليه، وتلصق به شتى
صنوف الوصم الاجتماعي.
ولذلك، ثمة اليوم استشرافات فرنسية ترى أن
الحاجة إلى تيار يميني متطرف في فرنسا، لم تعد قائمة، فالمآل التي انتهت إليه
الماكرونية هي عين ما تشتغل عليه الإيديولوجية اليمينية المتطرفة، وأن ما تبقى من
أجندتها لا يبعد أن يستكملها برنامج ماكرون في السنتين المتبقيتين من ولايته، وأنه
لولا الاحتقان والجواب الاجتماعي لكان من الممكن ملاحظة التطبيق العملي لهذا
البرنامج، لاسيما وأن أولى مؤشرات تطبيقاته على مستوى الهجرة، بدأت من أزمة
التأشيرات والحديث عن مراجعة اتفاقية 1968 مع الجزائر، ومختلف المقررات القانونية
التي تستبيح الإجلاء والترحيل بتهم التطرف الديني.
هل تعرف الحركات الاجتماعية الاحتجاجية
امتدادا في أوروبا؟
يطرح هذا السؤال بالإحالة على الاشتراك
الأوروبي في مكابدة تحديات ما بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، واضطرار أوروبا إلى
مسايرة السياسة الأمريكية في مواجهة موسكو، وتحمل كلفة الحزم العقابية الموجهة
ضدها، والتي أثبتت عمليا إضرارها بالاقتصاد الأوروبي، وما ترتل عن ذلك من ارتفاع
كلفة أسعار المحروقات، وتنامي نسب التضخم، وارتفاع كلفة أسعار المواد الغذائية
ووسائل النقل، ومحدودية الفرص الاقتصادية.
استقراء المشهد الأوروبي، يسمح بالحديث عن
إمكان بروز التيار اليميني في أكثر من دولة أوروبية، لكن هذا الصعود المحتمل، لا
يفسر بالعوامل التقليدية المرتبطة بخطاب هذا التيار المتحمور حول الهوية والخوف من
انتشار الإسلام وقضايا الهجرة، وإنما يفسر بمواجهة السياسة الخارجية المنحازة إلى
أمريكا بعيدا عن المصلحة الأوربية، فالتيار اليميني في مختلف دول أوروبا، لا يرى
ضرورة لرهن أوروبا بيد الولايات المتحدة الأمريكية في حربها على روسيا، ويرى على
العكس من ذلك، أن الولايات المتحدة الأمريكية تتكسب من وراء جعل أوربا رهينة لها في الحرب على روسيا، وأن
الحاجة أضحت ماسة إلى تشجيع العملية التفاوضية لإنهاء الحرب، وأن مختلف الإجراءات
العقابية التي فرضتها أوروبا على روسيا أضرت بالاقتصاد الأوروبي، وفرضت واقع
المعاناة على الشعوب الأوروبية.
المقارنة بين فرنسا ومختلف دول أوروبا في
هذا المجال تحتاج إلى تبين أوجه المفارقة، فالاحتقان الاجتماعي الذي يمكن أن ينتج
عن مزيد من الانخراط الأوروبي في الحرب ضد روسيا، سيؤدي لا محالة إلى تنامي التيار
اليميني، لكن دون أن يؤدي ذلك إلى بروز فرز حاد داخل المجتمعات الأوروبية، بين
المجتمع الأصلي والمجتمع المواطن من أصول أجنبية، فالحالة الألمانية أو البريطانية
أو البلجيكية، تتمتع بقدر كبير من الانفتاح، تجعل حدوث هذا الفرز أمرا مستبعدا على
الأقل في المدى القريب والمتوسط، لكن في الحالة الفرنسية، ينبغي الانتباه إلى أن
الحالة الاحتجاجية هي حالة لا تمت بصلة إلى اليمين المتطرف، بل اليمين المتطرف
نفسه، يعتبرها تهديدا للهوية الفرنسية
ونتيجة لاسترخاء السلطات الفرنسية في سن إجراءات صارمة في موضوع الهجرة والإدماج
ومواجهة التطرف الديني.
في النموذج الفرنسي، سيقع فرز سياسي حاد بين
يسار ميلونشو وبين يمين مارين لوبين، وثمة أكثر من مؤشر على أن شعبية ميلونشو
ستبرز بشكل كبير بحكم جمعه بين مساءلة السياسات الماكرونية التفقيرية، وبين تبني
خطاب حقوقي يناهض العنصرية والكراهية ويدعم تعديل القانون لمحاسبة الأجهزة
الأمنية، في حين، تتطلع مارين لوبين إلى استثمار آثار التخريب الذي حدث في فرنسا،
لإقناع الجزء الأكبر من الشعب بأطروحتها اليمينية العنصرية.
أما في النماذج الأوروبية الأخرى، لا يتموقع
اليمين المتطرف في هذا الموقع الحرج إزاء الاحتقان الاجتماعي والحركات الاحتجاجية،
بل يتموقع إلى جانبها، أو على الأقل، يتطلع إلى الإفادة منها لتعزيز تموقعه في
الساحة السياسية.
ولذلك، إذا من المتوقع أن تندلع حركة
احتجاجية في مختلف دول أوروبا، فستكون بصبغة خاصة، وبخلفية أخرى غير خلفية مواجهة
العنصرية والكراهية التي انتشرت في فرنسا، وإذا كان من السائغ الحديث عن إمكان
صعود اليمين المتطرف في المشهد السياسي الأوروبي المرتقب، فثمة شك في أن يحصل مثل
ذلك في فرنسا، وذلك بسبب أن هذا التيار، يوجد في الضفة الأخرى من الحركة
الاحتجاجية، أو للدقة يناهضها، ويجعل منها ذريعة لتعبئة المجتمع الفرنسي بخلفيات
هوياتية ضيقة.