كتب

المرزوقي والبحث عن حلول لتحديات العصر خارج الأيديولوجيات الكبرى

الديمقراطيات لا تعلن الحرب على شعوبها خلافا للدكتاتوريات التي لا تعيش إلا بقدر يزيد أو ينقص من العنف الداخلي..
الديمقراطيات لا تعلن الحرب على شعوبها خلافا للدكتاتوريات التي لا تعيش إلا بقدر يزيد أو ينقص من العنف الداخلي..
الكتاب: "المراجعات والبدائل.. أي أسس لفكر سياسي مجدد؟"
المؤلف: المنصف المرزوقي
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022


كيف نفهم عالمنا اليوم؟ وكيف نتعامل مع التحديات والأزمات التي نواجهها؟ سيما إذا اعترفنا بحقيقة أن الأيديولوجيات الخمس الكبرى (الوطنية / القومية، التقدمية، الليبرالية، حقوق الإنسان / الديمقراطية، الإسلام السياسي) التي سيطرت على أفكار البشر على مدى قرون وتحكمت في خططهم لـ "المشروع الإنساني" وتصوراتهم للحلول يبدو أن الواقع قد تجاوزها. هذه التساؤلات هي محور كتاب رئيس الجمهورية التونسية الأسبق، الطبيب والباحث والحقوقي، المنصف المرزوقي. وهو مع ذلك، أي الكتاب، ليس أطروحة أو دراسة علمية في الأيديولوجيات هذه، إنما كما يقول المؤلف نفسه حصيلة تجربة طويلة معها تشكلت على أساسها رؤية شخصية مطروحة للنقاش.

ابتداء يتوقف المرزوقي مطولا متأملا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يؤكد على جملة من الحقوق الثابتة للبشر جميعا ويحذر من انتهاكها، قائلا إن النص يكشف بشكل غير مباشر عن حجم الجرائم الكثيرة التي يرتكبها الإنسان بحق أخيه الإنسان عندما يحرمه من الحق في الحياة أو حقه في الكرامة أو الحرية، إنها أفعال تصدر عن إنسان "مفترس" بحق إنسان آخر "فريسة" يعيش مستعبدا مهانا، لكنه مع ذلك قد يجد إنسانا آخر مدافعا عنه مقاتلا لأجل حقه في الحياة والعيش بكرامة، وهذا هو الإنسان "الفارس".

يقول المرزوقي: إن النص لا يتحدث عن ثلاثة أنواع من البشر، إنه يتحدث عن الكائن نفسه، لكن كيف يمكن أن يكون الواحد ثلاثة، و"ثلاثية" بهذه الدرجة الخطيرة من التناقض؟ أي تفسير لمفارقة كهذه؟ وهل هي سر شقاء الإنسان وسبب كل إخفاقاته؟.

آن الأوان لاستبدال الثنائية القديمة للخير والشر بثلاثية ربما تزيد الأمور صعوبة لكنها تزيدها وضوحا وموضوعية، هذه الثلاثية بحسب المرزوقي، تخلصنا من نقاش عبثي مستمر منذ قرون حول طبيعة الإنسان الأصلية، والأهم من ذلك أنها تعطينا مفاتيح نظرية لفهم الصعوبات التي لاقتها وستلاقيها كل الأيديولوجيات في تغيير المجتمعات، أي في آخر المطاف في تغيير البشر ومشروعها وإن كان يستمد زخمه من مثالية الفارس وقوة المفترس وجهد الفريسة، فإنه مرتطم على الدوام بطوباوية الأول وعنف الثاني وسلبية الثالث.

يقول المرزوقي إنه انطلاقا من اعتبارنا أن كل الأيديولوجيات هي تجاربنا الفكرية الاجتماعية السياسية يتضح أننا في حاجة إلى إعادة النظر في المفاهيم الكبرى التي بنت عليها رؤيتها للواقع، وخاصة رؤيتها للإنسان بما أنه هو الذي نجده دوما وراء كل الصعوبات وكل الإخفاقات.

السم في الدسم

يتساءل المرزوقي حول مدى نجاعة الأيديولوجيات في تحقيق أهدافها الأساسية، فالأيديولوجيا الوطنية تبدو فعلا أداة مهمة لتقوية اللحمة بين جزء من المجتمع، لكنها أيضا، نتيجة تداخل الشعوب وتزايدها العددي، سبب لطرد جزء آخر من هذه اللحمة، مثلما يحدث في فرنسا مثلا مع مواطنيها المسلمين. ويمكن أن تكون أيضا خطرا على السلام بين الشعوب، كما يحدث الآن مع الوطنية الروسية التي أشعلت حربا ضد أوكرانيا. وعندما يتعلق الأمر بالثروة فلا يوجد نظام أحسن من الليبرالية لخلقها، ولا يوجد نظام أسوأ منها لتوزيعها، ما يجعل منها أحد أهم عوامل الظلم الاجتماعي، ومن ثم أكبر أسباب عدم الاستقرار المجتمعي والسياسي. أما الحرية التي تعتبر دعامة الأيديولوجيا الليبرالية بشقيها السياسي والاقتصادي فقد أثبتت التجارب أنها من دون كوابح أخلاقية وضوابط قانونية ليست بالنسبة للمشروع الإنساني إلا السم في الدسم، بحسب ما يقول المرزوقي.

من جهة أخرى فقد نجحت الديمقراطية وعبر أداتها الأهم والأبرز الانتخابات من السيطرة على العنف السياسي، ونقلته من الدموي إلى الرمزي، وهي بتمكين المجتمع من الحد الأدنى من السلام والاستقرار تقدم للمشروع الإنساني خدمة لا تقدر بثمن، إضافة إلى ما تضمنه للأفراد من حريات كبيرة. لكن تاريخيا النظرية الديمقراطية هي رؤية الثقافة الغربية، فوضع الحرية مثلا على رأس سلم القيم واعتبار الفرد مبتدأ الخبر ومنتهاه أفكار تستحق الاحترام، لكنها في النهاية تصورات نخبة من المفكرين الغربيين آمن أكثرهم بتفوقهم العرقي والثقافي على بقية شعوب الأرض.

نجحت الديمقراطية وعبر أداتها الأهم والأبرز الانتخابات من السيطرة على العنف السياسي، ونقلته من الدموي إلى الرمزي، وهي بتمكين المجتمع من الحد الأدنى من السلام والاستقرار تقدم للمشروع الإنساني خدمة لا تقدر بثمن
 يوضح المرزوقي أنه من حق العرب والمسلمين القول أن العدالة الاجتماعية قيمة لا تقل أهمية عن الحرية. من حق الغربيين الليبراليين وضع الفرد فوق كل اعتبار لكنه مجرد خيار، وليس الذي يفضله العرب والصينيون والهنود الذين يعتبرون أن المجموعة لها الأولوية على الفرد.

ويقول: "إننا وإن كنا نؤمن بأهمية الحرية السياسية فإننا نرفض فصلها عن العدالة الاجتماعية، لأن الذين يتضورون جوعا ليسوا أحرارا وكرامتهم مختطفة ولو عاشوا في بلد البرلمان فيه منتخب بكل حرية". وماذا عن الأيديولوجيا الدينية؟ يجيب المرزوقي بأنه على عكس الأيديولوجيا التقدمية ترى الأصولية الدينية أننا تركنا المدينة الفاضلة وراءنا في عمق الزمان، وأنه آن الأوان للعودة إليها بالفكر والروح نستلهم من الأوائل ما يجب أن نفعل وألا نفعل. وهكذا بالتصاقها بماض خيالي تحكم الأيديولوجيا الدينية على نفسها بالعقم والشلل، لأن لا وجود في الماضي إلا لحلول مشاكل الماضي، ولا وجود لمشاكل الحاضر إلا حلول الحاضر.

التحديات

يرى المرزوقي أننا في الوقت الحالي نواجه تحديات كبيرة تكاد تكون شبه غائبة في الأيديولوجيات الخمس الكبرى التي غذت عقولنا في الماضي القريب والبعيد. والحل من وجهة نظره يكون بالتشخيص الموضوعي لهذه التحديات المصيرية، والقطع مع ما أسماه معارك سريالية حول إشكاليات عفى عليها الزمن لكنها ما زالت تلتهم طاقة الكثير منا. يجمل المرزوقي هذه التحديات بمسألة الأمن والسلام، والمسألة المناخية، والوبائية، والتكنولوجيا، والنظام الاقتصادي، والنظام السياسي.

في مسألة الأمن والسلام ينطلق المرزوقي من شعار اليونسكو  لما كانت الحروب تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام". ويقول إنه أصبح بإمكاننا اليوم الاطلاع على ما يدور في عقول الملايين من البشر بفضل ما يسمى وسائل التواصل الاجتماعي، التي تكشف عن صورة قبيحة للبشر من جميع أنحاء العالم، سواء كانوا يعيشون تحت أنظمة ديكتاتورية أو أنظمة ديمقراطية. ثمة عنف لفظي وعدوانية وطوفان من الكراهية. وقد درس الفيلسوف الفرنسي أوليفي آبل هذه الظاهرة ورأى أنها تعبير عن الشعور بالإهانة والتعدي على الكرامة الشخصية أو الجماعية. وأسباب هذا الشعور بحسب آبل الإذلال السياسي والإذلال الاقتصادي وإذلال الهوية. على سبيل المثال فإن أحد أهم أسباب الوحشية التي يظهرها الجنود في ساحات المعارك مرتبط بالطريقة الوحشية التي يعاملهم بها ضباطهم. كما أن الإنسان لا يملك إلا أن يشعر بالمهانة وهو يعاني من أجل لقمة عيشه بينما يرى حجم الثروات الطائلة لنخب جشعة لا تشبع. وكيف لا يشعر الإنسان بالمهانة وهو يدرك أن هناك قوى سياسية تبدو فوق المحاسبة، هي التي تتحكم فيه وتوجهه كما لو كان عبدأ أو دمية!.

يضيف المرزوقي أنه في هذا السياق العام الذي نعيش فيه وبسبب ما سبق فإن هناك تهديدات جدية على ثلاثة مسارات للمشروع الإنساني، كنا نخالها في الاتجاه الصحيح ولن تتوقف أبدا؛ المسار الأول هو الدمقرطة التي اكتسحت العالم منذ ثمانينيات القرن الماضي، وكانت أوكرانيا التي تشن حرب عليها اليوم من روسيا واحدة من ثمرات هذا الربيع. فضلا عما نراه اليوم من صعود لقوى اليمين واليمين المتطرف المعادي للديمقراطية، وتواصل صعود النموذج الصيني المبني على التخلي عن الحرية مقابل الرخاء. والمسار الثاني الذي توقف هو مسار العولمة حيث تسير الدول اليوم باتجاه التقوقع على فضاءات إقليمية متزايدة الصغر. والمسار الثالث هو تشييد نظام عالمي مبني على قوة الشرعية بدلا من شرعية القوة. لقد غير الغزو الروسي لأوكرانيا المشهد لتعود الكلمة الفصل إلى شرعية القوة في أوروبا التي تعتبر نفسها أم الحضارة المعاصرة.

لقد رأينا أن النظام الديمقراطي هو الأقدر على تعليم المجتمعات قبول تعدديتها وتصريفها سلميا، وهو الوحيد الذي يمكنه التحكم في المؤسسة الأمنية والعسكرية ومن دونه تتحول الدولة إلى وحش كاسر لا رقيب عليه
في مسألة النظام السياسي يقول المرزوقي: إن النظام الديمقراطي الذي نعول عليه لمواجهة الشركات الرأسمالية المتوحشة، والذي نراه الحل الأمثل للحد من الإذلال الثلاثي وأخطاره الهائلة على الشعوب، هو نفسه في خطر. هناك قدر متزايد من الناخبين حول العالم كله ينتبهون إلى أن السيادة ليست للشعب، الذي يطلب منه العودة إلى مشاغله حال انتهاء المهرجان الانتخابي، وإنما للنخب المالية ـ الاقتصادية، والإعلامية ـ الثقافية، والأمنية ـ الإدارية التي استطاعت تفويض الديمقراطية لمصالحها هي. لذلك يسود اليوم تشاؤم حول قدرة الأنظمة الديمقراطية على الصمود أمام إغراء النموذج الصيني ـ الروسي، أي الشكل المتجدد والمدجج بتكنولوجيا العصر للاستبداد القديم. وهذا ما يجعل بعضهم يتوقع أننا سنتابع قريبا جنازة الديمقراطية في أكثر من مكان، وحتى في أصلب معاقلها وأقدمها، بحسب المرزوقي.

لكن مع ذلك ثمة جملة من الأسباب تجعلنا نتشبث بها أيا كانت مآخذنا عليها. فالنظام الديمقراطي يكاد يكون الأمل الوحيد لمواجهة التحديات المناخية والاقتصادية، فهو قادر على فرض المصلحة العامة على المصالح الخاصة. كما ان الحريات الديمقراطية شرط أساسي لخلق المبادرات المواطنية الأساسية وتأطيرها، لتجنيد طاقات المجتمع في مواجهة تحديات لم تعد الدولة وحدها قادرة على التكفل بها.

يتابع المرزوقي، لقد رأينا أن النظام الديمقراطي هو الأقدر على تعليم المجتمعات قبول تعدديتها وتصريفها سلميا، وهو الوحيد الذي يمكنه التحكم في المؤسسة الأمنية والعسكرية ومن دونه تتحول الدولة إلى وحش كاسر لا رقيب عليه، فالديمقراطيات لا تعلن الحرب على شعوبها خلافا للدكتاتوريات التي لا تعيش إلا بقدر يزيد أو ينقص من العنف الداخلي. وصحيح أن الدول الديمقراطية في القرنين الأخيرين كانت أيضا دولا استعمارية وإمبريالية، لكنها على الأقل لم تكن متحاربة في ما بينها، خلافا للدكتاتوريات التي تحارب بالشراسة نفسها الأنظمة الدكتاتورية الشبيهة والأنظمة الديمقراطية العدوة. يقول المرزوقي هذا بحد ذاته مكسب بالغ الأهمية بما أننا نقلل من فاتورة الحرب الأزلية. 
التعليقات (0)