أفكَار

"الإسلام أو الطوفان".. حكمت العلاقة بين "العدل والإحسان" وسلطات المغرب

ماذا يريدُ الإسلاميون؟ ما هي أهدافهم؟ ما هي الشروط المنهاجية ليتربَّى سِربُهم على الإيمان؟
ماذا يريدُ الإسلاميون؟ ما هي أهدافهم؟ ما هي الشروط المنهاجية ليتربَّى سِربُهم على الإيمان؟
من بين أهم ما يثير الانتباه في كتاب الأستاذ عبد السلام ياسين "الإسلام بين الدولة والدولة" استدعاؤه لسوابقَ تاريخيَّة، جمعت رجال الدولة برجال الدعوة على أهداف إصلاحية موحّدة، ومن ثم دعوتُه لإحياء هذه التجربة، مُقترحا نفسَه ليقودها رفقة الملك الحسن الثاني. وليس صحيحا ما طرحه بعض الباحثين  من كون الأستاذ ياسين قدّم "الزاوية" ـ مؤسسة ورجالا ـ مُمثلة للدعوة لتقوم بهذه الوظيفة صحبة السلطان؛ لأن ياسين كان قد حسم أمره وقطع بأن الزاويةَ مؤسسة تتحكّم في اشتغالها آليات تعجز معها أن تقوم بهذه الوظيفة التغييرية العظيمة، فغادرها، ولم تكن "رسالة الإرشاد" التي بعث بها بعد ذلك بسنة إلى ابن شيخه، إلا إبراء للذمة أمام الله تعالى وأمام التاريخ.

إلى حدود هذه اللحظة، كان الأستاذ ياسين مشهورا لدى النخب المغربية باعتباره الرجل الذي ضيّع مستقبلَه باختيارات غير مفهومة، ولكنه ـ بعد أن أشرف على السادسة والأربعين من عمره ـ، سيغدو اسمه على كلّ لسان باعتباره "المُغامر" الذي بعث برسالة، أمرة ناهية، إلى ملك مجروح؛ ضاع الرّجل قيل!

تلك هي الرسالة الشهيرة "الإسلام أو الطوفان" التي وَجّهَها عام 1974م ـ بمنطق النصيحةِ وخلفيتِها ـ إلى ملك المغرب الحسن الثاني، الذي كان قد خرج لتوّه من تجربتين انقلابيتين كادتا تُطيحان به وبحكمه، مما جعله يُدشِّن دوّامة من العنف الانتقامي تُجاه خصومِه من السياسيين والعسكريين على حدّ سواء، كان أوّل ما فعله الأستاذ ياسين أن تخلّى عن الخطاب الصوفي وسكونيتِه، دون أن يتنكّر لفضل القوم من أهل التصوف، وكيف وقد اعترف في المقدمة أنه وجد الحق معهم. أعلن "خروجه" عنهم، وأحصى بعض مؤاخذاته عليهم، التي سيحذفها في طبعة موالية، بعد سنوات؛ لأنها كانت تهدف أساسا إلى إخلاء ذمّة الزاوية من مضمون الرسالة، حتى لا تؤخذَ بـ"جريرته". 

قال للملك قولا قويا لم يسبق أن سمعَه من أحد بشكل مباشر، ولم يتوقع أن "يتجرّأ" أن يصدر عن أحد من "رعاياه"، خاصة وقد توشّح القول بصبغة دينية عمل الملك منذ بداية حكمه على الاستئثار بها، وجعلها أساسا متينا لشرعية سلطته، من أجل ذلك كان ردُّه عنيفا؛ فقد أرسل الأستاذَ إلى مستشفى الأمراض الصدرية ثم العقلية، تعامل معه وكأن به مسٌّ من الجنون. وهناك سيبدأ الأستاذ في تأليف كتابه "شعب الإيمان"، الذي سيكون آخر ما سيصدر له من مؤلفات عام 2017م، أي بعد خمسِ سنوات من وفاته.

لم يكن الأستاذ ياسين ينشر بالتتابع كلّما انتهى من تأليف أحد كتبه؛ لأن أمورا كثيرة كانت تُحدّد الكتاب المناسب الذي ينبغي إخراجه للناس، خاصة وقد غدا ـ بعد ذلك بسنوات قليلة ـ صاحب مدرسة ومَصحوبا. من أجل ذلك، على الذي يبحثُ في التطور الفكري للأستاذ ياسين أن يسلك طريق سنوات التأليف، وليس أعوامَ النشر والإصدار.

ينطلق مشروع الأستاذ ياسين التفسيري ـ التغييري، أولا وقبل كلّ شيء، من التَّموقُفِ الحَدّي من تاريخنا، من الانحراف الخطر الذي وقع، يوم انكسر التاريخ الإسلامي.
وفي الرسالة نقدٌ حادٌّ للعلماء الذين استقالوا من أداء وظيفتهم النقدية: أمرا ونهيا، حتى غدت فئةٌ عريضةٌ منهم تقفُ بباب السلطان تنتظر العطاءَ وقد أتقنوا "التعلم" متى السكوت واجب، ومتى الكلام أوجب!

في الرسالة أيضا تقييم واقتراحات، كلُّها تصبّ في اتجاه النهوض الأخلاقي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي بالبلد، بلُغة قويّة تتماوج بين اللّين والتّسلّل لعواطف الملك، وبين تنبيهِه وهزّه وتقريعِه، وكلّ ذلك منسجمٌ في نسقِ خطابِ الرِّفق النبوي، كما يفهم الأستاذ ياسين خطاب الرفق النبوي.

الآن أُعْلِنَ عن ميلاد ياسين السياسي؛ كان ميلادا انفجاريا ومُكلّفا، ولن تنسَ السلطة جرأتَه هذه، وستتعامل معه ـ إلى أن يموت ـ، على أساس أنه رجل خطير وجبَتْ مراقبته ومحاصرته: شخصا وفكرا.

في سنة 1982م سيعود الأستاذ ياسين، رغم قساوة ما عناهُ جرّاء "نصيحته"، إلى وضع "الخطاب السياسي والديني" للملك تحت مِشْرَحَةِ النقد، هذه المرّة كرَدّ على "رسالة القرن" الملكية، ونشرَه في جريدتِه "الصبح" تحت عنوان "قولٌ وفعل"، تعرّضَ فيه "لنقد شامل كامل للإسلام الرسمي"، كما عبّر بنفسه، فأوقفت الجريدة وأودع صاحبُها السجن.

ولأن الأستاذ ياسين مُستيقنٌ أنَّ مناطَ صلاح المجتمع أو فسادِه مُرتبط بشكل كبير جدا بسلوك السلطة السياسية، برأسها ومسؤولها الأول أساسا، فقد تابع مسلكَه النقدي هذا بتوجيه رسالة ثالثة، عام 2000م، هذه المرّة للملك الجديد محمد السادس، الذي جلس لتوّه على "عرش أسلافه" بطموحات عريضة، ظهر فيما بعد أنها كانت مُجرّدَ منظومة شعرية تقليدية، بعدما طارت عنها كلّ الصور والبريق الإعلامي، فانكشفَ النثر عاريا هزيلا. يومها عَلَتْ جُلّ الأصوات المغربية المعروفة، إن لم نقل كلّها: فرادى ومؤسسات للتنديد بمَنْ لا يرى سوى السَّواد، وبمن أراد أن يُفسدَ على المغاربة فرحتهم بـ "لحظة تاريخيَّة" في مسار المغرب المعاصر. هذه المرّة لم يسجنوه؛ لأنه كان مُحاصرا بشكل إجباري في بيته منذ عشر سنوات، بل أطلقوا سراحه في خطوة أريد لها أن تُسوّق لما عرف حينها بـ" العهد الجديد"، الذي انتظمت النُّخب صفا واحدا بجميع خلفياتها وأنواعها وألوانها ـ إلا ما نذر ـ، تتغنّى بصحّة بدايته التي ـ لاشك ـ ستشرق نهايته.

اليوم، يُنظر إلى "مذكرة إلى من يهمه الأمر" باعتبارها الوثيقة التاريخية التي كانت سبّاقة لفضح الزّيف السياسي، الذي أراد من خلاله الحاكمون أن يُجددوا من خلاله صورتَهم أمام شعب منهك، وقد غرّته البهرجة بالفعل؛ لأنها كانت مُتقنةَ الإخراج.

كتب الأستاذ ياسين مذكرته بالفرنسية، ثم ترجمها بنفسه إلى العربية، إيقانا منه أنَّ النُّخبَ التي يتوجه إليها بالخطاب تَحتقر كل ما يُكتب بالعربية. وفيها ومن خلالها حدّد موقفَه من "العهد الجديد" وموقعَه وموقع جماعته، وأكد ـ أخلاقيا ـ تشبُّثه بـ"المبدأ" في مواجهة "الانبطاح السياسي"، الذي يتّخذ من شعار "الواقعية السياسية" شعارا له. وفيها أيضا أعاد طرح "سؤال المشروعية" على الملك وعلى المؤسسة الملكية، وذلك بدعوتِه للقطع مع "البيعةِ المخزنية" وتقاليدِها، وإقامَةِ نظام ديمقراطيّ حقيقي، "فالقاعدة الديمقراطية المتمثلة في حق الشعب في اختيار حاكمِه بكلِّ حرية، هي المخرج الوحيد من ظُلمة الحُكم المطلق". 

وبعد الانتهاء من تأليف كتاب "المنهاج النبوي: تربية وتنظيما وزحفا"،عام1981م، الذي تَعدّه جماعة العدل والإحسان، التنظيم الذي أسّسه الأستاذ ياسين بداية ثمانينيات القرن العشرين، ما يمكن تسميته بـ"البيان الأيديولوجي" لها، وكان قد نشرَه في أربعة أعداد من مجلته "الجماعة". في وقت لاحق ستتخلَّى الجماعة عن العمل بما ورد في فصله الرابع المعنون بـ "التنظيم"؛ لأنه أصبح مُتجاوزا. بعد ذلك، شرع الأستاذ عام 1983م في تدبيج كتابه الكبير "دولة القرآن"، الذي سينشرُه فيما بعد مُنجّما في سبعةِ كُتب، بين عامي 1995 و2011م، هي: في الاقتصاد: البواعث الإيمانية والضوابط الشرعية، والخلافة والملك، رجال القومة والإصلاح، ومقدمات لمستقبل الإسلام، وإمامة الأمة، والقرآن والنبوة، وجماعة المسلمين ورابطتُها.

كما أنه كتب عام 1985م، وهو في السجن، كتابَ "اقتحام العقبة"، ثم نشرَه مُجزّءا أيضا في ثلاثة فصول هي: مقدمات في المنهاج، والإسلام والقومية العلمانية، والإسلام وتحدي الماركسية اللينينية.

قال عبد السلام ياسين للملك الحسن الثاني قولا قويا لم يسبق أن سمعَه من أحد بشكل مباشر، ولم يتوقع أن "يتجرّأ" أن يصدر عن أحد من "رعاياه"، خاصة وقد توشّح القول بصبغة دينية عمل الملك منذ بداية حكمه على الاستئثار بها، وجعلها أساسا متينا لشرعية سلطته.
كان الأستاذ ياسين يعتبر القومية العلمانية في الشرق العربي، والماركسية في المغرب،  تحدّيان حقيقيان للفكر والعمل الحركي الإسلاميين، ينبغي عرض تصوراتهما، ثم إبراز "القول الإسلامي" فيهما:

الأولى، ونقصد القومية العلمانية، لأنَّ جزءا كبيرا من خطابها يتدثَّرُ بالدين وبالتراث الإسلامي، و"يتجسّس" روادُها على المخزون النَّفسيّ للجماهير الإسلامية استغلالا لما يَزْخَرُ به من قوة اقتحامية. في "الإسلام والقومية العلمانية" عرض "لشيء من تاريخ الإيديولوجية القومية، التي نبعت في أرض غير أرضنا فاستوردها المثقفون المغربون من ذرارينا ليركبوا متنها في كَرّاتِهم التي تحمل شعارات الإلحاد المفلسف تارة، والردة والزندقة مرة والإلحاد العلمي أحيانا، والأصالة التراثية أحيانا أخرى".

والثانية، أي الماركسية، بما تمنحه لمسألة "العدل الاجتماعي" من أولوية قُصوى، مما يُغرّرُ بالكثير من أبناء المسلمين لتكون مَدخلا من مداخل الخروج من الدِّين، فـ"هذه الأرضُ السياسيةُ النفسيةُ الفكريةُ الضّاربةُ في أعماق الفطرةِ الإنسانية، المُتجليَة في الغضب على الظلم، ذلك الغضب الذي يُزيغُ القلوبَ ويَقْلِبُ موازينَ العقول، كما يزيغها الاستكبار الطبقي أصل البلاء".

 لقد اعتقد الأستاذ ياسين أنه مَعْنِيٌّ بالاستجابة لهذا التّحدي المزدوج ومواجهتِه، "فإنْ عجزَ الإسلاميون ـ لا قدّر الله ـ عن عرض برنامج العدل الإسلامي وتنفيذِه، فيوشِكُ أن يُشْعِلَ غيرُهم فوانيسَ النفاق".

تحدي آخر انبرى الأستاذُ ياسين لتفصيل القول فيه، وهو تحدي سوء الفهمِ التاريخيِّ الكبيرِ الذي حصل حول ما سَمّاه الخطاب النبوي "إحسانا"، وأطلقَ عليه التاريخُ "تصوُّفا"، وكان الثِّمارَ تأليفُه موسوعة تربويَّة في جزأين عام 1988م تحت عنوان "الإحسان"، عرضَ فيه نتَفا من تجربته التربويةِ الشخصية، مُتَخلّيا في أثناءَ ذلك عن استعمال المعجم المتداول بين أهل التصوف لصالح الخطاب القرآني النبوي، وأكثرَ من إيرادِ نصوصٍ ـ وبعضُها طويل ـ لأئمة غير مُختلف حولَهم، مثل ابن تيمية وابن القيم والجيلاني والرفاعي، ولم يدخل مع أحد في جدال، بل كان هدفُه يتلخّصُ في أمرين اثنين: الأول أن يعَرْضِ بشكل هادئ لقضايا التصوف النظرية والعملية المختلفة، مثل: المصطلح الصوفي، وصحبة الشيخ، والخلاف بين الحنابلة والصوفية، والعلم اللّدني، والسلوك، والكرامات.. وغير ذلك كثير.

وثانيا، "أن أدُلَّ على الله وعلى الطريق إليه".  بمعنى أنه كان يُقدّم نفسه مُربيا مَصحوبا دالا على الله،. وقد رُوي عنه أنه قال بعد أن انتهى من تأليفه: "وكأني ما خُلقتُ إلا لأكتبَ كتابَ الإحسان".

بعد ذلك بسنة، أي في عام 1989م سيكتبُ وينشرُ أحد أهمّ كتبه، رغم صغر حجمه، وهو الموسوم بـ"نظرات في الفقه والتاريخ"، وقد اختار كلمة "نظرات" ليؤشّر على أن مضمونَه عبارة عن تأملات أرادها تجديدية في مبحثين مُهمَّين، يثيران منذ القِدَمِ خصومات وأحقادا.

ينطلق مشروع الأستاذ ياسين التفسيري ـ التغييري، أولا وقبل كلّ شيء، من التَّموقُفِ الحَدّي من تاريخنا، من الانحراف الخطر الذي وقع، يوم انكسر التاريخ الإسلامي. فأزمتنا التاريخية ـ كما يؤكّد ـ انفجرت من هناك، يوم استولى "أُغَيْلِمَةُ" بني أمية على الحكم بالسيف، ثم انحنت هاماتُ العلماء بعد ذلك يُشرْعِنون لكل مُتغلّب بالسيف، حتى سمّوه أميرا للمؤمنين. واستمر النَّقض وما يزال، "سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم مُلكا عاضا وملكا جبريا، وسماها "المؤرخون" الرسميون خلافة، فانْطَلَتِ الكِذبةُ على الأجيال، وتسلينا ولا نزال بأمجاد هذه "الخلافة"، وقد كانت بالفعل شوكةَ الإسلام وحامية من العدوان الخارجي، لكن في ظلها زحفَ العُدوانُ الداخليُّ لما أُسْكِتَتِ الأصواتُ النّاهيةُ عن المنكر، واغْتيلَ الرأيُّ الحرُّ، وسُدَّ بابُ الاجتهاد، وفي ظلها وفي خفاء الصراعات تكوَّنَتِ المذاهبُ الدّسّاسةُ، وتمزَّقتِ الأمةُ سُنّة وشيعة، وتشتَّت العلمُ مُزعا مُتخصِّصة عاجزٌ فيها أصحاب التخصص عن النظرة الشاملة"، وهذا أصلُ الدّاء وعينُه وجوهرُه، وكلُّ توصيفٍ آخرَ إنّما هو تهرُّبٌ أو خوفٌ أو انبطاح.

هذا الشّرخُ هو الذي جرّ علينا وَيْلا آخر؛ ويَقصد به الأستاذُ انْفصالَ الدّعوةِ عن الدولة، ثم استتباعَها فيما بعد. وهو نفسُه الذي دفعَ شقّا من الأمّة لاعتزال الشأن العام، والاشتغال بالخَلاص الفرديِّ القُعوديّ، فسُمُّوا صوفية، وآخرون اهتمّوا بالحديث والفقه والأصول، والقلَّةُ منهم حين اقتربوا من السياسة فَـلِـيُحذّروا الناسَ من "فتنة" الخروج على المتغلّب؛ فالأمنُ كانت دائما له الأولويةُ على حساب باقي المَطالب، مهما تَجبّر الحاكمُ وفسدَ وأفسدَ وضربَ أبشارَ الناس ونهبَ أموالهَم.

لا بد إذن من الحسمِ في الموقف من التاريخ، والإشارةِ بالاتِّهامِ الواضح لمَن كان سببا في التّحوّل والانحدار، ثم اتِّخاذِ موقف الرّافضِ المُعارضِ لأحفاد الأمويين، سارقي التاريخ، والمُـنَكّـلين بالإنسان وكرامته. لا جدوى من اللّفِ والدوران في الخطاب والممارسة؛ لأن ذلك يُنتج حركيّة ممسوخَة، وفي أحسن الأحوال يجعلُ الآخرين يخدعونك باسم الله، بينما اليقظُ النّبيه لا يُرْكبُ أبدا.

كلُّ اجتهاد سياسيّ ـ قديم أو معاصر مهما كان مصدره ـ يتمسّح بالنصوص، ويدعو لشَرْعَنَةِ التَّغَلُّبِ والاستبداد مرفوض، والكُتب التي وُضعت للتأقلم مع الوضع المُستجدّ، إنما موضعُها خانةُ تطور الفكر السياسي الإسلامي، وليس مصادر التأصيل.
الاستبدادُ هو وحده الذي جرّ على الأمة الويلات الداخلية، حتى أضعف مُقوِّماتها، فسَهَّل على العدو الخارجي غزوَها، ثم تحالفَ معه لضمان بقائه واستمرار مصالحه.

وبهذا المعنى، كلُّ اجتهادٍ سياسيّ ـ قديم أو معاصر مهما كان مصدره ـ يتمسّح بالنصوص، ويدعو لشَرْعَنَةِ التَّغَلُّبِ والاستبداد مرفوض، والكُتب التي وُضعت للتأقلم مع الوضع المُستجدّ، إنما موضعُها خانةُ تطور الفكر السياسي الإسلامي وليس مصادر التأصيل.

من أجل ذلك، ليس شَرْطا أن تَقْبَلَ بكلِّ "الألاعيب" النظريةِ للاستبداد حتى تُمارسَ السياسةَ، فأنْ تستمرَّ في المعارضة اليقظة الواعية خيرٌ وأبقى من أن تَرِدَ مواردَ الهلاك السياسيِّ، التي تَصنع منك "كائنا" مُثيرا للشفقة، وفي بعض الأحيان مَعْرضا حقيقيا للاستهزاء.

في الكتاب حديثٌ عن ضرورة "التفكير المنهاجي" الذي يقوم مقامَ الأيديولوجية. فيه احتفاء بمكاسب الأسلاف من العلماء، دون أن تُشكِّلَ اجتهاداتُهم أُنْشوطَةَ تقليد في أعناقنا. فيه إلحاح كبير على إعطاء عامل الإيمان بالغيب ما يستحقُّ من مكانة في أثناءَ التفسير وإرادة التغيير. فيه تأكيدٌ وإصرار على العودة إلى أعالي التاريخ، والابتعاد عن التفكير بمنطق الفتنة وتحت ضغطِها. في الكتاب أيضا دعوة إلى تجديد النظر في مقولات الفكر المقاصدي كما أثّله علماؤنا الأقدمون، ليتناسبَ مع عالمِنا وواقعنا، "فجديرٌ بنا أن نُعبّر عن مقاصد الشريعة في صيغ مَطلبيّة لا حِفاظيّة" . وفي الكتاب أيضا غضبٌ شديد من غالبية خطاب الإسلاميين المعاصرين، الذين جرَّتهم القضايا السياسية والاجتماعية الاقتصادية المشتركة مع باقي الأدبيات الأخرى، ودفعت بهم إلى السكوت عن "أمر الآخرة" والخجلِ من الحديث في "الغيب"وعن الغيب، حتى يَحْظوا بمصداقية عند الأقران.

بعد عام من هذه النظرات، سيسهر الأستاذ ياسين على تأليف كتاب تأسيسيّ آخر تحت عنوان "العدل: الإسلاميون والحكم"، وسيطرحُ على طول صفحاتِه السّتِّ مائة ثلاثةَ أسئلة كبرى في ثلاثةِ فصول:

ـ سؤال الإرادة: ماذا يريدُ الإسلاميون؟ ما هي أهدافهم؟ ما هي الشروط المنهاجية ليتربَّى سِربُهم على الإيمان؟ ما المنطق الذي يحكم تصوراتِهم وحركيَّتَهم؟ ما البناء القلبيّ الإيمانيّ الذي يطمحون لتشكيله؟

ـ سؤال العقبة: العالمُ في مَخاض أليم عَسير؛ عالمٌ هو عقبةٌ ذاتُ أبعاد تضغطُ وتتمنَّعُ وتقاوم وتدحر. في الفصل وصفٌ لمن يزدادُ عوزا ولمن يتضاعف ثراءً وقوة، وصفٌ للجنون الإعلامي والتواصلي، وصفٌ لبيئة مُهدَّدة بالخراب، وصفٌ لأمراضِ حضارة مُنْهَكَة؟

ـ سؤال الاقتحام: ما العمل أمام هذه التحديات؟ وكيف هي استجابة القوّةِ الاقتِحاميَّةِ الإسلامية لها؟

*كاتب من المغرب

اقرأ أيضا: مسيرة مؤسس "العدل والإحسان" المغربية من التصوف إلى الإسلام الثوري
التعليقات (0)