تقارير

"برك سليمان".. عبقرية هندسة الصخر والمستودع المائي للقدس

برك سليمان زودت مدينتي القدس وبيت لحم بمياه الشرب على مدار قرون طويلة قبل أن تجف
برك سليمان زودت مدينتي القدس وبيت لحم بمياه الشرب على مدار قرون طويلة قبل أن تجف
بقيت "برك سليمان" التي تقع جنوبي مدينة بيت لحم في الضفة الغربية المحتلة وقبل ميلاد المسيح عليه السلام تزود مدينتي القدس وبيت لحم بمياه الشرب، على مدار قرون طويلة من الزمن.

لكن للأسف هذه البرك جفت أوائل عهد الاحتلال البريطاني لفلسطين، وتحديدا في العام 1919م، ولم يعد منها سوى اسمها، ولكنها أصبحت واحدة من أهم المواقع التاريخية السياحية في فلسطين.

وتحولت "برك سليمان" إلى متنزه لسكان مدينة بيت لحم، ومقصداً لراغبي الاستجمام من كل أنحاء الضفة الغربية، وذلك لما تتمتع به المنطقة من مناظر طبيعية خلابة، كالأحراش الزراعية والينابيع.

وأوضحت الدكتورة إيمان الطيطي، مدير دائرة التراث الثقافي في وزارة السياحة والآثار في بيت لحم، أن برك سليمان التي أنشئت في العهد الروماني تتكون من: البرك، قنوات المياه، القلعة الأثرية (قلعة مراد)، وعيون الماء، مشددة على أهميتها بشكل عام وبالنسبة لمدينتي القدس وبيت لحم.


             إيمان الطيطي، مدير دائرة التراث الثقافي في وزارة السياحة والآثار في بيت لحم

وقالت الطيطي لـ "عربي21": "بنيت برك سليمان بهدف تجميع المياه من الينابيع المجاورة ومياه الشتاء المنحدرة من السفوح المحيطة، ونقلها إلى مدينة القدس، والسبب في ذلك أن الطبيعة الجيولوجية لصخور القدس غير صالحة لتخزين المياه، ما دفع القائمين على شؤون المدينة إلى البحث عن بديل يضمن توفير كميات كافية من المياه لتغطية حاجة المدينة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار تزايد عدد السكان بشكل مضطرب بسبب الأهمية الدينية للمدينة في العصور المختلفة".

وأضافت: "فمن هذا المنطلق وجد البديل في أرطاس والمنطقة المحيطة بها، وشكلت هذه البرك المصدر الرئيسي للمياه لمناطق القدس وبيت لحم والقرى المحيطة بها".

وأوضحت أن سبب بناء هذه البرك يرجع إلى وجود أربع عيون طبيعية للماء في هذه المنطقة، وهي أقرب موارد مائية اعتمدت عليها مدينة القدس في الأزمنة القديمة، حيث كانت تضخ لها المياه مستخدمة قانون الجاذبية التي لم تعرف إلا بعد سنوات كثيرة أمام عبقرية من أنشأوها.

واعتبرت الطيطي أن هذه البرك كانت المستودع المائي، لمدينة القدس منذ أكثر من ألفي عام، وحتى عام 1948م، حيث أدى احتلال القوات الإسرائيلية للجزء الغربي من المدينة المقدسة، إلى وضع نهاية لمشروع تزويد القدس بالمياه الذي بدأ رومانيا، ثم تم الحفاظ عليه عربيا وإسلاميا على مدار سنوات طويلة وطمسه إسرائيليا.

وأشارت إلى أن شبكة من قنوات الأنظمة المائية بنيت ما بين تلال الخليل والقدس للحفاظ على انتظام تزويد مدينتي القدس وبيت لحم بالماء، منوهة إلى أن هذه القنوات تعتبر أحد رموز هندسة الري في العالم القديم، فتم إنشاء الأقنية.



وأكدت أنه تم بناء "قلعة مراد" لتأمين الحماية لقوافل الحجاج والمسافرين على الطريق الجبلي التاريخي والتي كانت ومازالت تربط بين القدس والخليل من اللصوص وقطاع الطرق، وللحفاظ على قنوات المياه بين العروب وبرك سليمان، بالإضافة إلى حماية البرك نفسها وعيون أرطاس التي كانت تزود القدس بالمياه.

وأشارت إلى أن القلعة عرفت باسم قلعة مراد نسبة إلى السلطان العثماني مراد الرابع، بينما يشير النقش الموجود على مدخلها إلى أن بانيها هو السلطان عثمان الثاني في 1617م، وسبق السلطان مراد في الحكم.

وحول دور وزارة السياحة والآثار الفلسطينية في الحفاظ على برك سليمان، قالت المسؤولة الفلسطينية: "موقع برك سليمان محمي بشكل كامل وذلك وفقا لقانون الاثار الجديد المعمول به 2018م، وأيضا وفق قانون الآثار القديم، وهنا يستدعي أن يتعاون المجتمع الدولي لحماية الموقع وملاحقة من يقوم بسرقته والاتجار به وتهريبه وتدميره، والعمل مع الهيئات المحلية لمنع أي تجاوزات أو مخالفات في الأبنية بالإضافة إلى وضع مخطط للمنطقة بشكل عام يتناسب مع أهمية المنطقة".

وتطرقت الى ما أسمته الحماية الأمنية، مؤكدة أنها ترتكز على ثلاثة مستويات: دولي، وإقليمي، ومحلي، قائلة: "إن التعدي على التراث يحدث وبشكل يومي، والحماية الأمنية لموقع برك سليمان تتم من خلال مفتشي الآثار في وزارة السياحة والآثار والشرطة".

وأضافت: "بتاريخ 28/2/2017م تم تشكيل لجنه بقرار مجلس الوزراء لدراسة الاحتياجات الخاصة ببرك سليمان.

وأوضحت الطيطي أن برك سليمان أصبحت في الوقت الحالي واحدة من أهم المواقع التاريخية السياحية في فلسطين، متنزها لسكان مدينة بيت لحم، ومقصداً لراغبي الاستجمام من كل أنحاء الضفة الغربية، وذلك لما تتمتع به المنطقة من مناظر طبيعية خلابة، كالأحراش الزراعية والينابيع.

وأشارت إلى أنه تم كذلك إعادة هيكلة القناة كمعلم أثري رغم انتفاء وضيفتها التقليدية بالتطور التقني الحديث.

وأكدت أنه في عام 2013م تم افتتاح متحف يحتل ربع مساحة قلعة مراد وجزء اأضا معروض بساحة القلعة، ويحتوي المتحف على 2705 قطعة أثرية وتراثية، إضافة إلى افتتاح مطعم بالجزء الشرقي من قلعة مراد.

وأشارت إلى أنه تمت حفريات أثرية تحت إشراف وزارة السياحة والآثار، حيث تم اكتشاف نفق مائي بالإضافة إلى بعض القنوات المخاطر التي تواجه الموقع.



واعتبرت المسؤولة الفلسطينية التواجد المتكرر للمستوطنين الصهاينة واقتحام البركة الثالثة أكثر من مرة والسباحة فيها انتهاك لاتفاقية لاهاي لعام 1954م وهي اتفاقية لحماية الممتلكات الثقافية في حالة الحرب وهي أول اتفاق دولي شامل لحماية الممتلكات الثقافية في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية.

وأشارت إلى التسارع في توسع مستوطنة إفرات والتي تقع بالقرب من الموقع، قطع مصادر المياه الينابيع من قبل المستوطنين من الناحية الجنوبية للبرك مما أدى إلى جفاف البركة التحتا وإلحاق أضرار وانهيارات بجدرانها.

ومن جهته أكد الدكتور أنطون خليلية، المدير التنفيذي لجمعية "طبيعة فلسطين" على الأهمية البيئية لبرك سليمان، مستعرضا اهم جوانبها البيئية تاريخيا.


                             أنطون خليلية، المدير التنفيذي لجمعية "طبيعة فلسطين"

وأشار إلى أن برك سليمان تقع جنوب مدينة بيت لحم وهي: ثلاث مجمعات مائية كبيرة، ذات شكل مستطيل أو شبه منحرف، تبعد إحداها عن الأخرى من 42 إلى 49 مترًا.

وأوضح خليلية لـ "عربي21" أن طول البركة الأولى يبلغ 116 مترًا، وعرضها في قاعها 71 مترًا وفي أعلاها 70 مترًا، وعمقها ثمانية أمتار، مشيرا الى ان الجزء الأكبر منها نُحت في الصخر، وبُنِي الجزء الآخر.

وقال: "إن والبركة الثانية ينخفض مستواها ستةَ أمتارٍ عن الأولى، ويبلغ طولها 129 مترًا، وعرضُها الأعلى خمسون مترًا، ومن الأسفل ستة وسبعون مترًا، وعمقُها اثنا عشر مترًا".

أما البركة الثالثة، فطولُها بحسب خليلية 177 مترًا، وينخفض سطحها عن الثانية ستة أمتار.

وأكد على أن البرك تتسع إلى حوالي 290,000 متر مربعٍ من الماء، ويوجد بالمنطقة المحاطة بهم ثلاث أعين ماء تصب بهذه البرك.

وقال خليلية: "اعتُبِرت مياه هذه المجاميعِ المائية في السابق من أهمِّ مصادر المياه لمدينتَي بيت لحم والقدس، ووفرت برك سليمان المياه لقناتين كانتا تنقلان المياه إلى القدس عبر بيت لحم منذ اواخر القرن الأول قبل الميلاد".

وأضاف: "تتغذى البرك مباشرة من أربعة ينابيع مختلفة أبرزها عين صالح والتي تقع على رأس وادي أرطاس، على بعد حوالي 200 متر إلى الشمال الغربي من البركة العلوية، وكذلك عين البرك، وعين عطاف وعين الفروجة التي تقع تحت البركة الأولى.

وأوضح أن نظام تجمع المياه الذي تم إنشاؤه بشكل تدريجي وتتكون من قناتين اساسيتين تغذيان البرك، وثلاثة قنوات أخرى، اثنتان منهما تحمل المياه شمالاً إلى القدس، وثالثة إلى شرق بيت لحم. يبلغ طول القنوات الخمس معًا حوالي 80 كيلومترًا.

وقال الخبير البيئي: "هذه البرك ولأنها كبيرة المساحة والحجم، وبسبب تواجد المياه على الأقل في أحد هذه البرك وعلى مدار العام، ونتيجة وجود بعض أنواع الأسماك والضفادع التي تعيش وتكاثر بها فإنها تجذب إليها العديد من أنواع الكائنات الحياة الأخرى مذ الطيور، وخاصه المائية منها وبعض أنواع الثدييات".

وأضاف: "تم تسجيل العديد من أنواع الطيور المقيمة، والمفرخة والمهاجرة في هذه البرك والمنطقة المحيطة بها، ومن ضمنها طائر الغطاس الصغير الذي يفرخ في مياه هذه البرك ويتغذى على الطحلب، والنباتات المائية، والأسماك الصغيرة التي تعيش بها.

وقال المرشد السياحي محمد سواعد: "إن برك سليمان هي برك أنشأت في زمن الرومان، وهنالك عدة روايات في من أنشأها، وهناك رواية تقول ان هيرودس الملك هو من أنشأها".


                                                   محمد سواعد.. مرشد سياحي

وأضاف سواعد لـ "عربي21" أن "سبب إنشاء هذه البرك هو كثرة عدد الزوار لهذه المدينة المقدسة أو الحجاج في ذلك الزمان وتم جلب المياه من عيون البيار جنوب بيت لحم وعيون العروب قرب الخليل".

وأوضح أنه تم دراسة المنطقة بشكل هندسي عميق جدا بحيث انه حفرت القنوات بشكل يتناسب مع الارتفاع بين المدينة وبين نبع المياه، وتم جلب او ضخ المياه إلى برك سليمان التي كانت عبارة عن بركتين في الاصل، وفي زمن السلطان سليمان القانوني أنشأت البركة الثالثة ومن هنالك تم مد المياه إلى مدينة القدس وإلى بيت لحم وإلى قصر الملك رودس.

وشدد سواعد على أهمية هذا المكان، مؤكدا أنه معلم تاريخي هام جدا في تاريخ فلسطين ويجب الحفاظ عليه ورعايته.

وتطرق المرشد السياحي الى المشاكل والعقبات التي تواجههم عند زيارة هذا المكان والتي تتمثل في أن البرك باتت مغلقة ولا يمكن الدخول إليها، مؤكدا وجود سياج حديدي حولها وذلك بسبب بعض حوادث الغرق لأشخاص في هذا المكان وتم إغلاقها بالكامل، عدا عن الإجراءات البيروقراطية والمضايقات من قبل المستوطنين والسلطات الإسرائيلية التي تحاول فرض السيطرة على هذا المكان بشكل كامل.
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع